هو كتاب صدر عن مركز دراسات الوحدة العربية، تحت عنوان: مفهوم الأحزاب الديمقراطية وواقع الأحزاب في البلدان العربية. ” بين دفتيه أبحاث ومناقشات ومداخلات وتعقيبات ” تليت في اللقاء السنوي العشرين لمشروع دراسات الديمقراطية في البلدان العربية
كتب الأبحاث كل من عمرو الشوبكي عن الأحزاب المصرية وعبد الرزاق التكريتي عن الأحزاب الفلسطينية وعبد الناصر جابي عن الأحزاب الجزائرية وعبد الله الفقيه عن اليمن وبوحنية قوي عن الجزائر ومحمد منار عن المغرب ، وشارك آخرون في أبحاث عامة وفي تعقيبات ومناقشات ، فضلا عن مساهمة لرغيد الصلح في كلمة الافتتاح ولكل من علي خليفة الكواري وعاطف السعداوي اللذين أشرفا على تنسيق أعمال المؤتمر وتحرير نصوصه وشاركا في أبحاثه.
أهمية الكتاب تكمن في كونه صدر في عام الربيع العربي الذي شهد أول ثورة نهضوية من أجل الدخول في رحاب العصر وحضارته الحديثة ، الحضارة الرأسمالية وقيمها السياسية وعلى رأسها الديمقراطية . ومع أن الديمقراطية نوع من التسوية أو المساومة بين العمل ورأس المال ، على رأي سمير أمين ، إلا أنها الوحيدة التي وضعت حدا لاستبداد القرون الوسطى وما قبلها وأطلقت حقوق الفرد التي نص عليها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ونادت بها شرعته.
ليست المرة الأولى التي تطرح فيها هذه المسألة بأقلام كتاب ومفكرين وسياسيين في العالم العربي. فلقد سبق أن وضعت الديمقراطية على جدول عمل النهضة العربية في مرحلة الاستقلال ، لكن المرحلة القومية قضت على بذورها وشطبتها من الجدول ؛ ثم تجددت المطالبة بها بعد أن أحكمت الحركة القومية سيطرتها السياسية على دول المنطقة ؛ غير أن الكلام الآن عنها له نكهة أخرى ، بعد أن صار مباحا ومحميا من ثورات الربيع العربي .
الإشكالية العامة طرحها عاطف السعداوي في بحث له بعنوان ” أهمية وإشكالية بناء أحزاب ديمقراطية في دول غير ديمقراطية” ، يستند ، في طرحها إلى الكتابات الأولى عن الديمقراطية ، ومنها النص الشهير الذي وضعه برهان غليون عام 1978 ، والذي صار مرجعا أساسيا في كل كلام عن الديمقراطية في الوطن العربي ، وقد أخذ عنه قوله ” …إنه لا يمكن أن نحلم بنشوء أحزاب قوية ديمقراطية في نظام عام يقوم على التعسف والقهر وانعدام الحرية” . وخلال عرضه عناصر الإشكالية، يرى السعداوي ، أن للعالم العربي خصوصية ” ليست في الثقافة أو في الدين أو الإرث التاريخي أو العادات أو التقاليد …” بل هي التي ” منبعها النظم الحاكمة التي احترفت القدرة على البقاء والتكيف مع كافة المتغيرات ، وابتكرت كل وسيلة ممكنة لقطع الطريق أمام أية محاولات أو جهود ديمقراطية” . وقد عقب المصري عبد الفتاح ماضي على هذا البحث بقوله إن الأحزاب العربي لم تظهر كمؤسسات تمثل تيارات سياسية معينة أو تكتلات تتنافس على المقاعد النيابية ، وإنما نشأت ، كغيرها من المؤسسات، نشأة مختلفة ليس لها أدنى علاقة بالتمثيل ولا بالديمقراطية.
لتلخيص أعمال اللقاء وتقديمه في هذا الكتاب استعار السعداوي من شريكه علي خليفة الكواري العنوان الذي وضعه لبحثه ولمقدمة الكتاب: الديمقراطية داخل الأحزاب ضرورة عاجلة. نوافقه على أنها ضرورة ، وهذا صحيح جدا وسليم جدا ، لكن لماذا هي عاجلة ، ألكي تنقذ الأحزاب السياسية الحالية نفسها مما هي فيه ؟ ربما يكون الجواب على ذلك في القول : لا يصلح العطار ما أفسد الدهر . ذلك أن المرحلة الجديدة قد تكون في الحاجة العاجلة إلى أحزاب من طراز جديد ، فلا التصنيف يسار ويمين صالح اليوم ولا تصنيف التقدمي والرجعي ، ولا الوطني والعميل ، الخ . إن الربيع العربي يشكل في حد ذاته دعوة لا تحمل أي التباس لتأسيس أحزاب جديدة شعارها الأساسي الديمقراطية التي تتجسد بقيام الدولة المدنية وتداول السلطة والفصل بين السلطات ، الخ …، بعد أن ابتذلت ،على جمالها ،شعارات ” رنانة ” قديمة مثل : الاشتراكية هي الحل ، الإسلام هو الحل ، الوحدة العربية هي الحل ، فضلا عن شعار تحرير فلسطين .
في تحديده مواصفات الديمقراطية داخل الحزب، يعدد السعداوي ، في متن الكتاب ، وفي بحث مستقل عن عمله في التحرير والتنسيق ، المعايير الضرورية ،بدءا من المشاركة في صنع القرار إلى عدم احتكار السلطة وتجديد النخبة وضمان آليات التنافس واحترام حق الاختلاف والتعددية ، الخ .
ثم يعرض الكتاب لتجارب الأحزاب في كل من مصر وفلسطين والجزائر واليمن والجزائر والمغرب ، من خلال أبحاث تقدم بها عدد من الباحثين ، وتعقيبات ومناقشات تناولت تلك الأبحاث. في مصر دلت تجربة الأحزاب( الوطني ، الوفد ، التجمع ، الجبهة الديمقراطية ) على خلوها من أية ممارسة ديمقراطية ، وعلى معاناتها جميعا من مشكلة اختلال العلاقة بين النخبة والأعضاء . المناقشات والتعقيبات أكدت على فشل التجارب الحزبية ، لا سيما بعد نجاح حركات الاحتجاج الاجتماعية في سحب البساط من تحت أقدام الأحزاب ، على أن اللافت في بحث الشوبكي عن الأحزاب المصرية هو تجاهله الإخوان المسلمين الذين يرى أنهم ” ليسوا بحزب سياسي ، رغم أنهم يمارسون السياسة …”
في فلسطين هنالك عوامل أثرت في تشكل الحركات السياسية منها التدخل الخارجي ووضع الاحتلال وعدم الفصل بين السلطات في السلطة الفلسطينية ، والصراع بين فتح وحماس ، الخ . غير أن البحث في شأن الأحزاب الفلسلطينية ، الذي شارك فيه عبد الرزاق التكريتي ونمر سلطاني من جامعة أكسفورد ، لا يستقيم كسائر البحوث عن أحزاب البلدان العربية الأخرى ، لأن النضال ضد الاحتلال يجعل الديمقراطية في حركات التحرر ذات الطابع العسكري أمرا مؤجلا ، والحديث عنها ضربا من التخيل.
يخلص عبد الناصر جابي في بحثه عن الأحزاب الجزائرية إلى أنها تعاني أزمات كبيرة في ما يتعلق بالممارسة الديمقراطية الداخلية وهو ما ” يجعلنا غير متفائلين في إمكانية مساهمة الأحزاب في إخراج النظام السياسي الجزائري من أزماته المتعددة التي تتسبب بدورها في تعميق أزمة الحزب”. يشيربوحنية قوي ،عميد كلية الحقوق في جامعة قاصدي في الجزائر، إلى عدم وضوح معنى الحزب في التجربة الجزائرية وإلى ثقافة الانشقاق داخل الأحزاب بسبب غياب الديمقراطية . ثم أكد المناقشون على أن ما يقال عن التجربة الحزبية الجزائرية يصح على سواها في كل بلدان العالم العربي.
عن تجربة اليمن تحدث الباحث الدكتور عبد الله خليفة متناولا تجربة الأحزاب اليمنية الرئيسية ( المؤتمر الشعبي العام،التجمع اليمني للإصلاح ، الحزب الاشتراكي) ، ممهدا بالكلام عن مفهوم الحزب الديمقراطي ، ثم بالكلام عن تجربة الحزب المسيحي الديقراطي الألماني كمثال على الأحزاب الديمقراطية، ورأى أن حزب المؤتمر هو الأكثر ديمقراطية من بين الأحزاب اليمنية الثلاثة ، تلاه حزب الإصلاح ثم حل أخيرا الحزب الاشتراكي. وكان التعقيب اللافت من جانب سمير العبدلي الأستاذ في جامعة صنعاء ، الذي رأى أن المقارنة بين الأحزاب الألمانية والأحزاب اليمنية غير عادلة نظرا للفوارق الكبيرة بين البيئة المدنية والحضرية في ألمانيا والبيئة القبلية البطريركية في اليمن.
الدكتور محمد منار رأى أن التجربة الحزبية المغربية محكومة بقانون الأحزاب المعتمد هناك ، الذي يعتبر ، رغم ” أهميته في بعض الجوانب ” قانونا على المقاس …وتأثيره الإيجابي محدود جدا ما لم يطرأ تغيير جوهري على الإطار السياسي والدستوري…”
بين دفتي الكتاب نصوص ونقاشات غنية تشير كلها إلى أن العالم العربي يعيش ذروة المخاض الديمقراطي هذه الأيام على مستوى السلطات الحاكمة كما على مستوى الأحزاب ، وليس الربيع العربي سوى مؤشرات أولية.
وفي رأينا أن من فضائل الربيع العربي الكبرى أنه قلب صفحة الاستبداد الرابض على صدر الأمة منذ قرون والذي تناوبت على ممارسته كل السلطات والأحزاب الحاكمة والمعارضة.
مقالات ذات صلة
“الشيعية السياسية” لمحمد علي مقلد، بين البحث والانطباع
النخب اللبنانية بعد سوريا
الاستبداد القومي