آذاريو لبنان هم الأكثر ارتباكا وهم ينتظرون نتائج الأحداث في سوريا. سقوط النظام يستتبع ، بالاستنتاج المنطقي، حصول شيء ما في لبنان . وإن فشلت أهداف الثورة ستنتعش قوى وتصاب أخرى بالخيبة. والارتباك ناجم من تعقد الأوضاع اللبنانية، إذ لم يستطع فريقا آذار، في البداية، أن يحسما موقفهما من الربيع العربي ، فظن فريق 14، للوهلة الأولى، أن نتائج الثورات ستكون وبالا عليه، وتمهل في إعلان تضامنه معها، وظن فريق 8 آذار أن الثورات تعبير عن نقمة الشعوب على السياسات القومية الممالئة لإسرائيل والغرب وعجل في التضامن معها، لكنها خيبت أمله فاتهمها بالعمالة وبتنفيذها أجندة أجنبية. عندما استتبت المشاعر والانفعالات، اكتشف الفريقان تسرعهما في إطلاق الأحكام، إذ وجدا أن الشعارات الديمقراطية المرفوعة في كل من تونس ومصر واليمن وسوريا، ولا سيما شعار ” لا لتوريث السلطة” لا تتطابق مع الحسابات المحلية، حيث تحتل القوى النافذة مواقعها إما بالوراثة إما بالتعيين، وكلاهما مرفوض في منطق الثوارت العربية، وبالتالي لا ينفع تأييد الثورات والتضامن معها والوقوف إلى جانبها أيا من القوى السبع ” العظمى” المسيطرة على طوائف البلد وأحزابه والقابضة على آليات المحاصصة فيه، كما لم يكن مقبولا ولا منطقيا الوقوف ضدها ، ولا سيما من جانب المدافعين عن الشعوب وتحررها ، وبصورة خاصة ممن يزعمون أن مبرر وجودهم يقوم اصلا على الوقوف ضد ظلم الأنظمة العربية واستبدادها بشعوبها. ولهذا نبهناهم في مقالة عنوانها : أيها المتضامنون ، هذه الثورات قامت ضدكم
أيا تكن نتائج الانتفاضة السورية ، سيجتمع متحاصصو لبنان في “دوحة ” جديدة للتوقيع على اتفاق يكرس إجماعهم على فضائل النظام اللبناني، ولاسيما ديمقراطيته التي طالما استظلوا فيئها وتحت خيمتها ناضلوا من أجل القضايا القومية الكبرى ، ودعموا شعب الجزائر ضد الاستعمار ، والشعب الفلسطيني ضد الصهيونية ، وتظاهروا دفاعا عن حريات الشعوب وعن السلم العالمي …وحين ناداهم المنادي ، شحذوا سلاحهم ونظموا حربا أهلية دامت عقودا ، ثم ما لبثوا أن تعاقدوا على تجديد نظام المحاصصة مرة تلو الأخرى ، كان آخرها حين بعثوا من الرماد، من خلال “اتفاق الدوحة ” قانون انتخابات قديم قدم أسباب الحرب وبواعثها الطائفية والقومية ذاتها ، ولن يألوا جهدا في تجديد البيعة لأنفسهم حكاما أبديين هم وأبناؤهم وورثتهم من بعدهم ، إلى يوم الدين.
إن سقط ، سيجتمع الآذاريون على حماية نظامهم من السقوط ، حرصا على لبنان “الرسالة”، التجربة الفريدة في الشرق، الساحة الأولى التي انطلق منها الربيع العربي في 14آذار، البلد العربي الوحيد الذي تمكن من تحرير أرضه بقوة “الشعب والجيش والمقاومة” ؛ وإن نجا ، سيكون إجماع على التعايش الإسلامي المسيحي وعلى تجنيب البلاد تبعات خضات المنطقة والصراعات الاقليمية والدولية، الخ…لكن ، بانتظار سقوطه أو نجاته، ستندلع معارك كلامية كثيرة ونزاعات حول الخروق السورية للسيادة اللبنانية وشبكات الهاتف الحزباللهية في أعالي جبال لبنان ، والمعتقلين اللبنانيين في السجون السورية ، وتمويل المحكمة الدولية والقضايا المتفرعة عنها مثل شهود الزور، والتعيينات الإدارية وزيادة الأجور والإضرابات واحتجاجات هذا على ذاك وذاك على هذا، الخ…
بانتظار ذلك ، ستتضاعف المخاوف من تمدد مشروع الشيعية السياسية في المناطق المسيحية ومن تعزيز البنيتين التحتية والفوقية لمشروع حزب الله نفوذه داخل الحكومة ، ومن تفاقم اهتراء إدارات الدولة واستشراء الفساد ، ومن تجدد الاغتيالات السياسية والفلتان الأمني ، ومن ضيق مساحة المناورة أمام القوى الحليفة لسوريا ومن توترات نفسية تصيب صغار أتباعها نظرا إلى ضيق مساحة التخفي المتاحة أمامهم في ظل الهجوم الدولي المتصاعدة وتائره ، وفي ظل انهيارات أنظمة الاستبداد واحدا تلو الآخر.
مقابل ذلك ، ترتسم في مخيلة المحللين ” الستراتيجيين” سيناريوهات أحلاها مر ، منها تحول الانتفاضة السورية إلى حرب أهلية، ما أن تندلع حتى تنتقل إلى لبنان عبر شماله ، يتواصل من خلالها أهل السنة اللبنانيين مع أهل السنة السوريين ويشنوا هجوما على قواعد حزب الله في البقاع ، إلى آخر هذه التخرصات المبنية على رعب بل على رهاب الحرب الأهلية التي اكتوى اللبنانيون بنارها وليس في الأفق ما يشير إلى صحة توقع حدوثها ، لا في لبنان ولا في سوريا؛ ومنها تخرصات جرى ترسيمها في عقل ولاية الفقيه الذي يمني النفس في أن يكون سقوط النظام السوري واحدا من “علامات ظهور” المهدي المنتظر الذي سينطلق من أرض الدولة الأموية متوجها إلى الجزيرة العربية ، مهد الإسلام ، ليبدأ من هناك إقامة دولته العادلة ، إلى آخر التخريفات التي تولى صياغتها فقهاء ولاية الفقية وأنصار النظام الإيراني ومحازبوه .
إذا ما شارف النظام السوري على السقوط ، يخشى اللبنانيون من أن يهرب حزب الله إلى الأمام ، فيفجر المعركة الكبرى مع إسرائيل ،ويستدرجها بالتالي إلى حرب شاملة على لبنان وسوريا يكون من شأنها خلط الحابل بالنابل ، وتكون الغاية منها إنقاذ النظام السوري من هزيمته المحتمة أمام المعارضة المدعومة من الخارج ، والتي تفقد كل مشروعية الهجوم على النظام إذا ما تهدد الكيان السوري برمته من قبل العدو الإسرائيلي . وفي مثل هذه الحالة ، يصبح بإمكان حزب الله أن يتمدد عسكريا على كل الأراضي اللبنانية بذريعة الدفاع عن نفسه والاحتماء بالمدنيين اللبنانيين، ما يتيح له أن يسيطر على الدولة برمتها ويقيم عليها سلطة لا ينازعه فيها أحد ، فينتخب ميشال عون رئيسا للجمهورية ويؤتى برئيس للوزراء من أهل السنة الموالين لحزب الله أكثر منه لسوريا، الخ. غير أن هذا السيناريو ليس سوى تعبيرعن هلع من تكرار تجربة السابع من أيار، وهو هلع تبرره محاولات دؤوبة للتمدد العسكري الحزباللهي في سائر المناطق ، ولاسيما المناطق الشيعية أو المتصلة بها من أعالي ترشيش إلى أعالي لاسا.
السيناريوهات المتشائمة تنهل من تاريخ لبناني غني بمبتكرات المعارك لحساب قوى خارجية، فكيف إذا كانت الصلة بين الخارج والداخل على غرار العلاقة القائمة بين النظام السوري وأدواته من اللبنانيين ، التي ربطت مصائرها الشخصية والحزبية بمصيره ربطا محكما، أو بين هذا النظام وخصومه اللبنانيين الذين باتوا يعتقدون اعتقادا راسخا أن خروج لبنان من أزمته رهن برفع اليد السورية عنه والتوقف القاطع عن استخدامه منصة لمواجهات وهمية مع “أعداء الأمة”. إنها، في الحالتين ، علاقة يستحيل معها أن يفكر اللبنانيون بمستقبل بلادهم بمعزل عن مستقبل التطورات والنظام في سوريا.
مقالات ذات صلة
“الشيعية السياسية” لمحمد علي مقلد، بين البحث والانطباع
النخب اللبنانية بعد سوريا
الاستبداد القومي