21 نوفمبر، 2024

علمانية أم طائفية أم …محاصصة

أراك أقمت الدنيا وأقعدتها ، و”عملت من الحبة قبة” على شيء لا يستحق جهدك هذا . كل ما في الأمر أنني حين ناقشت أفكارك نسبتها إلى مجهول ، لكن الاقتباسات التي استعنت بها ووضعتها بين مزدوجين طمأنتني إلى أنك ستعرف أنك أنت المقصود . وقد فعلت ذلك لأنني  كتبت النص لأنشره، كما العادة ، في إحدى الصحف ، ولذلك نأيت به عن أن يكون مناكفة أو حوارا ثنائيا ، واستندت في تجهيل مصادر الأفكار التي أناقشها إلى أنها أفكار متداولة ، أي أنها ليست ملكا لي أو لك أو لأحد على وجه التحديد . وحين لم أنشره في الصحافة دفعت به إلى صفحتي على الفيسبوك من غير تعديل فيه .

حتى لا يكون كلامي افتئاتا على جهدك ، أعترف أن فكرتك عن القرابة السياسية جديدة على هذا الصعيد ، وسأبدأ النقاش منها.

يزعم روبير بشعلاني (  أقصده هو دون سواه) أن ” الطائفة كيان سياسي بامتياز، وأنها كيان اجتماعي سياسي حديث قائم على القرابة الدينية وليس على الدين”. أسارع إلى القول إن نحت هذا المصطلح نابع من شعورنا ( هو ونحن وهم ) بالحاجة إلى تجديد أدوات البحث القديمة ، يعني أنه اعتراف بلاجدوى تلك القديمة، أي بعقمها أو بعدم فاعليتها ، أو اعتراف ، على الأقل ، ببلوغها حدودها التاريخية، وبعدم قدرتها على متابعة تحليل الظاهرة التي سميناها طائفية ، ومضينا عقودا طويلة من الزمن نستظل بها ونحتمي ، معتقدين أنها جزء من بناء نظري متماسك لا تشوبه شائبة . أو قل إنه اعتراف بأن دراسة جدوى خضع لها هذا ” المفهوم الإجرائي” ، أي الطائفية ، أو الطائفية السياسية ، أثبتت أننا ناضلنا قرنا من الزمن لننتهي إلى عكس غاياتنا . يعني ذلك أننا متفقان على ضرورة البحث عن عدة جديدة للتحليل ، أنت اقترحت نظام القرابة الدينية ، وأنا اقترحت المحاصصة كمصطلحين، أو مفهومين إجرائيين . وعلينا أن نجرب أيهما أكثر جدوى.

كما يعني ذلك أن العدة النظرية التي استندنا إليها في تفكيك ظاهرة “الطائفية والطائفية السياسية ” مصابة بعطل داخلي ، يستحيل معه أن نعالج أدواتنا المعرفية بالاكتفاء بشتم هذه ” الآفة ” أو “المرض” أو “علة النظام” ، الخ ، الخ …أو بالاكتفاء ببديل نظري هو العلمانية التي استظلينا فيئها قرنا من الزمن ولم نكن ندري أننا لم نكن علمانيين أبدا. وقد فصلت ذلك في مقالة سابقة ، وخلاصة فرضيتي فيها أن العلمانية مصطلح نشأ مع إخوة له في شجرة العائلة الديمقراطية ، وهو يعني ، من بين ما يعنيه ، فصل سلطة الكنيسة ( وليس الدين ) عن سلطة الدولة ( وليس عن الدولة)، لكن شجرة العائلة تربطه برباط قرابة مع مشتقات الديمقراطية ومتفرعاتها ، وعلى رأس ذلك الاعتراف بالآخر .

علينا أن نعترف يا صديقي أننا ،نحن العلمانيين الصادقين حقا كل الصدق بالمعنى الأخلاقي ،لم ننتبه إلى أننا كنا نمارس العلمانية كما لو كان معناها الإلحاد ، فنسخر من الدين ورموزه وقيمه وطقوسه ومن المتدينين،( يعني من أهل الطوائف فنثيرهم ضدنا مجانا ، مع أنهم ضحايا مثلنا تماما) ما يعني أننا لم نكن نحترم الرأي الآخر، ولا كنا موافقين حتى على التعايش معه ، بل كنا راغبين بإلغائه وحذفه على طريقة المستبدين من أهل “الثورات التقدمية” التي استخدمت قانوني “النفي ونفي النفي” الماركسيين الهيغليين ، للقضاء على خصومها بالنفي الميكانيكي لا بالنفي الجدلي ، أي بالقتل أو السجن أو الإبعاد.

وعلينا أن نعترف يا صديقي أن العلمانية ضاقت معانيها في قاموسنا لتصير منافسا للطائفية أو بديلا عنها . وهذا التباس أدهى وأمر؟! إذ كيف يمكن أن يتنازل مصطلح علمي( كوني) عن كونيته ليدخل في متاهات تعقيدات محلية أو ليصيرنقيضا لمصطلح لبناني أو لما يشبهه خارج لبنان؟ علمانية تونس أو الجزائر أو الصومال أو السعودية أو الاتحاد السوفياتي أو الولايات المتحدة الأميركية، حيث الصفاء الديني والطائفي في أبهى صوره أو حيث التنوع الطائفي والمذهبي والإتني ألخ ، في أعلى درجاته ، ماذا تعني بالدقة العلمية؟ وأي مصطلح محلي ينقضها؟ وهل هي تشبه العلمانية التي ننشدها نحن؟

رحت أبحث عما يحل لي هذا اللغز فنبشت من تاريخنا القريب مصطلح المحاصصة لأقول إن السلطات الحاكمة في عالمنا العربي وافقت على الدخول في الحضارة الرأسمالية من الباب الاقتصادي ، فاعتمدت الاقتصاد الحر أو اقتصاد السوق ، لكنها “روضت ” مصطلح الدولة فجعلت مدلوله امتدادا لما كان عليه  في الحضارة السابقة ، حضارة العصر الاقطاعي ، وعلى طريقة الاقطاعيين الذين كانوا يتحاصصون الثروة الزراعية ، تعامل الحكام المعاصرون مع السلطة باعتبارها ثروة أو مصدرا للثروة ، فتحاصصوها فيما بينهم ، استنادا إلى موازين قوى سعى الكل إلى تأمينها ، فاعترضوا على قيام الأحزاب والنقابات ، لأنها قد تكون البديل المحتمل للبنى الاجتماعية الثقافية القديمة ( الطوائف )التي استندوا إليها ورسخوها وسخروها لمصالحهم.

مصطلح المحاصصة ليس ابتكارا أو “فبركة”، ولا هو لعبة كلامية. وهو ليس ، كما وصفته يا روبير، “…مبهم لا أب له ولا أم ، بلا تاريخ ولا هوية ، وتعريفه يأتي من صفاته، على طريقة أهل القرى…الخ”. قراءة عينة من التاريخ تكفي. تكفي العودة إلى بداية القرن الماضي ، أي قبيل قيام الكيان اللبناني ، إلى أي واحد من أجدادنا أو آبائنا ، أو قراءة شيء عن تاريخ المرحلة العثمانية ، وعن تاريخ أوروبا في الفترة ذاتها، أو تاريخ بلدان الشرق الموازي، لنعرف أن الإقطاعي في أوروبا أو آسيا أولبنان وسائر الولايات السلطانية ، كان هو ذاته وإن تغيرت أسماؤه وألقابه وأزياؤه ، وأن الفلاح كان هو ذاته  بسكة الفلاحة وثيابه الفضفاضة ومنزله المشترك مع حيواناته (الثور أو الجاموس للفلاحة والبقرة للحليب ، الخ ) وقيمه وأخلاقه وعلاقاته الاجتماعية وأنظمة القرابة ، وأن العلاقة بين الاقطاعي والفلاح كانت تقوم على المزارعة والمغارسة والمرابعة والمخامسة والمساقاة ، الخ، أي على المحاصصة . هذا هو بالضبط القانون الذي استورده الحكام الجدد ، أو نقلوه معهم من ماضيهم ليبنوا عليه سلطتهم ، ومن هذا التاريخ ذاته نحت أساتذتنا في اليسار مصطلح “الإقطاع السياسي”.

إنهم حكام يتحاصصون السلطة باعتبارها ثروة. يتقاسمون مغانمها بقوة من يمثلون . فلو مثلوا أحزابا ونقابات لكانت دولة مدنية .لكنهم لا يريدون ذلك . إذن لا بد من أن يلجأوا إلى نظام تمثيلي آخر: القرابة، قرابة الدم أو قرابة الدين أو كليهما ( الطائفة) . إنه نظام القرابة الذي استحضرته أنت من حقل معرفي آخر استحضارا ذكيا ، ونقلته إلى حقل السياسة من غير تبيئته وتكييفه  فأخطأت استخدامه.

نظام القرابة مصطلح من عدة الشغل في علم السوسيولوجيا ، وهو ذو فائدة كبيرة في تسليط الضوء على تطور البنى المجتمعية في التاريخ . لكن، أيا تكن فائدته العلمية في الحقل المعرفي الخاص به ، فهو لا يمكن أن يفسر ظاهرة من خارج حقله ، واستخدامه في السياسة مثل استخدام شارلي شبلن المطرقة والإزميل لتصليح الساعات ، في فيلمه الشهير. أو هو ، حتى لا يعتبر التشبيه مذمة ، مثل استخدام أدونيس منهجا ثقافيا وسمير أمين منهجا اقتصاديا للحكم على قضية سياسية تمثلت بالربيع العربي ، أو مثل استخدامك أنت المنهج  السوسيولوجي لتجاريهما في الحكم على الربيع العربي .إذ ماذا يعني قولك: “الربيع العربي هو اختلال في التوازن الطائفي ، وهو صراع على السلطة بين القرايب وعظام الرقبة “؟ هل تعني بذلك أن الطغاة والضحايا ، القتلى والقتلة، أقارب؟؟؟ أو قولك ” الطائفة كيان اجتماعي سياسي حديث قائم على مبدأ القرابة الدينية وليس على الدين”، أو قولك ” الطائفة كيان سياسي بامتياز” ؟؟؟ أو قولك : :”هذه السلطة  الطائفية موجودة بشكل مستقل عن نظام المحاصصة الذي لا يمثل الا احد الخيارات المطروحة على النظام الطوائفي .دليلنا على ذلك حكم طائفة الدروز لجبل لبنان في النصف الاول من القرن التاسع عشر وحدهم وبدون مشاركة او محاصصة، كذلك الامر بالنسبة الى السنة في العراق او العلويين في الشام او او الخ.”

تعال معي نفكك هذه العبارة لنرى كم هي تنطوي على نقاط ضعف. بعد أن كان النص قد أنكر وجود نظام المحاصصة وأنكر تاريخه وأمه وأباه ، راح يعترف بوجوده ، قائلا إنه ” لا يمثل إلا أحد الخيارات المطروحة ” مؤكدا ذلك بالقول “إن النظام الطائفي الوحيد في منطقتنا الذي يعتمد المحاصصة شكلا للحكم هو الوحيد من بينها الذي يقدم نوعا من انواع الديمقراطية”…( يقصد لبنان). كما أن النص يخلط بين مرحلتين من التاريخ حصلت بينهما قطيعة بالمعنى الكامل للكلمة ، أعني القطيعة التي أحدثتهاالثورة الفرنسية حين وضعت حدا فاصلا بين الحكم الوراثي(الملكي،السلطاني،الامبراطوري،الخ) والحكم الديمقراطي (الجمهوري أو الملكي المقيد أو الدستوري ، الخ) . وبسبب هذا الخلط  حصل  جمع  مفتعل بين نظام الملل العثماني و نظام المحاصصة الحالي .

 وجود نظام الملل المرتبط بمركزية السلطة العثمانية كان أمرا طبيعيا . ألم تكن أوروبا كلها تقريبا خاضعة لملك واحد هو شارل كينت (شارل الخامس) الذي وزع مملكته بعد موته على ابنه وابن أخيه ، فكانت مملكة إسبانيا ومملكة هابسبرغ ؟ جاءت الثورة الفرنسية لتجعل الملكيات من الماضي ، فبات كل نظام حكم في الرأسمالية لا يقوم على الديمقراطية وتداول السلطة نظاما ينتمي إلى حضارة غابرة، واستمرت الحروب داخل الدول وبين الدول طاحنة ، إلى أن اقتنعت الرأسماليات الكبرى بأن الحضارة الحديثة القائمة على الاقتصاد الرأسمالي أو اقتصاد السوق لا يمكن أن تنهض وتستقر إن لم تقم على الديمقراطية  وتداول السلطة .أما الكلام عن السنة في العراق والعلويين في الشام في الزمن الراهن ، فهو كلام غير دقيق وغير صحيح ، ذلك أن الجامع بين الحكمين المعاصرين في الشام والعراق هو الاستبداد البعثي ” التقدمي” وليس الدين. فلا السنة هم من حكم العراق ، بل مستبد ضحاياه من كل الطوائف والمذاهب ، ولا العلويون هم من حكم سوريا بل مستبد  متحدر من الجذور ذاتها ، وضحيته الوطن والعروبة وقضايا الأمة ومصالحها العليا والكرامة القومية.

يأخذ روبير بشعلاني علي ” قصوري في فهم الطائفة وعلاقتها بالدين، وعدم تمييزي بين الطائفة والدين”. تقبلت أن أتعامل مع المأخذ بعين الجد ، ولكي أعالج هذا القصور، رحت أقرأ ما كتبه عن الدين والطائفة والطائفية والطوائفية والإيمان الديني والكنيسة والمذهبية والعشيرة والقبيلة والعائلة الموسعة والبيوتات …ونظام القرابة ، وهي كلها مصطلحات تناولها واستخدمها لتقديم تفسير جديد للأزمة التي رأيت أنا أنها أزمة المحاصصة والمحاصصين ورآها هو  أزمة الطائفية والطائفيين، فاكتشفت أنه يعالج موضوعه بعدة السوسيولوجي الذي قد يصل إلى حقائق لا ريب فيها لكنها حقائق لا تجدي نفعا في معالجة  أزمة  العلمانية في بلداننا ، باعتبارها أزمة سياسية لا أزمة سوسيولوجية.

الطوائف ، في نظره ، أجسام سياسية ” غريبة ” ، أو هي ” كيانات سياسية اجتماعية حديثة قائمة على مبدأ القرابة الدينية وليس على الدين”، أو هي “كيانات سياسية بامتياز”، أو هي “القوى المتسلطة “…الخ. كل ذلك لا يقدم تعريفا موحدا ومتماسكا للطائفة والطائفية. لذلك لجأنا إلى ما كتبه ماكس فيبر حين وصف الطائفة بأنها “جماعة حصرية من محترفي الدين …تقوم على نوع من الالتزام الطوعي ، متعارضة في ذلك مع الكنيسة” ( التي تنفي الطوعية) …الخ. ثم حاولنا أن نفسر كلمة ” غريبة” . هل تعني النيازك بين النجوم أو الأقمار الاصطناعية بين الكواكب ، ولماذا هي غريبة ؟ في آخر النص اكتشفت أن المخلوقات السياسية الطبيعية هي التي تحمل هوية طبقية فحسب ، أما التي لا تحمل دمغة الطبقة فتصنف  خارج التاريخ المكتوب في البحث العلمي ( ماركسية ستالين) أو أن كل ما عداها غريب عن التاريخ ! ثم حاولنا أن نفسر عبارة ” كيانات سياسية اجتماعية …وسياسية بامتياز ” وحاولنا أن نفسر كيف يكون الكيان سياسيا محضا تارة وسياسيا اجتماعيا تارة أخرى وسياسيا بامتياز تارة ثالثة ، فالكيان إما أن يكون سياسيا ، أو اجتماعيا أو ثقافيا أو لا يكون ، الخ. وقد يكون كل ذلك معا  لكن ، لا بد من وجود غلبة لوجه على الوجوه الأخرى ، كالقول مثلا ، الرأسمالية قامت على الصناعة والحضارة السابقة عليها قامت على الزراعة ، أي أن الزراعة كانت الركن الأساس في اقتصاد الثانية والزراعة الركن الأساس في الأولى ، حيث لا يلغي طرف طرفا بل يزيحه من مركز الدائرة ويحوز الأولوية .

هل الطائفة والطوائف التي يتحدث عنها روبير هي ذاتها التي يعرفها ماكس فيبر ؟ أعتقد أنها لا تدخل ضمن صلاحية التعريف الفيبري. لأن ” الحصرية ” في طوائفنا ليست حصرية سياسية بسبب وجود علمانيين داخل كل طائفة . ولأن الطائفة ليست من محترفي الدين حصرا لأن في الطائفة من لا يحترفون الدين ولا يمارسون الطقوس أبدا حتى لو لم يكونوا علمانيين. وليس في طوائفنا شيء طوعي ، لأن الانتماء إلى الدين في أنظمة الاستبداد شأن غير إرادي ولا يقرره الفرد ، بل يتقرر بالولادة ويرثه الأبناء عن الآباء . فضلا عن ذلك ، لم تكن الطوائف في لبنان تحظى بوحدة داخلية على امتداد تاريخها منذ الاستقلال ، وقد تجسد ذلك بوجود مرجعيات سياسية متنوعة ومختلفة ومتصارعة داخل كل طائفة ، ولا يغير في الأمر شيئا قيام تحالفات بين المختلفين ، على غرار ما حصل في ظل ” الجبهة اللبنانية ” في أول الحرب الأهلية ، أو في الثنائية الشيعية تحت المظلة السورية. الطائفة ، إذن ، ليست كيانا سياسيا موحدا. ولا يمكن في الأساس أن تكون كيانا سياسيا، إلا إذا تماهت الطائفة كلها بمن يمثلها سياسيا ، وهذا أمر مستحيل ، إلا في ظل حكم استبدادي تنتفي فيه كل احتمالات التنوع. وإن حصل ذلك في ظل هذه الشروط شبه المستحيلة ، فإن حصوله ، كما يبدو ، ظاهريا فحسب ، لدى الشيعية السياسية المعاصرة في لبنان ، ليس سوى حالة عابرة جدا جدا ( وما على المرء إلا الخروج قليلا من يوميات التاريخ ليرى الظاهرة في سيرورتها) ، لأن وجود التنوع داخل كل طائفة هو الأساس وليس عدمه. بعبارة أخرى هذه ” الأجسام الغريبة  لا تمارس الدين ولا الإيمان ولا اللاهوت، بل تمارس السياسة” ، وهذا صحيح ، إنما تمارس السياسية لا كأجسام ، أي أن الطائفة لا تمارس السياسة بصفتها جسما سياسيا ، بل هناك من يمارس السياسية باسمها ، أو من يتسلط على تمثيلها سياسيا ويحتكر هذا التمثيل . هؤلاء  بالضبط هم المحاصصون.

هؤلاء المحاصصون هم أفراد أو أحزاب أو قوى سياسية ، ولا يمكن أن يكون المحاصص هو الطائفة، كما يزعم النص . وإلا فبماذا يجيبنا روبير إن سألناه عن نصيبه من حصة الطائفة التي ينتمي إليها بحكم “القرابة الدينية ” بصفته جزءا من “جسمها الاجتماعي والسياسي” ، وأن نسأل كل مواطن ماروني عن نصيبه ( كجزء من الجسم السياسي للطائفة) من حصة الموارنة في رئاسة الجمهورية ، وكل مواطن شيعي عن نصيبه من حصة الشيعة من رئاسة البرلمان ، وكل مواطن سني عن نصيبه من حصة السنة من رئاسة الحكومة، الخ. نعتقد أن المحاصصة تحصل بين من يمثل هذه الطوائف ، والحصة لا تتوزع على الطائفة بل على أتباع الزعيم ومحظييه ومريديه وأتباعه  في طائفته وفي الطوائف الأخرى، الخ . وعلى أزلامه في إدارات الدولة وشبيحة القرى والاحياء، وعلى الموالين له في المؤسسسات الدينية التي لها حصتها في الإعلام والقضاء الشرعي وإدارة الأوقاف ، وعليها واجب الطاعة للزعيم السياسي ، والويل الويل لمن يقع بين شاقوفين!

 بلغت المحاصصة ذروتها غداة انهيار مؤسسات الدولة اللبنانية ( أي في الثمانينات ) يوم صارت لسوريا حصة الأسد بعد أن تم تلزيمها الوضع اللبناني وإدارة نظام المحاصصة فيه ، فجرى ، تحت إشرافها  توزيع سلطة الدولة وسيادتها على الأتباع والموالين لها وتمت بوضوح قاطع كعين الشمس وبعبارات بليغة صياغة معادلة المحاصصة على الشكل التالي: الأمن  لماروني ( أو أكثر)  تمثله سلطة رئاسة الجمهورية وبعض رؤساء الإدارات المدنية والعسكرية ، من بينها قيادة الجيش ؛ الاقتصاد والمال لواحد من أهل السنة تتولى شأنه رئاسة مجلس الوزراء وتخضع لسلطتها بعض الإدارات المدنية والعسكرية ، من بينها قوى الأمن الداخلي وشعبة المعلومات؛ الإدارة والإنماء لشيعة يمثلهم رئيس المجلس النيابي ويخضع لمكتبه أو للشعبة المختصة في حركة أمل ،من غير تسلسل إداري و خلافا لكل قانون إداري ، بعض مسؤولي الإدارة العسكرية والمدنية ؛ المقاومة ل “أصحابها” ومالكيها الحصريين (الشيعة والجنوب) بعد إقصاء مؤسسيها؛ السياسة الخارجية لوزير الخارجية السوري ، والجميع بإدارة أجهزة المخابرات في البلدين. كانت هذه ” زبدة الحقب” وفيها عصارة المحاصصة في “أسمى” معانيها ، و”أبهى” تجلياتها . في تلك الفترة كانت الطوائف هي الخاسر الأكبر ، لأن كلا منها توهمت أنها ربحت نفسها ، في مواجهة طائفة أخرى، لكنها ، جميعا خسرت وطنا توزعه ممثلوها وتقاسموه وتحاصصوه ، فأعطوا الحصة الأكبر للنفوذ السوري ولم يبق لهم غير الفتات، بل يمكن القول إنهم هم صاروا جزءا من حصص النظام  السوري وأجهزته الأمنية، ويمكن القول أيضا إن الفترة الذهبية التحاصصية ، ” زبدة الحقب ” ، جعلت الطوائف مادة للتحاصص ،  بل هي الفترة التي شهدت اقتتالا داخل الطوائف ، وكان أشرسها وأكثرها دموية ما حصل داخل الطائفة الشيعية بين أمل وحزب الله ، أو داخل الطائفة المارونية بين ميشال عون قائد الجيش والقوات اللبنانية . هذا الانقسام الدموي هو الذي مهد للمحاصصة بين ممثلي الشيعة ، بإشراف سوري إيراني : إدارات الدولة لحركة أمل والمقاومة لحزب الله ؛ وبين ممثلي المسيحيين بقوة القهر السوري : قيادات في السجن والمنفى وعقاب لكل من خالف أوامر النظام الأمني اللبناني السوري المشترك ، ما خلق شعورا بالاحباط لدى المسيحيين ورسخ في وعي كثيرين منهم  الاقتناع بمسؤولية اتفاق الطائف،الذي رفضه ميشال عون،عن انتزاع صلاحيات من رئيس الجمهورية الماروني وإعطائها لرئيس الحكومة السني .في هذه الحالة الملموسة ، لم يكن عون يدافع عن امتيازات الموارنة بل عن صلاحيات لرئاسة الجمهورية التي تشكل مطمحا شخصيا له .

لم يكن هذا الاقتناع ناجما من فراغ . فقد بدأ نظام المحاصصة مع الاستقلال مموها بدستور علماني وقوانين وضعية مستلهمة من الدستور والقوانين الفرنسية ، ثم سرعان ما راح يتبدد التمويه ،يوم رفع اليسار شعار المشاركة ،مسرورا بكونه وضع بين يدي رئيس مجلس الوزراء في حينه ( رشيد الصلح)خطابا ترافق إلقاؤه مع انفجار الحرب الأهلية . لقد كان نظام المحاصصة يغلب حصة رئيس الجمهورية على سواه ، إذ إن النظام اللبناني لم يكن نظاما رئاسيا ، بحسب الدستور ، بل نظام برلماني ديمقراطي ، لكن رئيس الجمهورية كان يمارس ، باسم الدستور ، صلاحيات الرئيس والبرلمان والحكومة ، من غير أن يخضع للمحاسبة ، في حين كان رئيس الحكومة يحاسب من غير مسؤوليات.

خطأ اليسار أنه لم يشخص تشخيصا سليما ثغرات النظام اللبناني ، ومن تشخيصاته الخاطئة قوله بالطائفية السياسية . بل إنه ” تشاطر” ولعب على الوتر الطائفي واقترح محاصصة جديدة تأخذ من الرئيس الماروني لتعطي الرئيس السني. وهكذا اثبت تاريخ لبنان الحديث أن المحاصصة، بالصيغة التي كانت فيها حصة المارونية السياسية هي الراجحة أو تلك التي ترجحت فيها حصة السنية السياسية (الحركة الوطنية اللبنانية هي التي رفعت راية مشروع السنية السياسية) ، أوالتي تتوهم ترجيح حصة مضمرة في مشروع الشيعية السياسية …أو حتى تلك التي نشدتها الحركة العلمانية  اللبنانية حين رغبت في أن تمثل الطائفة الثامنة عشرة ، الخ . إن المحاصصة هذه لم تولد سوى الحروب . كما أثبت هذا التاريخ نفسه ، أن الحرب بين المسلمين والمسيحيين اندلعت بقرار من المحاصصين ، وتوقفت بقرار منهم ، أي أن القرار بإضرام النار وبإخمادها لم يصدر عن الطوائف  ، بل صدر عن المحاصصين وأبلغت الطوائف ( ككيانات اجتماعية) به ثم تم شحنها لتكون وقودا وتدفع الثمن.

الكلام عن الطائفية أكثر التباسا من الكلام عن الطائفة والطوائف. ما هو التعريف الذي يمكن أن نعطيه عن الطائفية ؟ يقول روبيربشعلاني في تعريفها : “الطائفة اذا مصطلح سياسي يتعدى حدود لبنان والطائفية مفهوم يشرح البنيان الاجتماعي والسياسي لبلادنا بينما المحاصصة كأحد أشكال النظام الطائفي تنحصر في لبنان ومؤخرا في العراق ولا يمكن ابدا ربطها بمفهوم الاستبداد “. منذ قليل ، كانت الطائفة كيانا سياسيا اجتماعيا ، الآن هي مصطلح سياسي ، وفي الحالين لا يتفق ذلك مع تعريف ماكس فيبر المذكور أعلاه. أما الطائفية فهي ” مفهوم” مهمته الشرح ، ما يعني أنه ليس له كيان في حد ذاته . إنه مفهوم يصح إن يكون إجرائيا ، أي جزءا من نظرية ، إذ إن المفهوم الإجرائي يستخدم عادة لشرح النظرية …الخ. لكن ما هي النظرية التي يساعد “مفهوم” الطائفية في شرحها؟

لتبسيط ذلك ، أفترض أن مصطلح المحاصصة مفهوم إجرائي يساعد في شرح نظرية الاستبداد  الممتد بين حضارتين. فما هي النظرية التي يساعد مفهوم الطائفية في شرحها؟ أو لنفترض أن الطائفية هي النظرية فهل يصح أن تكون هي النظرية والمفهوم الإجرائي في آن واحد؟ إننا نعتقد أن أي بحث منتج ومجد  ينبغي أن يبدأ من تحديد الظاهرة التي يتم الحديث عنها ، ماهيتها ، حدودها ، تأثيرها ، العوامل المؤثرة فيها ، إلى أي حقل تنتمي ،الخ. هل الطائفية ظاهرة سياسية ، أم دينية ، أم ثقافية أم نفسية ؟ هل هي ظاهرة صحية طبيعية أم عرض من أعراض مرض أو أزمة؟ هل هي حتمية أم يمكن تفاديها ؟ هل هي كونية أم إنها مرتبطة ببلد معين وبظروف خاصة ؟ إن قيل إنها علة النظام السياسي اللبناني ( مرض) وعلاجها الاستئصال، فما الذي نستأصله حين إدخاله إلى غرفة العمليات؟

 كل ما تفتق عنه عقلنا العلماني تلخص بشعارات ثلاثة : العلمنة وإلغاء الطائفية السياسية والزواج المدني. غير أن تشخيص المرض تشخيصا مغلوطا رمى الشعارين الأول والثاني في توظيف “طائفي”، إذ بدا الأول مطلبا مسيحيا والثاني مطلبا إسلاميا وبدا المتحاصصون الدينيون والمدنيون يتراشقون الشعارين والحجج المدافعة عن كل منهما ، في لعبة كلامية زجلية تخفي اتفاقا كاملا بينهم على عدم الإجازة ببناء دولة مدنية قوامها القانون والمؤسسات والفصل بين السلطات ، الخ. اتفاقا على رفض التشريع للشعار الثالث، لا لأنه يطالب بسن قوانين جديدة تتعلق بالأحوال الشخصية ، بل لأنه يمس سلطة المؤسسات الدينية التي اعترضت على وضع المحاكم الشرعية التي تحكم باسم الله  وباسم الشريعة ، تحت سلطة الدولة وجزءا من المحاكم الحكومية التي تحكم باسم الشعب. أي أنها تصر على المحافظة على كيان مستقل عن الدولة و على وجود “دولة داخل الدولة” ، وهذه هي حصتها أو بعض حصتها من في نظام المحاصصة ” العلماني “.

في تشخيصنا أزمة النظام اللبناني ، قلنا إن مرضه يكمن في كونه نظاما يقوم على المحاصصة ، في حين رأى آخرون أن علة النظام تكمن في كونه نظاما طائفيا، فبدا المصطلحان ( المحاصصة والطائفية) كأنهما نقيضان ، أو كأن المحاصصة تنفي وجود الطائفية ، وراح البعض يقدم الحجج والبراهين ليقنعنا بأن ظاهرة إسمها الطائفية موجودة في النسيج اللبناني ، نظاما ومجتمعا وثقافة وقيما وعادات وتقاليد ، الخ . نعم إنها ظاهرة موجودة في لبنان ، وهي موجودة بقوة وعلى كل صعيد ، لكنها ليست هي العطل في نظامه السياسي، وليس لنا ، لكي نثبت ذلك ، إلا أن نحددها ونتفق على تعريفها.

الطائفية ، بالمعنى القاموسي ، ” مصدر يصنع من الكلمات الجامدة والمشتقة بزيادة ياء النسب والتاء بعدها للدلالة على معنى مجرد لا تدل عليه الكلمة بعد الزيادة ” وهو منسوب إلى الطائفة .أي أن دلالة مصطلح الطائفية قد لا يحمل المعاني الموجودة في مصطلح الطائفة، ولذلك فإن ألدلالة الاصطلاحية  لمصطلح الطائفية محفوف  بالغموض والالتباس ، لأنها حملت شحنة دلالية إضافية لم تكن اصلا في المعنى القاموسي لمصطلح الطائفة . لقد استخدم مصطلح الطائفية في الغالب لذم النظام السياسي أو للإشارة إلى مكان العطل فيه أو إلى مفاسده وثغراته. ما يعني أن استخدامه ظل محصورا في الجوانب السلبية ، وتم تجريده من أي معنى إيجابي ، ونجح المدافعون عن مفاسد النظام السياسي في توظيف هذا الالتباس وذاك الغموض لمصلحة بقاء العطل في النظام ، حين صوروا للرأي العام أن الهجوم على الطائفية هو في الوقت ذاته هجوم على الأصل اللغوي والاجتماعي التي ينسب المصطلح إليه ، أي على الطوائف. مسؤولية العلمانيين في إضعاف شعارهم أمر مؤكد لأن علمانيتهم أتخذت شكل الإلحاد والسخرية من الأديان والطوائف فبدوا متنكرين لانتمائهم الاجتماعي إلى الطوائف ، بينما بدا ممثلو الطوائف من المحاصصين أنهم هم المدافعون عنها، ولذلك وجدت الطوائف أن الأجدى لها أن تلتف حول من يبدو أنه يدافع عن مصالحها لا أن تمضي وراء شعار يحمله ملحدون وخارجون عن طوائفهم ومدمرون للقيم والتقاليد.

  هؤلاء المحاصصون هم بالتحديد الزعماء السياسيون والمؤسسات الدينية الذين توزعوا سيادة الدولة في ما بينهم وزعموا أنهم  يمثلون طوائفهم ويدافعون عما يسمونه المصالح العليا للطائفة ، وهي ليست سوى مصالحهم الشخصية، وذلك بالتأكيد على حساب المصالح العليا للوطن. وبفعل ذلك ، ولأسباب أخرى كثيرة ومعقدة ،  ينشأ لدى الفرد ( الذي يفترض أن يكون مواطنا منتميا إلى وطن ) شعور بالانتماء إلى الطائفة كبديل لانتمائه إلى الوطن أو كممر إلزامي للانتماء الوطني ، انتماءين يتعايشان  في الوعي الطائفي ولا يتناحران ، لأنهما ليسا متناقضين  ولا يتنافى واحدهما مع الآخر، ولأن عدو الانتماء الطائفي ليس الانتماء الوطني الذي قد يكون منافسا فحسب لا عدوا ، بل العدو أو الخصم هو انتماء طائفي آخر ، والأرض خصبة في لبنان لهذا التنوع الذي يوظفه المحاصصون لصالح تأبيد سيطرتهم ، بالوراثة أو بالقهر ، أي بكل مشتقات الاستبداد.

عود على بدء ، المحاصصة ليست تهربا من تسمية الأشياء بأسمائها ، بل على العكس ، إنها تشير بالأصبع إلى المحاصصين : الزعماء السياسيين والمؤسسات الدينية . أما الذي يموه الحقيقة ويتستر على الجناة فهو شعار إلغاء الطائفية ، أو الطائفية السياسية ، الذي يصوب على مجهول ويحارب الأشباح وترتد الطلقات إلى صدره، أوعلى الأقل ينجو منها من ينبغي أن يكون التصويب موجها نحوهم. والمحاصصة لا تنفي وجود الطائفية ، التي هي موجودة بوضوح على كل الصعد ، وبوضوح أقل على الصعيد السياسي ( لأن دستورنا علماني) ،  بل تساعد على بلورة برنامج عملي للقضاء على هذه المفسدة التي يجسدها سياسيون ورجال دين يعملون على تقويض كل  الأسس السليمة لبناء الدولة الحديثة ، دولة القانون والمؤسسات والكفاءة وتكافؤ الفرص ، الخ ، الخ.

الدلالة القاموسية والدلالة الاصطلاحية تحيلان إلى ” معنى مجرد” . فما هو هذا المعنى؟ إنه ، بحسب ما نرى، شكل من أشكال الوعي أو مستوى من مستوياته لمسألة الانتماء ، أو هو منهج في التفكير قد نطبقه على كل شيء ، على تحليل القصيدة أو للحكم على قضية أخلاقية أو للفصل في قضايا متعلقة بالأحوال الشخصية أو للبت في قضية سياسية، الخ . وفي الحالتين ( شكل من أشكال الوعي أو منهج في التفكير) ليست الطائفية شيئا يمكن إلغاؤه أو نفيه نفيا ميكانيكيا ، أي أن نمسحه ( باللغة الإلكترونية) أو أن نعدمه أو ننفيه (بلغة أنظمة الاستبداد) ، وليست شيئا يتكون في لحظة ليمحي في لحظة . بل هي تشبه كل ما يحتاج إلى وقت طويل لينشأ وينمو ، وينطبق عليها قانون الفيزياء القائل إن الأجسام التي تسخن ببطء تبرد ببطء والأجسام التي تسخن بسرعة تبرد بسرعة، من هنا صحة الحجة – الذريعة ( رغم أنها كلام حق يراد به باطل) التي تزعم إن الطائفية ينبغي أن تلغى من النفوس قبل النصوص . بتعبير آخر، لا تكفي صحة الشعار ليكون جاهزا للتطبيق بل إن تنفيذه يحتاج إلى إنضاج ظروف ذاتية ( الوعي) وموضوعية (موازين القوى في حالة السياسة). وإذا أخذنا بالاعتبار ما يتميز به الوعي ، ولا سيما إذا كان وعيا إيديولوجيا وليس علميا ، فإن تغييره ليس بالأمر اليسير ، لأن الإيديولوجيا ، بحسب الفيلسوف الفرنسي ألتوسير، هي كالباطون المسلح ، وهي لا تتبدل بسهولة كلما تبدلت البنية التحتية التي أنتجتها ، بل هي تبقى معلقة في فضائها الخاص حتى لو دمرنا الأعمدة التي شيدناها عليها.

غير ان ذلك لا يجوز أن يفضي إلى استنتاجات مغلوطة كالتي ترمي إليها حجة تغيير ما في النفوس، أي تغيير مستوى الوعي الاجتماعي ، بل لا بد من إيجاد السبيل الذي يوجز هذه العملية الصعبة والشائكة ويسرعها ، ولاسيما أن آليات تطوير الوعي الجمعي تختلف عن آليات تطوير الوعي الفردي . فهذا الأخير يحتاج إلى نمو فيزيولوجي ومراحل لا يمكن حرقها والقفز فوقها ، في حين أن بالإمكان تطوير الوعي الجمعي بقرارات وإجراءات سياسية تتخذها السلطة الحاكمة ( القرار الحكومي بالمناصفة في التمثيل السياسي بين الجنسين في الانتخابات الإوروبية أوجز عقودا من النضال النسوي لرفع مستوى الوعي الفردي والجمعي بقضية المساواة وحقوق المرأة). هذه الحقيقة تفضح واقع الأزمة المتعلقة بالطائفية في بلادنا ، إذ إن المعنيين بحل هذه المعضلة هم مسببوها وصانعوها والعاملون على تأبيدها ، ولذلك تراهم يجيدون لعبة الصراع حولها ليجنبوا أنفسهم مغبة القيام بهذه المهمة التاريخية ، ويسعدهم أن تخاض معركة العلمانية ضد عدو وهمي ، أو لنقل ضد عدو معنوي هو الوعي الاجتماعي ، لا ضد سلطة المحاصصة التي لا تقوم بدورها من أجل تطوير الوعي الاجتماعي والنظام السياسي ، مخافة أن يفضي ذلك إلى فقدانهم السلطة . إذن ، من أين نبدأ في ظل هذا المأزق؟

مفتاح الحل لكل القضايا الشائكة والعالقة هو تأمين الإطار التشريعي العصري القادر على استشراف المستقبل وتأمين موجبات الدخول في حضارة العصر والقادر على بناء الدولة المدنية الحديثة ، دولة القانون والمؤسسات والكفاءة وتكافؤ الفرص ،دولة الحريات العامة والديمقراطية . يبدأ ذلك بسن قانون جديد للتمثيل السياسي يقوم على النسبية ويعتمد لبنان كله دائرة واحدة ويحافظ مؤقتا على القيد الطائفي إلى أن يتأمن مستوى من الوعي الجمعي مؤات تنضج معه ظروف العلمانية بصورتها المثلى.