أدونيس كتب عن ربيع العرب وخصوصا عن سوريا وأثار ردودا عنيفة عليه ، إذ بدا لبعض قرائه أنه ، وإن بدا منحازا للثورة ضد الحاكم ، فهو لا يثق بهذه الثورة ولا بأصحابها ولا بشعاراتها. في المقابل ، لم يكتب أحد من المعجبين بالكتابين- المقالتين ، إلى الرئيس بشار الأسد وإلى المعارضة، نصا يعبر فيه عن أعجابه “بجرأة ” أدونيس في تقويض حصني الاستبداد ، حزب البعث والإسلام السياسي. لذلك لم نقرأ غير هجوم حاد على وجهة نظره التي تعبر ، في نظر ناقديه ، عن موقف لا يخدم الثورة ولا التغيير بل يدعم سلطة الاستبدادين السياسي والديني.
إدانة أدونيس هي نوع من الاستبداد ” الثوري” لأنها من آلات التكفير التي توسلها تقدميون ورجعيون، حين أعيتهم مقارعة الحجة بالحجة والجدال بالتي هي أحسن. والتكفير مراتب ، من تهمة الخروج على الدين إلى تهمة الخروج على الخط السياسي ، وفي الحالتين هي خروج على الطاعة، ولا أعتقد أن عاقلا يجيز لنفسه توجيه مثل هذا الاتهام إلى قامة ثقافية كقامة أدونيس ، لم يترك ركنا في بنيان “الثابت” في التراث العربي إلا وأعمل فيه معول الهدم سعيا وراء “المتحول”، من أول نصوصه النثرية والشعرية والبحثية حتى آخر مقالاته ( ولو مليئة بالخيبات) عن الثورة.
ندفع التهمة عنه من موقع الاعتراض الجذري على منهجه في التفكير في شؤون الثورات العربية عموما والسورية على نحو خاص. ذلك أن المنهج الخاطئ لا يمكن أن يصل إلى خلاصات سليمة حتى لو كانت مصطلحاته وأدواته الفكرية سليمة ، وتصير الخلاصات كارثية حين يضاف إلى الخطأ المنهجي عدم دقة في استخدام المصطلحات.نستعير هنا حكما أطلقه مهدي عامل على أدونيس في كتابه ” نقد الفكر اليومي” ، إذ رأى أن هذا المفكرالعلماني كان ينطلق في نقده الدين من فكر ديني ، لأن منهجه قائم على ثنائية قاتلة موجودة في كل فكر ديني ، حتى لو كان الدين هو الإلحاد ، الثنائية التي تعتبر أحد مصادر الاستبداد في التاريخ . ملاك أو شيطان ، أسود أو أبيض ، جنة أو نار ، ولا يلتقيان : من هنا يبدأ رفض الآخر وعدم الاعتراف به.
علمانية أدونيس علمانية أصولية استبدادية ، علمانية تعمل على إلغاء الآخر. فهي ضد الدين وقيمه لا ضد سلطة الكنيسة ، وهي لا تقبل التعايش معه بل ترى فيه عدوا . يغدو من الطبيعي إذن ألا يثق أدونيس بالثورة والمعارضة ، ولا سيما لأن المظاهرات “تخرج من المساجد” . في هذه الحالة يكون هو الذي يريد انقلابا ويكتفي بتبديل السلطة بدل إحداث تغيير في المجتمع وفي الثقافة وفي الاقتصاد. أدونيس، بتفكيره الديني ، يرى أن ” كل مساومة أو مسايرة للإيديولوجية الدينية …إنما هي مسايرة على مصير الإنسان في هذا العالم”، مؤكدا في اعتقاده هذا على أن الصراع هو مع الدين لا مع الكنيسة (الإسلامية) ، وعلى أنه صراع ثقافي بالدرجة الأولى لا صراع سياسي. غير أن الربيع العربي تجاوز الأسئلة الأدونيسية المستعادة ، ورسم أفقا جديدا للنضال لم يلتقط أدونيس ذبذباته . إنه الأفق الذي ترسمه الثورات العربية ليتحول النظام ، بموجبه ، إلى أطار يتسع للتنوع والاختلاف ، ويكون محلا للتفاعل بين المختلفين بدل أن يكون ساحة للصراع والتنابذ والإلغاء. . إن العقل العربي السياسي القديم لم يكن يقبل التعددية ولا التنوع ( هذا هو معنى حكم الحزب الواحد ، وأحد معاني الاستبداد ومصادره). في حين إن مطالب الثورات العربية تكاد تختزل في هذا الأمر على وجه التحديد: تداول السلطة كركن من أركان الديمقراطية في النظام السياسي.
التعميم خطأ منهجي آخر ، قاتل هو الآخر. حين يقول “إن الصراع ليس إلا صراعا على السلطة ، وأن المجتمع ليس إلا تجمعات ، وأن السلطة في المجتمع العربي عنف مركب مرتبط بالمسألة الدينية، وأن الحاضر السياسي الاقتصادي ليس إلا ماضيا متواصلا، وأننا نمارس التنويع على أسئلة قديمة ” الخ. إنما يكرر مقولاته عن الثابت والمتحول في التاريخ العربي ، لكن تعميمها على الحاضر خطأ فادح. ذلك أن كل صراع سياسي هو ، في جزء منه صراع على السلطة ، وأن العنف مرتبط بالسلطة في كل زمان ومكان ، وإن ارتبط بالدين فهو لا يرتبط بدين محدد بل بكل دين ، بما في ذلك بالعلمانية حين صارت دينا أو نقيضا للدين . استسهال التعميم هو الذي يدفع أدونيس إلى التسرع في اتخاذ المواقف ، مؤيدا الثورة الإيرانية ومهللا ثم متبرئا منها ومدينا نفسه على ارتكابه “إثما بتأييدها” .
من تعميماته القاتلة قوله “إن هذا الحاضر السياسي- الاقتصادي ليس إلا ماضيا متواصلا”. وتواصله متجسد في الأسئلة المستعادة ذاتها: ” هل الإسلام هو إسلام علي أم إسلام معاوية ؟ هل القرآن مخلوق أم محدث ؟ هل الإسلام هو الإيمان بالجنة والنار، رمزيا أم حرفيا؟ ألخ. ولا نظن أحدا قرأ في يافطات الربيع العربي ومناشيره وخطبه وبياناته على الفيسبوك أي سؤال من هذا الصنف. أما السؤال المركزي الذي طرحه أدونيس على نفسه وعلى الآخرين: لماذا لم ننجح نحن العرب، حتى اليوم في بناء مجتمع مدني؟ فلم يتحول على يد منهجه إلى إشكالية في البحث العلمي ، إو إلى مهمة سياسية ، بل ظل في إطار البلاغة سؤالا لغير السؤال ، يعبر فيه عن غضب واستهجان وتعجب ! إنه سؤال الشاعر لا سؤال الباحث . ولو طرحه للبحث لوجد إجابات عديدة أو محاولات ومشاريع إجابات لا ترى ما يراه أدونيس من خيبات ومرارات .
جميل أن يكتب أدونيس مبشرا بالثورة ، ” هي ساعة العصف الجميل أتت وخلخلة العقول” . جمال كتابته يكمن في كونها شعرا . لكنه حين يعمم أسلوبه فيكتب السياسة بلغة الشعر ويفهم السياسة بعقل شاعر ، تلتبس في ذهنه آليات الثورة ، ويخلط بين مصطلحاتها ، ويحاكم الحاضر بمقاييس الماضي ، ويحدد الثورة بأنها تغيير جذري في بنية النظام وثقافة المجتمع وقيمه ، ثم يسمي الناصرية والخمينية والانقلابات البعثية ثورات ، الخ.
ربيع العرب هو الثورة الوحيدة منذ بداية العصر الحديث قبل قرنين من الزمن. إذ ليس المطلوب من الثورة أن تبدأ بخلخلة العقول أو بتثوير القيم والعادات والتقاليد والأفكار ، ولا بتغيير البنية الاقتصادية ، على أهمية كل ذلك . بل إن الثورة لا تكتمل ، إلا إذا دخلت من الباب السياسي قبل أي باب ثقافي أو اقتصادي. الثورة السياسية هي التي تحمي سواها من ثورات ، بما في ذلك ثورة العلم. لقد شهدت أوروبا نهوضا عارما في ميدان العلم والثقافة في عصر التنوير ، وترافق ذلك مع حركة إصلاح ديني هزت أركان الكنيسة وسلطتها ، ومع ثورة اقتصادية هائلة نقلت البشرية من عالم إلى عالم ، لكن الحركة الوحيدة التي استحقت صفة الثورة هي إعلان الجمهورية في الثورة الفرنسية . إنها الثورة السياسية التي نقلت العالم كله ، وليس أوروبا وحدها ، من الحكم الوراثي إلى عصر الجمهوريات وتداول السلطة ودولة القانون. ما يحصل في ربيع العرب هو الخطوة الأولى لوضع قطار التطور العربي على سكته الصحيحة ، سكة الديمقراطية وحكم الشعب . عندها تصبح كل الثورات الأخرى، في الثقافة أو في الاقتصاد وسواهما، ممكنة . مفتاح الثورة هو القضاء على الاستبداد ، وفي سبيل هذه المهمة المقدسة تهون تضحيات الشعوب المناضلة والحركات المكافحة لنيل الحرية ، وتزداد المخاطر طبعا . وفي سبيلها ينبغي أن تزول التحفظات النابعة من حساسيات الشعراء أو من مرارات الواقع.
مقالات ذات صلة
“الشيعية السياسية” لمحمد علي مقلد، بين البحث والانطباع
النخب اللبنانية بعد سوريا
الاستبداد القومي