فرضيتي عن “أصولية العلمانيين” مستندة إلى قراءة نقدية لتاريخ النضال العلماني في لبنان والمشرق العربي ، ومنطلقة من فرضية محمد عابد الجابري القائلة بأن العلمانية قضية مفتعلة في المشرق العربي دون مغربه، ومن اعتقادي بأنه لم يعد من الجائز تحميل الآخرين مسؤولية فشلنا، بل علينا أن نبحث في واقع الحركة العلمانية وفي شعاراتها وبرامجها وخلفياتها الإيديولوجية عن الأسباب التي جعلت النضال العلماني قليل الجدوى ومقتصرا على مرضاة النفس.
العلمانية مطلب محق ، بل هي ممر إلزامي نحو الحداثة . ومن المستحيل انتقال بلادنا إلى حضارة العصر من غير العلمانية. ولكن!!! تبدأ المشكلة بالتعريف ، ثم بالتشخيص ، ثم بالحل.
العلمانية ، تعريفا ، ليست نقيض الدين ، بل هي نقيض النظام الكنسي. لذلك ينجم عن التعريف الخاطئ اقتراح حل ، خاطئ هو الآخر، ” فصل الدين عن الدولة” ، وهو خطأ يرتكبه عتاة العلمانيين في بلادنا، ولا ينتبهون إلى إنهم بهذا الاقتراح يستنفرون المؤمنين جميعا ، بمن فيهم العلمانيون منهم. حقلان معرفيان ، وميدانان مختلفان من العمل : الدين من حقل معرفي هو الفلسفة والدولة من حقل السياسة. وهما لا يمكن أن يتداخلا لكي نطالب بالفصل بينهما. بل علينا أن نبحث عن صلة الوصل بين الحقلين ، حيث يكمن الالتباس : رجال الدولة يسعون إلى جعل مؤسسة الدولة دينا (اقترح سمير أمين أن نستكمل شعار ماركس في الاقتصاد ، السلعة صنم ، بشعار في السياسة، السلطة صنم ) ، ورجال الدين يسعون إلى جعل المؤسسة الدينية دولة أو بديلا عن الدولة .
ينجم عن هذا خطأ آخر لا تقره العلمانية من حيث المبدأ والأساس : المطالبة ب” منع رجال الدين من العمل السياسي ” لأنه يتنافى مع شرعة حقوق الإنسان ومع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ، ومع المساواة التي تنص عليها كل الدساتير ” العلمانية” في العالم . والصحيح أن خطيئة رجال الدين تكمن في مكان آخر ، في سعيهم إلى تحويل المؤسسة الدينية إلى دولة ( إلى إطار سياسي). إذن ليس عمل رجال الدين السياسي ،في حد ذاته، هو الخطأ، بل مضمون عملهم السياسي القائم على محاربة قيام الدولة الحديثة التي تحد من نفوذهم وتحصره في التربية الروحية وداخل الكنيسة ( المسيحية والإسلامية) ، أي في الطقوس والعبادات والفقه واللاهوت ، الخ.
علمانيو لبنان شخصوا علة النظام في طائفيته . إذن الطائفية عدو جديد للعلمانية. وبذلك يتكرر خطأ التشخيص الأول : التصويب على الطائفية . وبما أن الطائفية ، تعريفا ، هي ما يعود إلى الطوائف أو ينسب إليها ، فلذلك يبدو التصويب موجها ضد الطوائف بالذات. ضد الطوائف مرة وضد الدين مرة ، إذن يصبح من السهل تصوير العلمانية على أنها إلحاد وكفر بالدين ، وخروج على قيم الجماعة ، إذ إن كل علماني هو بالولادة متحدر من طائفة ، وانتماؤه العلماني يظهره متنكرا لأصله وإلى انتمائه الموروث .
يرى العلمانيون أن “الطوائف هي التي تهيمن على الدولة بكل مفاصلها” ، وأن الطوائف هي “الخصم الذي ينهش ” جسد الدولة ، وطالبوا ب” فك سيطرة الطوائف على الدولة” ، ورأوا أن الطوائف هي التي تتحاصص الدولة ومؤسساتها وخيراتها والثروات الوطنية البشرية والمادية، الخ. يمكن القول “جوازا” إن هذه الجمل التي يستخدمها العلمانيون هي، لغويا ، جمل غير مفيدة ، لأن ترجمتها العملية مستحيلة ، والاستحالة ناجمة من خطأ التعبير أو من خطأ استخدام المصطلح . فحين نقول إن الطوائف هي التي تنهش ، وهي الخصم ، وهي التي تسيطر ، وهي التي تتحاصص، لا نستطيع أن نقدم دليلا واحدا على أن الطائفة هي التي تفعل ذلك ، أو أنها قادرة على أن تفعل ذلك، وإن بحثنا عن الجهة التي تنهش وتسيطر وتتحاصص ، الخ. نجد أنها قوى سياسية تستخدم انتماءها إلى الطائفة مطية لمصالحها ومحاصصاتها ونهش خيرات الوطن والدولة . فهل الطائفة كلها تستفيد من وزير ينتمي إليها أو رئيس أو موظف في إدارات الدولة؟ طبعا لا . المستفيد هو حاشية من المتنفعين ، على حساب الأغلبية الساحقة من أبناء الطائفة.
فضلا عن ذلك ، إذا افترضنا أن الطائفية هي عدو العلمانية ، فهذا ينطبق على لبنان ، لكن ما هو وضع العلمانية في بلدان صافية مذهبيا أو خالية من الصراع بين الطوائف؟ أعني في البلدان التي تحكم بموجب الدساتير؟ من المغرب العربي حتى باكستان. في المقابل ، النظام الأميركي علماني رغم وجود فسيفساء دينية وإتنية ولغوية هي الأكثر تنوعا في العالم ، وهكذا هي الحال في الهند على سبيل المثال ، بينما كان النظام الشيوعي في الاتحاد السوفياتي يدعي العلمنة رغم خلو البلاد من التنوع الطائفي ، الخ.
إذن ، علينا أن نبحث عن معيار جديد أو تعريف جديدالعلمانية. إنها ، لغة، من العالم ( الدنيا ) في الثنائية المعروفة، الدين والدنيا، أي أنها شأن يتعلق بالحياة الدنيا، لا بالآخرة . وشجرة نسبها النظام الديمقراطي وحقوق الإنسان المنصوص عنها في الإعلان العالمي وفي شرعة حقوق الإنسان. وحيث تكون هذه موجودة تكون العلمانية موجودة. والعلاقة بينهما علاقة علة بمعلول. وبالتالي فإن العدو اللدود للعلمانية هو أنظمة الاستبداد على اختلافها ، بما في ذلك تلك التي تدعي العلمانية. ولا يكون الفرد ولا الحزب علمانيا إن لم يكن ديمقراطيا. لذلك فإن تكوين الأحزاب الشمولية والأصولية يتنافى مع العلمنة.
مصطلح الطائفية لا يصلح لتشخيص أزمة العلمانية في العالم العربي ، لأنه لا ينطبق على غير الوضع اللبناني ( هذا إذا صح أنه ينطبق ) ، في حين أن أزمة العلمانية عامة شاملة دولا وأوطانا وأنظمة ليس فيها التنوع الطائفي اللبناني. وهو لا يصلح أيضا كمفهوم إجرائي لأنه لا يساعد لا على التشخيص ولا على العلاج . وجل ما يقدمه كحل هو إلغاء الطائفية ، الشعار الأزلي الذي يستدرج زجلا ولياقات ومناورات وأشكالا من التكاذب لا تنتهي إلا بإبقاء القديم على قدمه.
المصطلح البديل الذي نقترحه هو المحاصصة ، وهو يسقط مثل ” الحفر والتنزيل ” على الوضع اللبناني خاصة ، وعلى سواه في صورة عامة. والمحاصصة هي صيغة مشتقة من الحضارة السابقة على الرأسمالية ، يوم كانت العلاقة بين الحاكم والمحكوم( الاقطاعي والفلاح) قائمة ، في الاقتصاد كما في السياسية ، على نوع من المحاصصة اتخذت أسماء شتى كالمزارعة والمغارسة والمخامسة والمرابعة ، الخ. ومع نشوء الدول الحديثة شكلت المحاصصة ، السياسية والاقتصادية والادارية ، استمرارا لما كان قائما ، فراح الاقطاعيون القدامى ، ومن بعدهم الأحزاب البديلة والحكام الجدد ، يتحاصصون في ما بينهم ثروات البلاد البشرية والمادية ، ويتحاصصون الطوائف ويجندونها في خدمة نظام التوريث السياسي المتنافي مع حكم الشعب والديمقراطية والمواطنية.
مصطلح المحاصصة مفهوم إجرائي يمكن أن ننسبه إلى نظرية الاستبداد . إذن هو أكثر مرونة وجدوى لا لأن الجملة اللغوية التي يستخدم فيها هي جملة مفيدة فحسب ، بل لأن التشخيص بالمحاصصة يسهل وصف العلاج . إلغاء الطائفية لا يجد له ترجمة في النظام الاقتصادي الاجتماعي السياسي ، لأن تحويل الطوائف إلى كيانات سياسية يتم على أيدي المحاصصين من أهل النظام ، سياسيين ودينيين . أما إلغاء المحاصصة فأمر يمكن تجسيده في الدعوة إلى بناء دولة القانون المؤسسات والكفاءة وتكافؤ الفرص والديمقراطية والعدالة الاجتماعية : دولة القانون والحق التي لا يستأثر فيها زعيم بالزعامة ” إلى الأبد” ، ولا تقمع الحريات ولا تعرف نتائج الانتخابات قبل حصولها ، ولا ينتخب رئيس ب ” التعيين” أو بالتوريث. العلمنة هي ما يطالب به الربيع العربي ، من غير أن تذكر كلمة علمانية أبدا في خطاب أو شعار أو بيان أو مظاهرة.
مفتاح الدخول إلى هذا الحل في لبنان هو قانون جديد للتمثيل السياسي يقوم على النسبية( لكي يتمثل الجميع) ويعتمد لبنان دائرة واحدة ( تعبيرا عن وحدة الوطن أرضا وشعبا وعن المواطنية) مع الحفاظ على القيد الطائفي مؤقتا ( حماية للتوازنات الطائفية الحالية التي بفضلها ما زال لبنان ينعم بالحد الأدنى من الديمقراطية).
مقالات ذات صلة
“الشيعية السياسية” لمحمد علي مقلد، بين البحث والانطباع
النخب اللبنانية بعد سوريا
الاستبداد القومي