22 نوفمبر، 2024

قـلـق الحلفــاء

لا يزال كلام كاسبار وايتبرغر يرن صداه في آذان مَنْ سمعوه يوم قال: “إنّ الرئيس الفرنسي ميتران قد أظهر موقفاً سلبياً. لكنني أعتقد أنّه ليس على اطّلاع كافٍ على جميع المعطيات” وقد صدر حكم مماثل، يومذاك على مسؤولي ألمانيا الغربية.

كان ذلك يوم صرّح رئيس فرنسا معترضاً على محاولات تغيير موازين القوى، أي محاولات الانقلاب على سياسة الردع النووي، وكان يقصد في تصريحاته بعض الاتجاهات في السياسة الأميركية التي ترغب في التوصل إلى نظام جديد في توازن القوى العالمي.

البديل الأول يتبناه الرئيس الأميركي نفسه وأطلق عليه ما يسمّى حرب النجوم. وتوقع بواسطته تأمين نظام دفاعي كامل قادر على حماية المواطنين من خطر السلاح النووي وذلك استناداً إلى مستوى من التكنولوجيا ليس متوفراً في الأيام الراهنة ممّا يستدعي خطة لتطوير التكنولوجيا.

أما البديل الثاني فقد اقترحه بعض العلماء وهو يتميّز بكونه أقل تعقيداً وكلفةً وأكثر واقعية من خطة حرب النجوم، كما أنّه، في نفس الوقت أرفع مستوى وفاعلية من الردع النووي. وكانت هذه الفكرة في الحقيقة مثار نقاش في أواخر الخمسينات وقد دعا الرئيس جونسون إلى تطويرها وتعميقها في حين أهملها نيكسون وفكّك المنشآت الأولية التي أُقيمت من أجل المباشرة بتنفيذها.

مع عودة الفكرة الأولى إلى واجهة التمارين الريغنيّة، تعود إلى الواجهة أيضاً مخاوف الأوروبيين من النتائج التي تترتب على ذلك، لا سيما مخاطر التوقف على اعتماد الردع النووي، وما سيؤول إليه سباق التسلح عبر الفضاء. والحجة في ذلك بسيطة. فالتوافق بين الكبار على مسألة الردع النووي تعني الإقرار بتوازن معيّن، من مواصفاته قدرة الجبّارين على إفناء أحدهما الآخر إذا اندلعت الحرب النوويّة وهذا ما يمنع اندلاعها ومن هذه الزاوية يبدو الانقلاب على هذا التوافق بمثابة رغبة في إعلان التفوق من قِبَل أحد الطرفين على الآخر، وهذا مخالف لمنطق الأمور في عصرنا. بالإضافة إلى ذلك يُجمع العلماء الأوروبيون والأميركيون أو معظمهم على أنّ مثل هذا المخطط غير واقعي وغير ممكن على الصعيد التكنولوجي، وفوق كل ذلك تبرز التكاليف الاقتصادية الهائلة لتزرع الرعب في بلادٍ تشكو من أزمات اجتماعية ومشاكل في التنمية والاقتصاد.

نقاط تاتشر الأربع

        جواباً على نصائح السيدة مارغريت تاتشر بضرورة تفادي اللجوء إلى سباق التسلُّح الفضائي، وجواباً على ما أسماه الرئيس فرنسوا ميتران هوس الحرب وتخمة السلاح وقف المسؤولون الأميركيون متمسّكين باقتراحهم متجاهلين حلفاءهم في القارة الأوروبية.

        اقترحت تاتشر على الأميركيين، خلال زيارتها للبيت الأبيض، خطة من أربع نقاط حول المفاوضات بشأن الأسلحة الفضائية:

        النقطة الأولى أو المرحلة الأولى مخصّصة لوضع الدراسات. وخلالها يمكن التفاوض مع السوفييت على مسألة أخرى هي، بالتحديد، مسألة نصب الصواريخ الأميركية في أوروبا. بعد زيارتها، استعجل السيد ماكفرلين القول “إنّ معاهدة الحد من الأسلحة الاستراتيجية المعقودة عام 1972 مسألة يمكن إعادة النظر بشأنها”. والجدير ذكره هو أنّ لكل من فرنسا وبريطانيا والصين مصلحة في احترام تلك المعاهدة والعمل بموجبها، لأنّ أي تطوير في النظام الدفاعي السوفييتي يجعل أوضاعها العسكرية في منتهى الضعف والهشاشة الأمر الذي سيحوّل ترسانتها من الأسلحة النووية إلى نوع من “السلاح الكلاسيكي”.

        الشعور الخطير الناجم عن حرب النجوم هو خشية الأوروبيين من أن تضحي الولايات المتحدة الأميركية بأمن حليفاتها من أجل ضمان أمنها. وترجمة ذلك هو أن توصل واشنطن إلى مستوى أرفع من الدفاع الذاتي من شأنه أن يبعد الحرب النووية عن أرض الولايات المتحدة، لكن ذلك يجعل الحرب المحدودة ممكنة فوق الأراضي الأوروبية. ويزداد الأمر خطورة خلال مجرى تثبيت الأفكار حول حرب النجوم، ذلك أنّ أصحاب الرؤوس الحامية يجدون أنفسهم في ظل ظروف تشجعهم على التورط في ملاحقة أوهامهم حتى النهاية.

        حاولت واشنطن تبديد مخاوف حلفائها، فعرضت عليهم اقتراحاً يقضي بتوسيع مجالات أنظمة الدفاع بحيث يشمل مدى الصواريخ المضادة للصواريخ كل أوروبا الغربية، لكن المشروع بدا باهظ الكلفة عدا عن أن متطلباته التكنولوجية غير متوفرة أيضاً، بل إنّها أكثر تعقيداً ممّا هي في الولايات المتحدة، وذلك يعود إلى قصر المسافة التي تفصل المعسكرين الشرقي والغربي عن بعضهما داخل أوروبا، والترجمة العملية لذلك هي استحالة القدرة على اتخاذ قرار سياسي خلال فترة عشر دقائق وهو الوقت اللازم لكي يقطع الصاروخ المسافة من الأراضي السوفييتية إلى عواصم أوروبا الغربية.

التصنيع مقبول ومعقول

        استكمالاً لخطة الصواريخ المضادة للصواريخ، تعد الولايات المتحدة العدّة لتعزيز أجهزتها من الصواريخ المخصّصة لضرب المركبات الفضائية، لا سيما بعد أن ثبت حجم الدور الذي تلعبه المركبات في مجال الاستطلاع والمراقبة والاتصالات والسيطرة على البحار وفضح الخطط المعادية. ويعتقد المراقبون الغربيون أن تفوقاً بسيطاً في هذا المجال تتمتع به الولايات المتحدة وقد أثبتت دراسة حديثة صادرة عن مكتبة الكونغرس الأميركي أنّ ثلثي المركبات الموجهة إلى الفضاء هي ذات أهداف عسكرية.

        إلى جانب هذه التجهيزات الاحتياطية الضخمة يبذل المعنيون اهتماماً كبيراً بتطور الأسلحة الكلاسيكية حيث تدور الحرب الفعلية. فيبتكر كل معسكر، في هذا المجال، أكثر أنواع الأسلحة تطوراً وانسجاماً مع معطيات العلم والتكنولوجيا والاكتشافات الإلكترونية، وليست المبالغ التي تنفقها واشنطن في هذا المجال ثانوية. الأمر الذي سيدفع حلفاءها في أوروبا إلى اللحاق بها من أجل تطوير آلة الحرب التقليدية. على كل حال يبدو أنّ هذا الموضوع ليس جديداً على العلاقات داخل حلف الأطلسي، لكنّه يأخذ، هذه المرّة، بُعداً جديداً.

        قرّرت واشنطن تخصيص مبلغ ستة وعشرين ملياراً من الدولارات للدراسة الخاصة بحرب النجوم، ممّا يشير إلى تصميم على تجاوز المستوى التكنولوجي الحالي المتوفر، وليس لدى دول أوروبا طاقة على مجاراة الولايات المتحدة في هذا المجال.

        إنّ شيئاً وحيداً يمكن اعتباره معقولاً ومقبولاً في مجال خطة حرب النجوم ألا وهو موضوع التصنيع، وشرط ذلك أن تقرّر الجهات المعنيّة بوضوح عزمها على استخدام الفضاء والمركبات استخداماً عملياً، وليس ذلك أمراً أكيداً.

        على ضوء ذلك تبدو أوروبا الغربية أمام خيارين: إمّا عقد اتفاقات ثنائية مع الولايات المتحدة، وإمّا صياغة برامج خاصة تهدف إلى بناء أوروبا بمعزل عن الحرب الباردة التي يمكن أن تورّطها فيها واشنطن. ويظهر أنّ الرئيس ريغن، المزهو بنجاحه الكبير في الولاية الثانية، يحاول أن يظهر نفسه على طريقته، رجل السلام ورجل الحوار الإيجابي، لكنّه يحاول أيضاً أن يجر الدول الأوروبية إلى مشاريعه.

        يبيّن حجم المبالغ الأميركية المخصّصة لتطوير أجهزة الدفاع والهجوم أنّ الخطة الريغنيّة مشروع لتسعير سباق التسلُّح ينبغي الحذر منه ومجابهته قبل أن يدخل حيز التنفيذ. وكم تبدو حاجة الأوروبيين كبيرة، أكثر من أي وقت مضى، لكي يتفقوا على برنامج مشترك يهتم بالدرجة الأولى بمصالح أوروبا.