18 أبريل، 2024

بسـتانيّــو الجحيــم

هزيمة الغرب في الجنّة

        كتاب “بستانيّو الجحيم” الذي وضعه السفير الفرنسي في لبنان بول مارك هنري متهماً فيه بوضوح “بستانيّي الجحيم” الذين سبق للصحافي الأميركي جوناثان راندال وسمّاهم “أمراء الحرب”، ومتهماً أيضاً الحلف الإسرائيلي الغربي بالمضي بعيداً في تطرفه، مشيراً، وبشكل مضمر، إلى أنّ “الكيان اللبناني المصطنع” هو الذي كان وراء الحرب اللبنانية، وإلى أنّ الخروج من هذه الحالة “المصطنعة” كفيل بإخراج هذا البلد من أتون الحرب الأهلية.

        يستند الدبلوماسي الفرنسي إلى مصادر عديدة يذكرها في الكتاب وإلى اطّلاعه على التاريخ اللبناني المترافق مع الدور الفرنسي فيه، وإلى خبرته الواسعة في الشؤون اللبنانية وعلاقاته الوطيدة مع شخصيات هذا البلد السياسية من الجيل السابق والأجيال الحالية.

        نبدأ من خاتمة الكتاب حيث يحاول المؤلّف أن يختصر ما قاله في ما يزيد عن مائتي صفحة. يقول بول مارك هنري:

        لم يسبق لأحد أن وضع موضع البحث وجود كيان أُمّة للبنان بالمعنى الذي أقرّته هيئة الأُمم لمفهوم الكيان – الأُمّة. لكن العقيدة البعثية (حزب البعث) تعتبر لبنان والكيانات العربية الأخرى بمثابة كيانات “انتقالية” نحو كيان الأُمّة العربية. ويرى المسلمون الأصوليون أنّ الأُمّة ليست إلاّ بدعة غربية وإنّها، في الوضع اللبناني حالة انتقالية نحو الأُمّة الإسلامية التي يستظل برايتها المؤمنون بالقرآن.

        وعلى هذه القاعدة يمكن تصوُّر النقاشات المستفيضة التي دارت حول وضع الحدود الجغرافية بين دول المنطقة. وهنا يمكن القول أنّ لبنان كان الضحية الأكيدة لسجالٍ نشأ إبّان قيام إسرائيل عام 1948 والاعتراف الدولي بها، وهي الدولة الوحيدة، في القاموس الدبلوماسي الحديث، التي تقوم دون أن تتحدّد، بشكلٍ مسبق، حدودها الجغرافية. واكتفي يومئذٍ بالانطلاق من حدود المنطقة التي كانت تخضع للانتداب الإنكليزي المقر في سايكس – بيكو ليكون، بشكلٍ مضمر أساساً في رسم الحدود.

أمّا الحدود الجنوبية لفلسطين فقد كانت قد حُدّدت بين كل من مصر والدولة العثمانية منذ بداية هذا القرن. وتمكّنت إنكلترا، وهي الدولة المنتدبة، أن تشرّع وتسن القوانين للفصل بين الأردن وفلسطين على أساس سلسلة من الاتفاقات الموضوعية بين عامي 1920 و1939. ففي عام 1922 أطلق اسم الأردن على المنطقة الواقعة إلى الشرق من فلسطين والتي أصبحت دولة مستقلة في الثاني والعشرين من مارس (آذار) 1946، واعترفت بها الأُمم المتحدة في الرابع عشر من ديسمبر 1955.

        واستمرت الحدود الجنوبية، منذ تأسيس إسرائيل عام 1948 وحتى توقيع اتفاقيات كمب دايفيد في عام 1978، حالة من الأمر الواقع الذي كان يُطلق عليه اسم خطة الهدنة بدل اسم الحدود. لكن خطوط الهدنة مع لبنان كانت هي بالذات الحدود التي فصلت يومذاك بين منطقة الانتداب الفرنسي ومثيلتها البريطانية كما أقرّتها هيئة الأُمم.

        وجد لبنان إذن قيام إسرائيل، واستمر في حالة غامضة. فبينما كان المجتمع الدولي يعترف به دولة مستقلة ذات سيادة وذات حدود معترف بها، بقي، في علاقاته مع الدول المجاورة له، بمثابة نوع من الالتباس السياسي القائم. فمن جهة أولى لم تعترف سوريا به كدولة مستقلة رغم أنّ انتماءهما معاً إلى منظمة الأُمم المتحدة يشكّل نوعاً من الاعتراف المتبادل. ومن جهة ثانية، ورغم كون الحدود الجنوبية للبنان لم تكن في يوم من الأيام موضع شك عند إسرائيل، فقد كانت متطلبات الدولة العبرية، على المستوى الأمني تثير، على الدوام، مشاكل سياسية كفيلة بأن تضع مسألة الحدود اللبنانية الجنوبية موضع البحث، على الصعيد العملي وليس القانوني.

        وليس سراً أنّ شائعات كانت متداولة ومفادها البحث عن إمكانية رسم حدود جديدة لدول المنطقة يمكن أن يدفع ثمنها لبنان. وبعد أن تمركزت على الأراضي اللبنانية قوات إسرائيلية وأخرى سورية بات الكيان اللبناني في ذاته، بمثابة مشكلة مطروحة على المستويين الداخلي والخارجي.

        من هنا يمكن الاستنتاج أنّ السيادة الوطنية اللبنانية تتطلّب انسجاماً كاملاً من جانب كافة القوى الأجنبية المتواجدة على أراضيه، شرط ألاّ تبقى هذه القوى في نظر الطوائف اللبنانية، بمثابة عوامل خارجية تضمن حماية المصالح الخاصة التي تعود إلى كل طائفة. إذْذاك يمكن أن يُعاد تنظيم السلطات المدنية والعسكرية، الأمر الذي لا مفر منه لقيام الدولة المستقلة.

طوائف لبنان لم تطالب بالانفصال عنه

        ومن الملفت للنظر أنّ أياً من الطوائف اللبنانية المعنية (المسلمون، المسيحيون، الدروز) لم تطالب بالانفصال عن الكيان اللبناني ولا بالحكم الذاتي، ولا بأي وضع قانوني يمكّنها من الارتباط عضوياً بكل من سوريا أو إسرائيل. لكن السياسة الخارجية اللبنانية كانت عبارة عن توافق بين الطوائف اللبنانية أجاز الارتباط بدول خارجية “منحازة” وبأخرى “غير منحازة” بينما استمرّ الغرب مطالباً بتحديد أوضح للخيارات والانتماءات بين “العالم الحر” والاتحاد السوفييتي، وذلك بضغط واضح من الولايات المتحدة الأميركية، زعيمة العالم الحر، وقائدة تحالفه، بلغ حدود المحال لا سما إذا كان الضغط يعني دولة على غرار لبنان. وبذلك وضعت على المستوى نفسه مشاكل ليست من الطبيعة نفسها، كمشكلات التحرر والاشتراكية والحريات السياسية والقمع وأخيراً، الاختيار بين موسكو وواشنطن. وقد كان ذلك يعني تجاهل وجود خيار ثالث بل خيارات عديدة أخرى.

        إنّ أياً من الزعماء اللبنانيين، في مختلف الطوائف والفئات باستثناء القليلين، لم يقبل بهذه الخيارات. ولذلك اعتبروا الحرب الأهلية التي تدور رحاها منذ عشر سنوات شكلاً من الفضيحة السياسية، وتبادلوا التُّهم حول أسبابها ومسبّبيها والمسؤولين عنها.

        لقد قامت دول المنطقة، ومن بينها لبنان، دون أن يكون لأحد منها أية ضمانة ذاتية للدفاع عن النفس والحفاظ على الكيان إذا لم يكن ذلك مستنداً إلى كفالة الدول المنتدبة، فرنسا وبريطانيا، في الشرق الأوسط. وبتعبير آخر، يمكن القول أنّ هذه الكيانات قد قامت على أساس توازن دولي بين القوى التي خرجت منتصرة بعد الحرب الأولى. ممّا يعني أنّ التوازن الذي قام بعد ذلك قد أخلّ بتلك الكفالة أو ألغى مضمونها.

        إنّ مطالبة لبنان الحديث الاستقلال بتأمين الحماية الخاصة بقواه الذاتية هي ضرب من المحال، أو على الأقل، مسألة لم تنضج بعد، ولذلك يبدو أنّ الحماية الوحيدة التي يمكن أن تضمن له استقلاله هي تلك التي يمنحه إياها المجتمع الدولي، وبالتحديد، مجلس الأمن الذي تنتظم علاقاته على أساس توازن من القوى بين الدول الكبرى، وذلك خلافاً لما يعتقده البعض في إمكانية تأمين حماية كافية له عن طريق التضامن العربي الذي سرعان ما يبدو عليه الارتباك عند أيّة هزّة وبعد أيّ تحرك إسرائيلي. ومن هنا رأينا كيف تحولت قوات الردع العربية إلى مجرد قوات سورية تهتم وحدها بالتوازنات في لبنان.

الغرب مسؤول عن قيام إسرائيل

        مع أحداث السنوات الأخيرة، وضع لبنان بين فكّي الكماشة، وفي أتون الصراع السوري – الإسرائيلي. ولم يؤدِّ ذلك إلى طرح مصداقية وحدها موضع البحث والتساؤل بل طرحت، إضافة إلى ذلك وقبل ذلك، مصداقية الغرب الأوروبي والأميركي وعجزه عن إيجاد صيغة للتعايش الإقليمي تكون كفيلة بمعالجة الصدمة الكبيرة التي سبّبها قيام إسرائيل لا سيما وأنّ الغرب مسؤول بشكل كلّي عن قيامها.

        المحاولة الأكثر وقاحة هي تلك التي قامت بها إسرائيل لكسر أطر التحالف التي كانت قائمة بين سوريا ودول الرفض العربية، متخذة من لبنان ساحة صراع حول هذه المسألة ولم يكن ذلك ممكناً لولا مساعدة الولايات المتحدة وتأييدها لها حتى ولو أدى إلى مجابهة مع الاتحاد السوفييتي. وقد سقطت هذه المحاولة وشهدت الأشهر الماضية (عام 1984) مظاهر الفشل الأميركي والإسرائيلي في المنطقة.

        مع هذا الفشل يمكن القول أنّ قضية استقلال لبناان، ضمن إطار الانتماء إلى العالم الغربي الذي تشكّل إسرائيل رأس حربته، هي قضية شائكة تحمّل لبنان مخاطر الصراع العالمي وهذا ما لا يرضى به أحد. لذلك رأينا كيف خضع لبنان  إلى ما يشبه السيناريو المستحيل، وكيف تعنت قادة الغرب والقادة الإسرائيليون وتمسّكوا باعتقادات غامضة افترضت أنّ سوريا ستستسلم في النهاية أمام الضغوط الأميركية والإسرائيلية والعربية المباشرة وغير المباشرة، وستعلن انفصالها عن المعسكر الشرقي وعن نظام الدفاع السوفييتي.

كان من نتائج هذه الهزيمة ” الغربية” أنّ لبنان بقي وحيداً في مواجهة إسرائيل الساعية إلى ضمان أمن مناطقها الشمالية وتحييد السياسة اللبنانية بل سحبها من دائرة الارتباط العربي، كما أنّه بقي وحيداً إزاء سوريا التي تريد العكس تماماً، أي منع قيام أي اتفاق بين لبنان وإسرائيل مهما كلّف الأمر.

إنّ العديد من الأشخاص لا يذهبون في تشاؤمهم إلى هذا الحد، ويعتقدون بل يأملون في التوصل إلى حل شامل في الشرق الأوسط يشكل حل القضية الفلسطينية الحلقة المركزية، بما في ذلك حل قضية القدس وبذلك يتأمن نظام وتوازن جديدان يتيحان للبنان أن ينعم بالهدوء، ضمن الحدود، ضمن الحدود الراهنة، على أساس حياد يشبه الحياد النمساوي أو السويسري أو اللوكسمبورغي.

إذا كان صحيحاً أنّ دول الشرق الأوسط، ومنها لبنان، متعطشة للسلام فإنّ من الأكيد أنّ الأجيال الجديدة قد ألقت جانباً كل الآمال التي علّقتها الأجيال السابقة على العرب، واعتبرت أنّ ثمرة تلك الآمال هي بالضبط ما جناه اللبنانيون من فوضى وضعف وتهديد دائم بتجدُّد الحروب الأهلية. كما أنّ من الأكيد أنّ لبنان لا يمكن عزله عن محيطه العربي، حتى وإنْ كان ممكناً عزل أزمته عن القضية الفلسطينية، لا سيما وأنّ تيارات عديدة تتجاذبه اليوم وتجمع كلّها على رفض المشروع الغربي بجميع أشكاله بدءاً من رفضها لإسرائيل بصفتها رمزاً للوجود الغربي.

إنّ وقف دورة العنف الجهنمية هي ضرورة ملحّة وحيوية ليس فقط بالنسبة للبنان، بل بالنسبة للغرب الأوروبي وللشرق الآسيوي إذا أجمعت الإرادات على عدم العودة إلى عصور الظلام. وإنّ فرنسا بالدرجة الأولى معنيّة بهذا التحدي بفضل العلاقات التاريخية التي تربطها بهذه “الجنّة” التي اسمها لبنان التي لا ترغب في أن تضيع رغم الأخطاء القاتلة التي ارتكبها “بستانيّو الجحيم”.

الميثاق أذكى نار الحرب

        كيف نحاول أن نسقط على اشرق نظاماً مستوحى من عالم الغرب وعلى النموذج الفرنسي العريق للديمقراطية؟

        ذلك هو السؤال الإنكاري الذي يطرحه بول مارك هنري مؤلّف الكتاب مضمّناً إياه الإجابة الواضحة على أنّ المحاولة صعبة إنْ لم تكن مستحيلة. وفي ذلك طبعاً مظهر من مظاهر التفكير الغربي الذي ينكر على دول العالم الثالث إمكانية اتباع طرق التطور الديمقراطي التي عرف بها العالم الغربي. وحتى لا يكون الكلام عن بول مارك هنري وعن أفكاره نوعاً من الأحكام المسبقة، تترك للسفير الفرنسي أن يقول رأيه بالأزمة اللبنانية وبأسبابها وبالحلول المقترحة لها.

        يقول الكاتب: إنّ الجمهورية اللبنانية قد ولدت، من الناحية الشكلية، عام 1926 أي يوم إعلان الدستور اللبناني أول مرّة. وابتداءً من عام 1920 أنشأ الجنرال غورو، الذي انتدبته الحكومة لإدارة شؤون البلاد والمنطقة في أرض فلسطين أربعة كيانات سياسية.

فبالإضافة إلى دولة لبنان الكبير، وهي الدولة المستقلة، أُقيم كيان في دمشق وآخر في حلب وثالث ففي الأراضي المستقلة للعلويين والتي أُلحق بها فيما بعد جبل الدروز. (وهذا يثبت الطابع الافتعالي في رسم حدود الكيانات وفي قيامها ويثبت أنّ هذا التقسيم المصطنع لبلدان المنطقة إنّما تمَّ بمشيئة الاستعمار وانسجاماً مع مصالحه).

وفي 24 تموز (يوليو) 1922 فكر الانتداب الفرنسي بإقامة نظام خاص في كل من سوريا ولبنان بما يسهّل تطويرهما كبلدين مستقلين. وقد صدر القرار الفرنسي بفصل لبنان عن سوريا إثر الانتفاضة الشهيرة عام 1925.

وقد تمَّ إقرار مشروع ميثاق في لجنة مؤلَّفة من اثني عشر عضواً برئاسة موسى نمور وقد صوتت اللجنة بالإجماع السبت في 22 أيار (مايو) 1926 ووضع الميثاق موضع التنفيذ في الثالث والعشرين من أيار (مايو) 1926. واستناداً  إليه اعتمد نظام جمهوري رئاسي حسب النموذج الأميركي أو حسب النموذج الفرنسي ما قبل ماك ماهون.

وعلى أساس هذا الميثاق يُنتخب المجلس النيابي على قواعد طائفية وهو بدوره يختار رئيس الجمهورية. وقد انتخب أول مجلس نيابي استناداً إليه وإلى ميثاق 1943 الذي كان كفيلاً بإذكاء نار الحروب بين الطوائف بدل تهدئتها وإطفائها.

يُجمع كل الأطراف في لبنان على طريقة توزيع المقاعد في المجلس النيابي على أساس طائفي، لكن اللبنانيين غير مهيّئين لأن ينتموا إلى وطنهم دون أن يكون ذلك عبر ولاء طائفي، حيث تشكّل الطوائف أحزاب البلد السياسية.

في 25 أوكتوبر 1919 صرّح البطريرك الحويك بأنّ استقلال لبنان لا يعني فقط زوال الحكم العثماني عنه بل يعني أيضاً زوال أيّة سلطة عربية أخرى وبشكل خاص النفوذ السوري. فلا شيء يربط هذين البلدين. فلا الماضي ولا التطلعات ولا التطور الثقافي أو السياسي… فلبنان يشكّل مركز الثقافة العربية في الشرق الأوسط وما حققه في هذه الميادين يثبت استقلاليته بشكلٍ لا جدال فيه. ويستنتج الحويك بأنّ قدر لبنان هو في أن يكون تابعاً للعالم الغربي ومرتبطاً به.

إنّ أيّة أزمة تتعلق بلبنان وسوريا وفلسطين هي بالضرورة عنصر يهدّد التوازن بين الشرق والغرب وذلك سواء على مستوى ميزان القوى بين الطوائف أو على المستوى الخارجي بين القوى العظمى. وقد تجلّى تحالف اللبنانيين والسوريين أكثر ما تجلّى عندما طالبوا معاً برحيل الفرنسيين عن بلادهم.  وقد انجر إلى تلك المطالبة مسيحيو لبنان. فصرّح البطريرك الحويك في الأول من تموز (يوليو) 1943 بأنّ العلاقات بين المسيحيين والمسلمين هي بشكل عام جيدة ولكن “يتملّكني شعور بأن تتغير الصورة إذا ما انتهت حماية مصالح المسيحيين وفي هذه الحالة يصبح من الصعب أن يعيش المسيحيون والمسلمون بسلام… إنّ حماية فرنسا لمصالحنا تكفينا في هذه الأيام لكن، سيصل وقت نحتاج فيه إلى ضمانة الدول الكبرى: الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي وبريطانيا”. ويعلّق الكاتب بقوله: وهذا ما لم يستطع لبنان الحصول عليه حتى يومنا هذا. وظلَّ واقع هذا البلد يحتاج إلى حماية خارجية لوقف النزاع بين بنيه.

وقد أدّى قدوم الفلسطينيين إلى لبنان وإقامتهم فيه إلى الإخلال بالتوازن الديموغرافي الطائفي ورغم أنّهم ساهموا بشكل فعّال في ازدهار الاقتصاد اللبناني حيث كانوا اليد العاملة في المدن التي أقاموا حولها أو قريباً منها.

كـلام عـن بيـروت

        لا يمكن الحديث عن لبنان دون التوقف بالكلام عن بيروت، عاصمة التقدم والازدهار التي نمت بين عامي 1950 و1975 بفضل أموال بترول الشرق الأوسط وبفضل موقعها بين الشرق والغرب وقدرة اللبنانيين على توظيف رؤوس الأموال. فمن لم يعرف بيروت قبل الحرب الأهلية فقد معرفته بإرادة الغنى والعيش المرفّه… باغتيال رياض الصلح عام 1951 بدأ ناقوس الخطر على الميثاق يدق!

        بعد عام 1956 بدأ لبنان يخاف من محيطه حيث تقوم السياسة في كل بلاد المنطقة على أساس الحركات الفردية والدكتاتورية. وقد تحالف المسلمون مع الناصرية التي تجسّد الطموح إلى الوحدة القومية، ثم عاد لبنان ليتنفس الصعداء بعد الانفصال  عام 1961.

        واجهت التعددية الطائفية في لبنان عدداً من التيارات والاتجاهات منها الناصرية والبعث ومنها اتجاه يدافع عن الديمقراطية المستوحاة من الغرب بالإضافة إلى حركة سياسية فلسطينية في طريق النمو.

        أظهرت أحداث 1958 الفجوة التي تفصل المسلمين عن الحكم في لبنان. يومذاك لعب كميل شمعون ورقة رصيده مع الغرب وتلقّى دعماً قوياً من أيزنهاور وأدخل بذلك تدويل الأزمة اللبنانية. وقد كانت تلك الأحداث إرهاصاً بما حدث في عامي 1983 – 1984، حيث حصل في المرحلتين أحداث متشابهة تماماً منها الانقسام حول الموقف من الجيش، وطلب التدخل الخارجي رسمياً، استناد المعارضة إلى دعم خارجي أيضاً..

        ولقد عاد أمين الجميّل ليقترف أخطاء شمعون نفسها. غير أنّ هذا الأخير قد اصطدم بموقف قائد الجيش يومذاك فؤاد شهاب الذي رأى في استمرارية لبنان تكمن في إدخال المكننة إليه وتحديث أجهزته وتأكيد الانتماء إلى الوطن من غير المرور بالطائفة كما تفترض الاستمرارية عدم زجّ الجيش في الصراع السياسي الداخلي حماية له من الانقسام والتشرذم ومحافظة على وحدة البلد واستقلاله.

        كان جورج نقاش منظّراً للشهابية (نسبة إلى فؤاد شهاب) وقال إنّ رئيس الجمهورية اللبنانية لا يجوز أن يكون رئيس حزب، وكأنّه يشير في ذلك، دون أن يدري طبعاً إلى رئاسة الجمهورية بعد عام 1982.

        في عهد فؤاد شهاب كلفت بعثة الأب لوبريه (1961 – 1962) بوضع دراسات عن الوضع في لبنان فخلصت إلى استنتاجات حول الإصلاح الاقتصادي وصهر الشعب اللبناني في بوتقة واحدة وحلّ مشكلة التفاوت في أشكال الإنتاج الاقتصادي بين الريف والمدينة ومشكلة التمايز الفاضح بين فئات الشعب وطبقاته. ونبّهت اللجنة إلى العاصفة القادمة رغم أنّ الأوضاع  في حينها كانت تشير إلى حالة من الرخاء الاقتصادي الذي كان يبهر العالم. لكن هذا التنبيه ذهب أدراج الرياح بسبب الموقف المعارض الذي واجه سياسة فؤاد شهاب لا سيما في الأوساط المسيحية التي وصفته “بالرئيس الماروني المسلم”.

        في عام 1969 أدخلت اتفاقية القاهرة لبنان في شبكة الصراع العربي الإسرائيلي رسمياً وانتشر الفلسطينيون مع سلاحهم في الجنوب وبقيت مدن الجنوب تشهد الوجود المسلّح والسيطرة الفلسطينية وبقيت كافة مناطقه عرضة للاعتداءات الإسرائيلية، وتضاعفت وتيرة الهجرة من الجنوب باتجاه بيروت لتتشكّل أحزمة البؤس والمساكن المؤقتة.

الجنـوب قضيـة العـرب

        وبدأ الجنوب يستعد لأن يكون ساحة الحرب العربية – الإسرائيلية المقبلة. وقرّرت الجامعة العربية أنّ قضية الجنوب لم تعد قضية خاصة بلبنان بل هي تخص العرب جميعاً وبرز الجانب الطائفي حيث انتصرت فئة من اللبنانيين للفلسطينيين وناصرتهم في ظل تحوُّل المسألة الفلسطينية إلى موضوع التضامن العربي والإسلامي ضد العدو المشترك.

        وهنا يتوقف الكاتب عند المسألة الشيعية ويستفيض بشرح مسهب عن نشوء هذه العقيدة منذ أيام علي بن أبي طالب مروراً بما كان لامرتين الشاعر الفرنسي قد قاله عنهم وما ذكره عن عظمة شأنهم في بعلبك وبعدها في صور.. ثم يعود الكاتب إلى استكمال السياق التاريخي للأزمة فيقول:

        لم يكن الجيش اللبناني مجهّزاً بالمعدّات المتطورة والحديثة، وكان من حيث العدد أقليّة بين باقي المجموعات المسلّحة. فلم يكن مهيّئاً لا تقنياً ولا سياسياً لخوض معركة سواء كان ذلك ضد إسرائيل أم لفض نزاعات داخلية بين الفئات المتناحرة. وفي المقابل كان الجهاز العسكري الإسرائيلي، بلا منازع، الأكثر تجهيزاً وتطوراً على الساحة العالمية وذلك بفضل الولايات المتحدة الأميركية (فرنسا بشكل جزئي) وعبثاً كان العرب يحاولون إقامة توازن استراتيجي بينهم وبين إسرائيل، ذلك أنّ المسألة لا تتوقف عند حدود قوة البترول بل تتعدّاها إلى رسم استراتيجية متكاملة.

        لذلك بات على لبنان أن يختار أحد الحلول الأربعة:

  1. الارتباط، دون تحفظ، بركاب جهاز الدفاع الغربي ووكيله الإسرائيلي في المنطقة
  2. الانتماء إلى هيكلية عربية من خلال تحالفه مع سوريا مع ما يعنيه ذلك من علاقة مع الاتحاد السوفييتي.
  3. تجزئة أرضه بين مناطق نفوذ سورية وأخرى إسرائيلية.

أمّا الحل الرابع الذي يطمح إليه اللبنانيون فقد كان يقضي بتوافق القوتين العظميين على تحييد البلد من خلال قرار رسمي في مجلس الأمن.

ولم يكن لبنان يوماً بقادر، وحده، على الاختيار بسبب ضعف أجهزته المبنية على أسس طائفية. إنّه البلد الذي لا يشبهه بلد آخر في الشرق الأوسط من حيث تنوُّع من يعيشون فيه ومن حيث هشاشة بنيته إزاء الصراعات الإقليمية. ولذلك فقد بقي على الدوام كبش محرقة.

واندلعت الحرب الأهلية في عام 1975. وبدأت الميليشيات الكتائبية بأعمال الذبح على الهوية، وأخذت إسرائيل تقصف المخيمات وخاصة في الجنوب وذلك لطمأنة المسيحيين، كما أنّ المسلمين أخذوا جانب الفلسطينيين في الصراع الداخلي ضد المسيحيين. وتسارعت الأحداث، وتتالت المجازر من الطرفين وبدا أنّ “الجنّة” في طريقها إلى الزوال، وأنّ البلد يسير، اقتصادياً، نحو الانهيار والكارثة وإنْ بدا أنّه يشهد بالرغم من الحرب اتعاشاً اقتصادياً.

وبانقضاء العام 1976 أصبحت الاتفاقات السابقة، إعلانات الجنرال غورو، اتفاقية سايكس بيكو، تصريحات الجنرال ديغول.. مجرد ذكريات. وأصبح لبنان تحت المظلّة السورية.