28 مارس، 2024

أميركا: من فيتنام إلى لبنان إلى أميركا الوسطى

هزيمتان واحتمال خيبة

        لا شك أنّ الذكرى السنوية العاشرة لسقوط سايغون قد لعبت دوراً في عملية الاقتراع داخل الكونغرس الأميركي. فقد رفض مجلس النواب طلباً للرئيس ريغان بإعطاء مساعدة للثوررة المضادة في نيكاراغوا. ما يؤكّد هذا الاستنتاج هو أنّ ثلثي الشعب الأميركي توصّل بعد عشر سنوات من الحرب إلى أنّ بلادهم كان عليها ألاّ تتورّط في حرب فيتنام. وما تزال آثار هذه الحرب – الهزيمة ظاهرة في المزاج الأميركي. وحده الرئيس ريغان يمشي عكس التيار، ويحاول أن يكرّر الورطة مرّة أخرى، بل مرّة ثالثة، بعد أن جرّب حظّه في لبنان وفشل، هذا إذا استثنينا غزوة جزر الغراناد في البحر الكاريبي، باعتبارها عرض عضلات لقوات المارينز المتقهقرة من شواطئ بيروت.

        جوهر القضية كما يقول سناتور من الحزب الديمقراطي هو في معرفة “ما إذا كان الكونغرس سيوقّع شيكاً على بياض للرئيس الأميركي لكي يجر البلاد إلى تدخُّل جديد، بل مغامرة جديدة في أميركا الوسطى، الأمر الذي يرغب الأميركيون أن يتفادوه”.

        عام 1983 قال الرئيس الأسد “أنّ الولايات المتحدة الأميركية ذات نفس قصير”. كان ذلك في أعقاب اختبار القوى والمواجهة الحامية التي حصلت في لبنان، وقد تكرّر القول على أثر طرد المارينز من الشواطئ اللبنانية عام 1984.

        وقف والتر كروكيت، وهو مدير برنامج الأخبار المتلفزة في شركة سي بي أس ليتوقع، في 27 فبراير 1968، وقوع الجيش الأميركي في المأزق الفيتنامي، أو في فخ الجيش الذي تقوده هانوي، وبعد مضي ستة عشر عاماً راح يكتب، في الرابع عشر من مايو 1984، عن “فيتنام التي تعيش عصر الدراجة بينما يعيش العالم عصر العقول الإلكترونية”. وربّما لكي يواسي النفوس من ثقل مشاعر الهزيمة ومن وطأة هذا الكابوس. وأضاف “إنّ النظام الفيتنامي قد فشل في وضع أُسس سليمة قادرة على الاستمرار”.

        ولم يكن والتر كروكيت وحيداً، بل هو جزء من سيمفونية العداء الحاد جداً لفيتنام، شاركته في ذلك كل وسائل الإعلام من مجلاّت وجرائد ومحطات إذاعية وتلفزيونية، وكلّها تحمل بصمات الكره والبغضاء والتهجُّم على مَنْ تسمّيهم “أصحاب النزعة العسكرية، الإمبرياليين المحليين، أسياد التعاسة والتخلُّف…”. والرئيس ريغان يحاول أن يستفيد من التغيرات الجيوسياسية، والنفسية أيضاً. وفي سبيل ذلك تنفق الإدارة الأميركية الأموال الطائلة للمضي بالحملة الإعلامية بصدد أمواج الهجرة الكامبودية بل “المذابح” التي ينظّمها الفيتناميون، ويستغل ذلك من أجل الحصول على تأييد رسمي وشعبي للمضي في مغامرته الجديدة. والأميركيون لا يعرفون، بشكلٍ دقيق، صحة هذه الأخبار، لا سيما وأنّهم سمعوا في الأعوام القليلة الماضية عن مذابح بحق المسيحيين في لبنان، وعن تنامي الإرهاب الدولي في منطقة الشرق الأوسط، وعن ضرورة الدفاع عن حقوق الإنسان، وعن العالم الحر الخ. كل ذلك لكي يبرّر تدخُّل المارينز في لبنان.

        يستند الرئيس ريغان على أرقام تضعها استطلاعات الرأي. عام 1983 كان 14% فقط من الأميركيين قد أيدوا تدخُّل بلادهم في فيتنام. وقد قفز الرقم إلى 19% هذه الأيام. إنّها الزيادة الكافية لكي يبني الرئيس الأميركي أحكامه عليها. وبين هذين الرقمين أصغى الرئيس غبطة إلى شعبه وهو يصفّق للتدخُّل في الغراناد. لكن هذه الأرقام لا تلغي حقيقة أخرى وهي أنّ الجيل الذي كان في بداية الحرب الفيتنامية في طفولته الثانية هو اليوم في شبابه ويحمل آثار الحرب على جلده وأعصابه وربما على ذاكرته، فيرسم بما يملك من وسائل صور الضحايا الذين فاق عددهم ثمانية وخمسين ألفاً. ويكفي أن يرى المرء النصب التذكاري. وهو محجّة المعاقين والمناضلين من أجل السلام.

        إنّه جيل كامل يقف أمام النصب فيتذكّر، يبتعد عنه فينسى. لكنه لا يملك أن ينسى مرارة استقباله المارينز وهم عائدون من شواطئ بيروت. بيد أنّ السنوات العشر التي تفصل بين الخيبة في فيتنام والخيبة في لبنان تمثّل مرحلة التقييم الصامتة. في بدايتها قرّرت واشنطن أن تضع حداً لتدخُّلها المباشر في الحرب الخارجية نادمة على ذهابها بعيداً في استخدام جيوشها في وحول الشواطئ الفيتنامية؛ وقد دفع حلفاؤها ثمن الندم، فأعلنوا استعدادهم للقيام بما كانت تقوم به زعيمة العالم الحر. هذا ما حصل في زائير إبّان الغزو الفرنسي البلجيكي، وما كاد أن يحصل في ليبيا عندما تحفّز السادات للقيام بعمل عسكري. لكن تجربة الأعوام العشر لم تكن كلّها ناجحة. ولم يظهر أنّ ثقة واشنطن بالحلفاء متينة إلى حدّ الاتكال عليهم، الأمر الذي دفع بها إلى استعادة دورها في التدخُّل المباشر في لبنان، ثم في غرانادا، وها هي تتحفّز نحو أميركا الوسطى.

        إنّ الوحول الفيتنامية لم تكن أكثر تساهلاً من الرمال المتحركة اللبنانية مع أنّ الهزيمة هذه المرّة هي هزيمة مركّبة، فقد شملت، هذه المرّة، إضافة إلى الولايات المتحدة الأميركية، كلاً من الأطلسيين: فرنسا، إنكلترا، إيطاليا، وحاولت إسرائيل أن تكابر فصمدت بعد أسيادها سنة إضافية وها هي تقرّر الانسحاب بسرعة من الورطة، كما قرّرت واشنطن ذات مرّة التعجيل بإنهاء دورها في دول شرقي آسيا.

        في الذكرى السنوية العاشرة للانتصار الفيتنامي يحتفل الشعب اللبناني بقرب خروج القوات الإسرائيلية من لبنان بعد اجتياح راهنت الولايات المتحدة وحلفاؤها عليه وبنوا أحلامهم في ظلاله.

        بين الانتصار الفيتنامي والانتصار اللبناني أوجه شبه عديدة، منها حتمية فشل المحاولات الرامية إلى لجم حركة تاريخ الشعوب من قِبَل الولايات المتحدة؛ أمّا الاستنتاج الشديد الأهمية فهو أنّ الحروب التي تدور على وجه الكرة الأرضية تبدأ من البيت الأبيض، حيث يعطى الضوء الأخضر لقوات المارينز أحياناً، أو للقوات الحليفة، الإسرائيلية مثلاً، ثم تندلع النيران، ويجتمع الكونغرس لاتخاذ قرار بمساعدة مالية أو عسكرية لنجدة الحلفاء في العالم الحر…

        حتّامَ يبقى البيت الأبيض مصدراً لكلّ ضوء أخضر عسكري؟