22 نوفمبر، 2024

أول حروب المرحلة الأخيرة

        انعقد المؤتمر الإسلامي في دمشق وخرج باتفاق. وقد قيل أنّه ما كان لينعقد لو لم يكن الاتفاق في جيب نائب الرئيس السوري. وربما تكون التفاصيل والبنود التي وقّع عليها المؤتمرون أكثر أهمية من كل ما يماثلها في المؤتمرات السابقة. ومرد ذلك إلى أنّ القاعدة التي استند إليها الاجتماع انطلقت من مبادئ مختلفة جزئياً هذه المرّة، فقد خطا ممثّلو الشيعة خطوة إلى الأمام إزاء الموقف من “المارونية السياسية” وتمثّلت هذه الخطوة بنهج حاسم ضد تجليات السياسة التي انتهجها حزب الكتائب خلال السنوات العشر الأخيرة، وممثّلو الطوائف المسيحية بشكل عام خلال عقود الاستقلال. ومن نافل القول، طبعاً أنّ ممثّلي الطائفة الدرزية كانوا أبكروا في اتخاذ مثل هذا الموقف الحازم والحاسم منذ أكثر من سنة.

        كان كلام نائب الرئيس السوري عبد الحليم خدام واضحاً. فهو قد أثنى على نهج وليد جنبلاط ونبيه بري معتبراً أنّ المواجهة التي خاضها كلاهما ضد النهج الكتائبي هي التي حالت دون سيطرة القوات اللبنانية على بقية الطوائف، وبقية المناطق، والتي حالت دون هيمنتها على كافة الشخصيات السياسية اللبنانية. وقد كان هذا الكلام موجهاً، بوضوح، إلى ممثّلي الطائفة السنّية في الاجتماع. لا سيما وأنّهم كانوا الأكثر عدداً من بين ممثّلي المذاهب الإسلامية الثلاثة. وربما يكون اختيار هذا العدد الكبير منهم نتيجة عوامل مختلفة، منها أنّ الأوضاع داخل الطائفة السنّية ليست محسومة على مستوى القيادة كما هي الحال لدى الطائفة الدرزية التي عقدت لواء القيادة بالإجماع وسلّمته لوليد جنبلاط رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي، وقد ساعدت القيادات الدينية على ذلك، عندما سلّمت هي أيضاً بالدور القيادي لابن البيت الجنبلاطي.

        أمّا الطائفة الشيعية فتتوزّع القيادة فيها بين حركة أمل بقيادة نبيه بري، وحزب الله ذي الميول الإيرانية، وجماعات كامل الأسعد رئيس المجلس النيابي سابقاً، وتيار الشيخ محمّد مهدي شمس الدين نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، إضافة إلى بعض المستقلين، وإلى الرئيس الحالي للمجلس النيابي. ومن الواضح أنّ هذه القوى المتعددة ليست كلّها ممثّلة في المؤتمر. وقد اقتصر الحضور على المستقل، عادل عسيران، ورئيس البرلمان حسين الحسيني ونبيه بري، وشكّل حضور الشيخ عبد الأمير قبلان بديلاً عن الشيخ شمس الدين عنصراً مساعداً لنهج نبيه بري.

        تبقى الطائفة السنّية التي كلّما تخرج منها منها رئيس للحكومة أضيف مباشرة إلى مجلس قيادتها الذي لا يجتمع إلاّ في الحالات الصعبة. وقد استعصت هذه الطائفة على كل أشكال التنظيم الحزبي وانخرطت فئاتها المتعددة في الحركة القومية الناصرية، وربما كانت بسبب ذلك، من أنصار الحلول الوسط، أي من أنصار “الحلول العاقلة”، حسب قول البعض.

        الأحداث التي جرت في بيروت والتي كانت وراء انعقاد مؤتمر دمشق بدت في الظاهر وكأنّها خلاف بين الطوائف، أو، كما شاء البعض أن يسمّيها، حرباً تحالف فيها الشيعة والدروز ضد السنّة، غير أنّ حقيقة الأمور هي خلاف ذلك. وما انفجار الساحة البيروتية إلاّ النتيجة الطبيعية لتعقد الأزمة اللبنانية؛ ذلك أنّ الحرب الأهلية فكّكت أعمدة السلطة، وغدت البلاد عملياً تعيش في ظل حكومة مركزية غير فاعلة، تكاد لا يصل نفوذها إلى أبعد من حدود قصر بعبدا، حسب تعبير الجميع، الأمر الذي شجع كل فريق على أن يحكم منطقته، وربما الحي أو القرية التي يسيطر عليها، ممّا عرَّض لبنان إلى مخاطر التفتيت. وإزاء ذلك حسمت “القوات اللبنانية” الوضع في مناطق سيطرتها وأقامت أجهزتها الإدارية شبه الحكومية كالأمن والمحاكم وجباية الضرائب، واستمرّت المناطق اللبنانية الأخرى تفتقد لأدنى أشكال التنظيم الإداري والمدني والعسكري وغير ذلك.

        لم يكن هذا الوضع مقبولاً أبداً، على امتداد مراحل الأزمة. لذلك تمكّنت القوى الوطنية، بقيادة كمال جنبلاط سابقاً، أن تضبط الوضع الأمني وأن تدير الشأن السياسي. لكنها ما لبثت أن تراجعت فاعليتها بعد موت قائدها، وفشلت كل المحاولات اللاحقة في إيجاد حل. ذلك أنّ قيام حكومة مركزية كان أمراً مستحيلاً بسبب إصرار الكتائب على مشروعهم الانتحاري، وبسبب عدم اتفاق القوى الوطنية والإسلامية على نهج مواجهة، الأمر الذي أبقى المناطق التي لم تخضع للسيطرة الكتائبية معرّضة على الدوام إلى انتكاسات سياسية وأمنية وعسكرية.

        أمّا وقد شارفت القوات الإسرائيلية على الانسحاب النهائي فإنّ موازين القوى الإقليمية قد عبّرت بشكلٍ أو بآخر عن إمكانية وضع حد للمشروع الانتحاري الذي قادته القوى الانعزالية من المارونية السياسية في لبنان. إزاء هذه الضرورة كان لا بد أن تلتقي جميع القوى ذات المصلحة في ضرب الخطر التقسيمي الصهيوني على خطة واحدة. وهذا ما لم يحصل. ولم يكن الخلاف حول الأمر بين الطوائف الإسلامية بل بين تيارات ثلاثة منتشرة داخلها.

        التيار الأول هو الذي يدعو إلى الحسم على قاعدة علمانية غير طائفية وهو يدعو إلى تحديث النظام اللبناني ووضع أُسس جديدة لوطن ينتمي أبناؤه إليه دون المرور بطوائفهم.

        التيار الثاني هو الذي يدعو إلى حرب “صليبية” ضد المسيحيين في لبنان وإلى إقامة دولة إسلامية، وينتشر مؤيدوه بين كل الطوائف، بأشكال متفاوتة.

        التيار الثالث هو الذي ما يزال يرجو تفادي المعركة ويعمل للتوصل إلى مساومة مع المارونية السياسية.

        هذا “الكوكتيل” السياسي، إذا صحَّ التعبير، شكّل الأرض الخصبة لنمو كافة أشكال التناقض بين القوى الوطنية والإسلامية، وبشكل خاص على الساحة البيروتية، وقد غدت الحوادث اليومية التي تسيء إلى أمن المواطنين بمثابة الخطر الأساسي الذي يهدّد حياتهم اليومية، وكانت تلقي التبعة، في كل فلتان أمني، على الطرف الأقوى والمسيطر عسكرياً، أي على حركة أمل والحزب التقدمي الاشتراكي في بيروت. لذلك كان لا بد وحسب مصادر مقرّبة من هذين الطرفين أن يقدما على خطوة جريئة لإيجاد حل للوضع الأمني. ومن الصدف السياسية أن تطور الأوضاع اللبنانية كان يترافق مع تحركات تتناول أزمة الشرق الأوسط، ومن السهولة أن يستنتج المرء مصلحة قوى عديدة في دفع أوضاع لبنان عامة، والمناطق الوطنية بوجه خاص، ولا سيما الشطر الغربي من العاصمة اللبنانية، إلى حالة من التردي يصعب معها التوصل إلى حل. من هنا أعلن أكثر من مصدر مسؤولية جهات عربية كما سمّاها نبيه بري، بل فلسطينية كما قال عبد الحليم خدام متهماً بعض الشخصيات المقرّبة من السيد ياسر عرفات بتمول ما حصل في بيروت.

        هذه الأسباب دفعت إلى انعقاد المؤتمر الإسلامي في دمشق. والجديد الذي حصل هو أنّ مزيداً من الإجماع قد حصل بصدد حسم الموقف ضد المشروع والحكم الكتائبيين وهو ليس بالأمر التفصيلي. لأنّ مفتاح الحل في لبنان ليس في تشكيل قوة مشتركة أو في التوصل إلى قرارات لوقف إطلاق النار، أو في تعويم الحكومة وعودة رئيسها عن الاستقالة الخ. بل إنّه في التمهيد لقيام حكومة مركزية قوية، ليس بالمعنى الذي اعتمدته الولايات المتحدة الأميركية يوم قرّرت مساعدة الكتائب على خصومهم، بل بالمعنى الذي يمكّن الشعب اللبناني من إلغاء كافة “الحكومات” المحلية التي تقوم في المحافظات والأقضية والأحياء بسبب تفتت السلطة، ومن الطريف أن نشير في هذا المجال إلى أنّ الجيش اللبناني الذي تجزّأ على مقاس الطوائف، وعلى أساس أنّ لكل طائفة لواءها العسكري، قد وصل إلى حالة خطيرة من الهشاشة. وغدت كل كتيبة فيه مهدّدة بالانقسام إزاء أيّة معركة.

        وتقول الأوساط العلمية أنّ الموقف السوري لم يكن حاسماً كما هو اليوم ضد المشروع الكتائبي لذلك حكم البعض على قرارات المؤتمر بأنّها قرارات حرب ضد نهج الاقتتال المذهبي أو الطائفي، وضد مسبّبيه، وضد المخاطر التي ينطوي عليها مشروع الكتائب و”القوات اللنانية”.

        إنّها المرحلة التي ربما تهيّئ، هذه المرّة، لإيجاد حل، ولإقفال ملف الأزمة اللبنانية. فهل تكون حرب المرحلة الأخيرة؟