العالـم الثالـث:
تصنيع الأسلحة وأوهام السيادة القومية
عام 1983 أنفق العالم ما بين 750 و800 مليار دولار على قضايا التسليح. ويقول أوجين روستو، مدير وكالة الرقابة على نزع السلاح، أنّ صناعة الأسلحة أصبحت من أكثر أنواع الصناعات ازدهاراً. والدليل على ذلك هو أنّ 25% من العلماء في العالم يشاركون في وضع دراسات عن صناعة السلاح، وأنّ 40% من مصادر الثروة المخصّصة للبحوث والتنمية مكرّسة لوضع دراسات تكنولوجية على علاقة بالتصنيع الحربي.
في مثل هذه الأوضاع ليس من العجيب أن تطالب دول العالم الثالث بموقع لها ونفوذ، بل بحصّة في عملية التصنيع. والمطالبة هذه هي في جزء منها نتيجة لتوزيع العمل بين الدول النامية والدول الصناعية، بحيث تملك الدول الفقيرة حق إنتاج السلع الثانوية (قطع الغيار مثلاً)، بينما تحتكر الدول الكبرى إنتاج السلع الأساسية. كما أنّ المطالبة بحصّة معيّنة دليل رغبة في إحراز مزيد من الحرية وتعزيز الاستقلال الوطني. لكن هذه الرغبة تبقى بعيدة عن المنال، لأنّ مَنْ يقرّر هامش الحرية، في نهاية التحليل، ليس الحلف الفقير الذي يسمّى العالم الثالث.
إعلانات مبوَّبة عن الحرب
ما يثير الدهشة أنّ الصحف والمجلات الأميركية والأوروبية تخرج إلى النور وعلى صدر صفحاتها إعلانات دعائية عن أنواع صناعات الموت، بل عن اكتشافات تتنافس فيما بينها على تحديث مبتكراتها في القتل والتدمير. وغدت أسماء كولت، داسو، رولز رويس، مألوفة جداً إلى جانب أسماء أخرى جديدة على عالم هذه الصناعة. حتى أنّ سنغافورة تعتز اليوم ببندقيتها الجديدة ساد 80، كما تعتز الشيلي بمصفّحاتها وقنابلها العنقودية. وبالإجمال فقد دخلت دول العالم الثالث هذا المجال من الاستثمارات مما سيؤدي إلى التسريع في تغليف الكرة الأرضية بأدوات الدمار.
تفيد الأرقام الصادرة عن مؤسّسة الأبحاث العالمية من أجل السلام في استوكهولم أنّ حجم المبادلات التجارية التي قامت بها دول العالم الثالث في مجال التصنيع العسكري بلغ حوالى 14% من حجم المبادلات العالمية. وغدت البرازيل في الوقت الراهن خامس بلد في العالم، في قائمة مصدّري الصناعات الحربية. كما أنّ كلاً من الهند ومصر وإسرائيل قد تجاوزت صادراتها المليار دولار سنوياً.
أمّا البلدان المستوردة فهي طبعاً من دول العالم الثالث أيضاً. إذْ ليس من المعقول أن تشكّل الدول النامية مصادر تسليحية للدول الصناعية. وتفيد الأرقام إيّاها أنّ 97,3% من صناعات العالم الثالث العسكرية قد جرى تصديره إلى بلدان نامية أيضاً، مما يشير إلى طبيعة الخطط التنموية التي تعتمدها الدول الفقيرة، لكي تزداد فقراً لا سيما وأنّ هذه الاستثمارات، من جانب الدول المصنعة في العالم الثالث، أو من جانب الدول المستهلكة، هي غير منتجة على المدى الطويل. ولا يغيّر من الأمر شيئاً استخدام أشكال من التضليل السياسي الذي تقوم بها الدوائر المسؤولة عن السياسة الاقتصادية في هذه البلدان. عام 1977 صرَّح وزير السلاح الجوّي البرازيلي قائلاً “إنّ الوقت قد حان لكي نتحرَّر من سلطة الولايات المتحدة والبلدان الأوروبية”، وكان يعني في تصريحه لجوء بلاده إلى سياسة تصنيعية جديدة. لكن البرازيل، عام 1984، كانت تشكو من ديون على خزينتها بلغت 100 مليار دولار. السبب بسيط وهو أنّ الاستثمارات الهائلة موجّهة بلا شك، نحو قطاعات غير منتجة منها قطاع الإنتاج الحربي.
السيادة الوطنية والعنصرية
من البديهي أنّ المبررات التي تقوم عليها هذه السياسات تستند إلى أُسس سليمة في الظاهر، فهي تدّعي العمل من أجل تعزيز القرار الوطني المستقل، وتوطيد دعائم السيادة الوطنية. لكن اللجوء إلى التصنيع الحربي يشكّل جزءاً من الحقيقة وليس كلّها، ومن شأنه أن يهدّد السيادة والاستقلال إذا لم يقترن بسياسة داخلية وخارجية يتكامل فيها مضمون الاستقلال الفعلي في زمن الصراع الطاحن بين الجبّارين.
إنّ جزءاً من الأفكار والشعارات حول السيادة الوطنية لا يعني الاستقلال عن الدول الكبرى والخروج من الارتهان لها في مجال الصناعة بقدر ما يعبّر عن تنافس إقليمي مع الدول المجاورة. هذا ما يمكن قوله عن البرازيل مثلاً وعن مصر. وكلاهما على علاقة سياسية إيجابية بالدول الغربية المصدّرة للسلاح ولا تشكّل تلك العلاقة سبباً لتوتر أو لقلق على مستوى التحالفات الدولية القائمة. ويمكن أن نستخرج من التاريخ نموذج شاه إيران، الذي كان يطمح إلى أن يكون أكبر قوة إقليمية في المنطقة بالتعاون مع البلدان المصدّرة للسلاح. بينما تمضي تايوان، في الوقت الراهن، في تعزيز المستوى التكنولوجي لصناعاتها الحربية، عبر اتفاقات معقودة مع الولايات المتحدة، ومع أفريقيا الجنوبية وإسرائيل. وأي كلام عن السيادة يحمل مصداقيته في ظل التحالف مع هذين النظامين العنصريين؟!
ويلي برانت كان بليغاً في قوله: “من المؤسف أن تكون التكنولوجيا التي تصدرها الدول الغربية الغنية إلى البلاد الفقيرة مجالاً لنشاط هام وسريع في صناعة آلات الموت بشكل خاص”. لكن مثل هذا الكلام يذهب بلا صدى، بل يمنع صداه، بدافع السيادة القومية واستنكاراً لتدخل الآخرين في الشؤون الداخلية.
طائرة إسرائيلية جديدة
ويرى المراقبون لتطور هذا الميدان التصنيعي في منطقة الشرق الأوسط، أنّ الرغبة في التحرُّر من الارتهان أمر مستحيل، في ظل ظروف الصراع العالمي والتحالفات الدولية. ودليل ذلك هو أنّ السباق بين مصر وإسرائيل مثلاً قد يؤدي إلى نوع من الاكتفاء الذاتي لدى الدولة الصهيونية فقط. ولن يكون بإمكان مصر أن تنتج طائرة مقاتلة بمستوى الكفير الإسرائيلية، لا سيما وأنّ مصر ما تزال صناعياً في مرحلة التجميع فقط، وأنّها لن تنجز ذلك إلاّ عام 1985. بينما قرّرت إسرائيل أن تنجز مع بداية التسعينات طائرة جديدة (لافي).
يسود الاعتقاد عند المعنيين في الدول الغنية أنّ دخول العالم الثالث مجال التصنيع العسكري يشكّل خطراً على الصناعات الغربية إذا لم تخضع لرقابة شديدة من جانب الدول الغنية. ومن أشكال الرقابة اتفاقات التعاون الصناعي التي تمنح الدول الفقيرة حق التصنيع، بموافقة إحدى الدول الكبرى، بحيث يحدّد الاتفاق أنواع القطع التي يسمح بتصنيعها خارج مصانع البلدان الغنية. أمّا أشكال الرقابة الأخرى فهي تصل إلى أبعد من ذلك. فما تزال الولايات المتحدة مثلاً تعترض على رغبة كوريا الجنوبية في أن ترفع هذه الأخيرة حجم صادراتها من الأسلحة، من 250 مليون دولار إلى مليارين من الدولارات، وما يساعد واشنطن على نجاح اعتراضها هو أنها الجهة التي منحت كوريا امتيازاً لإنتاج بعض “السلع” العسكرية. كما أنّ واشنطن قرّرت أيضاً عدم بيع إسرائيل المعدّات التكنولوجية المتطورة اللازمة في صناعة الطائرة المقاتلة (لافي) لكن قراراتها حيال إسرائيل بالونات هوائية لا تقوى على الصمود في وجه اللوبي الصهيوني.
باستثناء بعض الحالات إذن، لم يقدم التصنيع الحربي إلاّ أوهاماً حول الاستقلال والاكتفاء الذاتي. إنّه استبدال الحاجة إلى السلاح بالحاجة إلى التكنولوجيا. وتبقى الحاجة الدائمة إلى القرار السياسي المستقل!
مقالات ذات صلة
خطوة واحدة ويصبح جعجع
منـذ هزيمـة النازيـة
غورباتشيف: أندروبوف الشاب