22 نوفمبر، 2024

بعد قرنين من الزمن

ما تزال فرنسا ترسخ الديمقراطية

        ” إنّه يوم حزن في الجمهورية الفرنسية الخامسة”. بهذه العبارة لخّص الرئيس الفرنسي السابق جيسكار ديستان موقفه من قوانين النسبية التي يقترحها الرئيس الحالي فرنسوا ميتران. في حين أنّ ريمون بار اعتبر ذلك مجرد مناورة ينبغي، على كل حال، إدانتها ومجابهتها. وفي الخندق الثالث أعلن الحزب الشيوعي اعتراضه على اقتراحات حليفه في الحزب الاشتراكي. وبذلك يكون الرئيس الفرنسي قد اختار سياسة خلط الأوراق.

        ينبغي اعتماد النسبية، حسب ما يقول الاشتراكيون، لأنّ من شأن ذلك أن يعفيهم من التزاماتهم مع حلفاء الأمس، وبالتالي، يتيح لهم إقامة تحالفات جديدة. قيل هذا الكلام أو ما يشبهه في ذلك اللقاء الذي لم يكشف عنه والذي ضمَّ رئيس الوزراء لوران فابيوس، ولجنة مصغّرة قوامها: بيار موروا رئيس الوزراء السابق، بيار جوكس وزير الداخلية، ليونيل جوسبان الأمين العام للحزب الاشتراكي، جان بوبران الشخص الثاني في الحزب.

        لقد باح فابيوس بما أبقاه كل المسؤولين سراً واستخدموه للمناورة. إنّه رجل السياسة الصريحة والكلمة الحرة. قال: “تحالفات جديدة” وبهذا أصبحت التعديلات التي تعهّد الحزب الاشتراكي بإجرائها عدة مرّات أمام الصياغة النهائية. فقد بات ملحاً أن يخرج مشروع التعديلات إلى النور، بعد انقضاء خمس سنوات على إطلاقه في برنامج الترشيح الرئاسي، وفي البيان المشترك بين حزبي اليسار، وفي أكثر من مناسبة، بعد فوز الرئيس الحالي.

        القانون الجديد، كما يراه الاشتراكيون، سيمكّن الرئيس من التعاون مع شخصيات هي اليوم في صفوف المعارضة. وهذا هو بيت القصيد. فالانتخابات التشريعية ستجري في عام 1986، ومن المتوقع أن يفوز فيها اليمين المعارض استناداً إلى استطلاعات الرأي التي تجريها مؤسسات الإحصاء والإعلام. وإذا حصل ذلك يصبح الرئيس إزاء أكثرية نيابية معارضة، وبالتالي إزاء خيارين: الاستقالة أو إجراء انتخابات جديدة. لذلك سيحاول، قبل فوات الأوان، أن يستخدم آخر أوراقه، بل آخر ابتكاراته في خلط الأوراق.

        قانون الأغلبية الحالي ينص كشرط للنجاح، الحصول على أكثر من خمسين بالمئة من الأصوات، في الدورة الأولى، وبالأغلبية المطلقة من الأصوات، في الدورة الثانية. وبناءً عليه تواجه الأحزاب المختلفة ضرورات اختيار الحليف للفوز في الدورة الثانية، إذا تعذَّر النجاح في الأولى؛ وهذا ما يحصل في معظم الأحيان. إنّ القانون الحالي يربط مصير الأحزاب الحليفة ببعضها البعض.

        ويتميّز القانون الحالي ثانياً بكونه يعتمد على الدوائر الانتخابية. وهذا ما يعتبره البعض لغير صالحهم، لأنّ أصواتهم الانتخابية لا تُحسَب أياً كان تعدادها. وعلى أساس القانون يسقط في الانتخابات الحزب الذي ينال 49% من الأصوات، إذا نالت الأحزاب الباقية مجتمعة ومتحالفة 51% من الأصوات.

        في القانون المقترح لا يخسر أي حزب من أصواته إذا نال ما يزيد على الخمسة بالمئة، وهذه هي الحال في بلدان أوروبا الغربية  كألمانيا مثلاً. لذلك وقف اليمين المتطرف الذي يتزعمه لوبن إلى جانب القانون المقترح لأنّ النسبة التي ينالها، وهي تقارب 10% حسب آخر الاستطلاعات، كان يستخدمها عادةً في تدعيم مواقع أحزاب يمينية أخرى، بينما يمكّنه القانون الجديد من ترجمتها إلى زيادة في عدد ممثّليه في المجلس النيابي.

        يجري النقاش اليوم حول حجم الدائرة التي يمكن تطبيق النسبية فيها. حيث يمكن أن تكون فرنسا كلها دائرة انتخابية واحدة، أو كل محافظة فيها أو كل منطقة، ومع كل من هذه الحالات يختلف حجم السجال حول القانون الجديد ومضمونه. لأنّ مع كل حالة كسباً لفريق وخسارة لآخر.

        بعض المراقبين يعتبر أنّ تعديل القانون الانتخابي لن يحوّل الهزيمة إلى نصر، فيرى بالتالي، أنّ الرئيس يختار بين هزيمتين، وهذا ما يواسي اليمين المعترض، الذي يعتبر أنّ فرنسوا ميتران يسن قانوناً جديداً لانسحابه من قصر الإليزيه.

        غداة الاجتماع الذي عقده فابيوس يوم الثلاثاء في الحادي والعشرين من شهر مارس الماضي، بدأت تظهر ردود فعل عدد من الكادرات الوسيطة. ولم يكن اقتراح رئيس الوزراء المؤيَّد من رئيس الجمهورية مقبولاً لدى الجميع داخل الحزب. ولم يبقَ خلاف الأقطاب سراً، بعد أن انفجر السجال بين الشخص الأول جوسبان، والشخص الثاني بوبران في الحزب الاشتراكي. الأول يؤيّد بحزم خيارات الرئيس، أما الثاني فهو مع قانون الأغلبية. كما لم يعد هناك مجال لإخفاء الخلافات، بعد أن قرّر وزير الزراعة ميشال روكار الاستقالة من منصبه، بسبب اعتراضه على قانون النسبية المقترح.

        يمكن تلمُّس النتائج التي سيتركها القانون المقترح على الانتخابات المقبلة بما يلي:

  1. أنّه يدفع كل حزب أو تيّار إلى خوض الانتخابات منفرداً دون أن يرهن برنامجه إلى تحالفات معقدة. لم يعد الهدف إذن تحقيق السبق على أول المنافسين من أجل فرض الانسحاب عليه في الدورة الثانية، بل أصبح الهدف استعراض القوى، كل فريق على حدة ودون ارتهان.
  2. إنّ الضفوطات المترتبة على تحالفات الدورة الثانية تزول فتزول معها قيود كثيرة وتصبح الانتخابات أكثر رحابة وحرية.
  3. إنّ من شأن النسبية أن تقلّل من نسبية الخسارة التي تُمنى بها الأحزاب الصغيرة وهذا ما يعتبر، من حيث المبدأ، أكثر عدالة.
  4. يصبح البرلمان أكثر صدقاً في تمثيله للناخبين ولن يبقى خارج البرلمان إلاّ الذين يعجزون عن الحصول على 5% وما فوق من الأصوات.
  5. تصبح الأغلبية البرلمانية معرّضة للتفكك وعرضة لتحالفات جديدة مما يحول دون حصول استقرار سياسي طويل المدى.
  6. إنّ من غير الواضح ما إذا كانت النسبية ستؤدي إلى تعزيز موقع رئيس الجمهورية ونفوذه أم لا. فالأمر متروك للتجربة اللاحقة.

وأخيرً هل يتمكّن اليمين المعارض أن يجري تعديلات جديدة معاكسة في حال نجاحه عام 1986؟ إنّ منطق الأمور يؤكّد ذلك مع أنّ مثل هذا الأمر لم يدخل في صلب التقاليد الفرنسية بعد.

على كل حال يبدو أنّ فرنسا التي انطلقت منها مبادئ الحرية في الثورة الفرنسية عام 1789 ما تزال تخوض نقاشاً يهدف إلى تعزيز الديمقراطية، في حين أنّ أنظمة تعيش في القرن العشرين ما تزال تتمسّك بأنظمة سابقة على الثورة الفرنسية.