22 نوفمبر، 2024

الولايات المتحدة: نهضة اقتصادية

أم أعراض انهيار

        الولايات المتحدة الأميركية تظهر في وسائل الإعلام والنشر والدعاية خلافاً لما هي عليه في الواقع. تبدو ظاهرياً وكأنّها في فترة النهوض العام والانبعاث الاقتصادي والسياسي والتكنولوجي، في حين أنّ تقارير الخبراء حول تطور المجتمع الأميركي تقدّم أرقاماً لا تتطابق مع صورة أميركا إعلامياً

        من دون النظر في عمق الأشياء يبدو أنّ واشنطن تعيش فترة انتعاش اقتصادي، تظهر في ارتفاع معدلات النمو، وفي قوة الدولار، وانخفاض نسبة البطالة، التوسُّع التكنولوجي، القوة العسكرية، الرخاء الاجتماعي…الخ. كان كل ذلك يشير إلى أنّ الولايات المتحدة ستستعيد طريق النمو السريع، مع انخفاض في نسبة التضخم، وزيادة في نسبة التوظيفات.

        لقد وصل الاعتقاد ببعض الأوروبيين إلى القول أنّ عدم تطبيق بلدان أوروبا الغربية “للوصفة” الريغانية، هو الذي أوقعها في الأزمة، وأبقاها فيها. كما أنّ أجواء النقاش المسيطرة في فرنسا تتداول بدور التكنولوجيا، انطلاقاً من الاعتقاد بأنّ التكنولوجيا، وحدها، هي التي تقف وراء قوة الاقتصاد الأميركي. ولذلك لجأت الحكومة الفرنسية، في بداية حكم فرنسوا ميتران، إلى توجيه الصناعة نحو الإلكترونيات؛ بينما يعتبر المحرك الأساسي والعامل الرئيسي في تحريك عجلة الاقتصاد الأميركي هو الاقتصاد نفسه، ويعتبر النهوض التكنولوجي أحد تجلياته.

        يعتقد خبراء أميركيون أنّ الانتعاش الاقتصادي في عامي 1983 – 1984 ليس إلاّ ظاهرة عابرة أعقبت مرحلة الركود 1980 – 1982، وأنّه يخضع لتناقضات وصراعات تشتد حدّتها في السياسة الريغانية، ويتوقعون عودة مرحلة الركود، مرّة أخرى، مستندين إلى حجج وبراهين ملموسة.

الفـائـض والعجـز

        تُعتبر الريغانية نهجاً يقوم، في مستواه الاقتصادي، على سياسة نقدية وعلى سياسة التقديمات؛ ومن هذه الزاوية تجري مواجهة مسألة التضخم برفع نسبة الفوائد على الودائع. وقد كان الرئيس ريغان قد تعهَّد، منذ أربع سنوات، بتحقيق فائض مقداره 28 ملياراً من الدولارت في عام 1984 لكنّه لم يتمكّن من تنفيذ ذلك، بل إنّ العجز العام في ميزان المدفوعات تجاوز 200 ملياراً في عام 1984، وذلك بفعل التوظيفات والنفقات العسكرية. وقد امتنع الرئيس الأميركي عن سد العجز خشية اللجوء إلى قروض داخلية وخارجية من شأنها أن تؤدي إلى نتائج سلبية، منها تزايد الضغوط على حركة الرساميل الداخلية، وإغراق السوق برساميل أجنبية ترفع من قيمة الدولار، في سوق القطع، فتجعل الصادرات الأميركية أكثر كلفة، الأمر الذي يؤدي إلى عجز في الميزان التجاري (100 مليار دولار عام 1984 مقابل 40 ملياراً عام 1983).

        يبلغ حجم الديون الأميركية ضعف الديون العامة في بلدان العالم الثالث، وهذا ما ينذر بمستقبل مظلم كما يقول هيلمر، أحد أكبر الباحثين الأميركيين. والأخطر من ذلك هو أنّ أحد السبل للخروج من هذه الأزمة المالية هو الهروب إلى الأمام، على طريقة الحل الذي اقترحه هتلر للأزمة الاقتصادية: أي التورط في حرب خارجية، وهذا ما قد يفسّر، جزئياً، نزعة ريغان العدوانية، وإصراره على “حرب النجوم”، وهذا ما تشير إليه خطته الدفاعية التي ستكلّف 1000 (ألف) مليار دولار خلال السنوات الأربع القادمة.

        الخطير والمؤسف في السياسة الاقتصادية الأميركية ليس فيما ستؤول إليه الأوضاع الاقتصادية هناك، بل في النتائج التي ستترتب على ذلك على المستوى العالمي وفي اقتصاد كل بلد على حدة. وإذا كان ريغان يمارس حقه وحريته، حسب المثل الشعبي، في أن يحرق ثيابه، فليس له الحق في إشعال فتيل النار في ثياب الآخرين، ولا في إضرام فتيل الحرب. وهذا ما يهدد أوضاع العديد من بلدان العالم الثالث، ويدفع أوضاعها السياسية نحو الانفجار، لا سيما في بلدان أميركا اللاتينية.

        إنّ السياسة الريغانية تشبه، حسب قول العالم والخبير الفرنسي ميشال غوديه، من يبقى رأسه عائماً فوق الماء يضغط بيديه على رؤوس الآخرين. وبالطبع ليس ذلك من قبيل الدعابة. إنّه التهديد بالموت. ولن يجاريه في هذه اللعبة الخطيرة أحد.

        احتلّت الولايات المتحدة موقعاً أساسياً على المستوى الاقتصادي، فكانت ثروتها تمثّل 40% من الثروة العالمية عام 1955، لكنها بدأت في تناقصها، فبلغت 24% عام 1984، ومن المتوقّع أن تتضاءل إلى حدود 17% عام 2000. إنّ هذه الأرقام تشير إلى أنّ الأزمة الاقتصادية هي أزمة عدم وجود ناظم للعلاقات الاقتصادية الدولية. فبعد أن كانت الولايات المتحدة تملك القدرة على لعب هذا الدور في السابق، فهي اليوم تملك فقط القدرة على العرقلة والإرباك والتشويش، ويجد ذلك ترجمته في دورها السياسي على المستوى العالمي.

نمـو اقتصادي وتخلُّف عسكري

        من الملاحظات الأخيرة أيضاً التي يوردها مانيافال، الملحق الثقافي في فرنسيسكو، أنّ التقدُّم التكنولوجي ليس إلاّ تدهوراً على المستوى الثقافي والفكري ويقول الملحق: إنّ الإحصاءات الحديثة تعكس، دون أدنى شك، انخفاضاً ملحوظاً في المستوى العام للتلاميذ. ومن الجدير بالذكر أنّ النتائج تنقص بنسبة 3 إلى 6% عمّا كانت عليه منذ عشر سنوات”.

        ينبغي البحث عن أسباب ذلك في كيفية توزيع الوقت، أي في نسبة الدوام المخصّصة للتعليم الثانوي. ففي حين يخصص كل من اليابان والاتحاد السوفياتي ثلاث سنوات كاملة في دراسة الرياضيات والعلوم لا تخصص الولايات المتحدة إلاّ 31% من الدوام للرياضيات و22% للعلوم. كما أنّ هذه النسبة تنخفض أكثر في بعض المقاطعات، مثل كاليفورنيا، وهي المقاطعة التي تشهد نسبة عالية من التطور التكنولوجي والاقتصادي والتي تظهر فيها أعراض الأزمة، أو الوجه الآخر لما يبدو في ظاهره نمواً وتطوراً.

        يقول أحد الأساتذة الأميركيين، وهو عالم فيزيائي، أنّ “العقل الأميركي المعاصر يشكو من فراغ”. لكن هذه الصورة هي الوجه الذي يمثّل المستقبل الثقافي، ولا يلغي ذلك وجود جامعات أميركية ذات مستوى رفيع تستقطب أفضل الطلاب في العالم وتتمتع بشهرة واسعة.

        أخيراً وليس آخراً يمكن الإشارة إلى العنف الجماعي الذي ينشأ في ظل سلطة المال. مع المال يصبح كل شيء ممكناً، بينما، بدونه، يعتبر 34 مليوناً من الأميركيين فقراء وأنّ مؤسّسات العناية الصحية مخصّصة لمن بإمكانهم دفع النفقة، وهي بالتأكيد، نفقة باهظة. ويبقى الآخرون مثار إهمال وسخرية. واستناداً إلى ذلك يقول أحد دعاة الريغانية: “ينبغي ألاّ يخضع التطور إلى المقاييس التي يعالج المجتمع فيها فقراءه ومرضاه وشيوخه”.

        إنّ عوامل عديدة تدعو إلى الشك في أُسس هذه النهضة الأميركية. إنّها نهضة غير سليمة، معرّضة على الدوام لتناقضات الريغانية، وهي تهدّد الأوضاع الاجتماعية بالانفجار. لذلك ينبغي، عندما ننظف الطاولة، ألاّ نرمي أصابعنا في سلّة المهملات. فالسياسة الريغانية قادرة على الاستمرار على المستوى الاقتصادي إذا تفادت النتائج المدمّرة على مستوى الإنسان.