20 أبريل، 2024

الخطر الفاشي والقضية الفلسطينية

        هل يتعرّض لبنان لخطر مشروع فاشي؟

        إذا أجبنا بنعم ترتّب على إجابتنا نهج سياسي وتنظيمي وتحالفي بمستوى هذا الخطر. وإذا أجبنا بلا، دفعتنا الإجابة نحو سؤال بل أسئلة أخرى عمّا جرى يجري على الأرض اللبنانية. من البديهي القول أنّ الأزمة اللبنانية أزمة معقّدة تداخلت فيها عوامل داخلية وأخرى إقليمية ودولية. فإذا عزلنا، من أجل تسهيل عملية البحث، العوامل الخارجية، وتوقفنا أمام التناقضات القائمة في المجتمع اللبناني، أصبح من الممكن الإجابة بوضوح وحزم عمّا إذا تعرّض لبنان لخطر الفاشية أم لا.

        نسارع إلى تحديد إجابتنا بنعم فنستنتج:

        أولاً: إنّ الفاشية هي الخطر الأساسي في المرحلة الراهنة وهي تفوق ما عداها من أخطار متمثّلة بمشاريع أخرى قد تتوفر فيها بعض مقومات المشروع الفاشي وأفكاره دون أن تصل إلى مستوى المشروع – البرنامج.

        ثانياً: إنّ الديمقراطية هي الشعار الأساسي الذي ينبغي أن تلتف حوله كافة القوى المعادية للفاشية.

        ثالثاً: إنّ الجبهة التي ينبغي أن تواجه المشروع الفاشي تجمع في صفوفها (أو ينبغي أن تضم) قوى من مواقع طبقية واجماعية وإيديولوجية مختلفة.

        رابعاً: إنّ مواجهة المشروع الفاشي لا تقوم على أساس مهادنته والمساومة معه. فالفاشية ذاتها لا تقبل المساومة مع خصومها ولا تقبل من يساوم، فيغدو مستحيلاً، من الناحية الموضوعية، التوصل إلى مخرج من الأزمة بغير الحسم ضدها.

        خامساً: إنّ الفاشية اللبنانية استندت، في إحدى أُسسها، على الطائفية وسيلة إيديولوجية للتعبئة والتحريض والتجييش. ومن الطبيعي، موضوعياً، أن تكون كافة الطوائف، على السواء، أرضاً خصبة لنمو المشروع الفاشي. لكن نجاح ذلك أو فشله مرتبطان بتكامل مقومات المشروع ومن بينها: تدمير مقومات الديمقراطية، وقيام الميليشيا، وتوفر الزعيم الخ. لذلك يُعتبر النضال ضد الطائفية في لبنان أحد أشكال المواجهة ضد الفاشية.

* * *  

        من المعروف أنّ الفاشية ظهرت، تاريخياً، في بدايات هذا القرن، وبالتحديد، في فترة ما بين الحربين، في كل من إيطاليا وألمانيا، وأنّ الدراسات التي تناولت هذه الظاهرة استندت بشكل أساسي على هاتين التجربتين.

        يرفض المنهج الجدلي أن تنقل، بشكل آلي، تجارب تاريخية وأحداث. لكن الاستناد إليها في تحليل قضايا معاصرة هو من صلب المنهج العلمي. وفي هذا الإطار اعتمدنا على بعض ما كتب حول الفاشية، لا سيما محاضرات بالميرو تولياتي عن هذا الموضوع وقد نشرتها دار الفارابي في كتاب: محاضرات في الفاشية. واعتمدنا بالإضافة إلى هذا، على كتاب قمنا بترجمته (ولم يُنشر بعد) واخترنا من فصوله عيّنة من التحليل النظري الفلسفي التاريخي الذي يقوم عليه البحث والذي يكمل، على المستوى النظري، ما استفاض تولياتي في تحليله من موقعه كقائد ناضل ضد الفاشية في إيطاليا.

        عنوان الكتاب: “الفاشية والحركة الجماهيرية” وهو دراسة في الأُسس الاقتصادية والإيديولوجية والنفسية والتنظيمية والسياسية لقيام الفاشية. مؤلّفه ميخائيل فاجدا، أحد تلامذة جورج لوكاتش الذي اعتُبر أحد أهم فلاسفة القرن العشرين.

        يتضمّن الكتاب أربعة عشر فصلاً موزّعة على ثلاثة أقسام، وهي تحمل العناوين التالية: 1_ الدكتاتورية الفاشية 2_ مبدأ “الكل” كأساس إيديولوجي للحركة الفاشية 3- الخصوصية القومية 4- الخوف من الحرية ونفي الديمقراطية 5- سمات الإنسان الفاشي 6- الميليشيا كشكل للتنظيم 7- أزمة الديمقراطية 8- أزمة الرأسمالية الإيطالية 9- الفاشية كحل وحيد 10- الفاشية: حل من جملة حلول 11- لماذا اختارت البرجوازية الألمانية هتلر؟ 12- الفاشية والبونابارتية 13 الدكتاتورية الإيطالية 14- الدكتاتورية الألمانية.

        توصَّل الكاتب، استناداً إلى دراسة التجربتين، إلى بعض الخصائص التي تميّز الفاشية فاعتبر، أنّها، باستثناء كافة الدكتاتوريات، تولد من حركة جماهيرية وتستمد الدعم منها (لذلك لا يعتبر نظام فرنكو فاشياً)، وأنّ زعماء الفاشية ينتمون أساساً إلى هذه الحركة، فيخرجون، في ذلك، عن فئة السياسيين التقليديين.

        كما توصَّل فاجدا إلى أنّ الفاشية “إنجازاً” برجوازي صغير، يقوم بقيادة حزب ينتمي أعضاؤه، أو غالبيتهم، إلى البرجوازية الصغيرة، ويسخّر أجهزة السلطة في خدمة الحركة الفاشية على أنّ التنظيم الأساسي للفاشية هو تنظيم عسكري يستفيد من الحزب السياسي في إطار الدعاية والإعلام والمؤسّسات البرلمانية.

        وتوقف ميخائيل فاجدا عند العلاقة بين الحركة الفاشية والطبقة الحاكمة من البرجوازية ورأى أنّ هذه الأخيرة توكل إلى الأولى طوعاً (إيطاليا) أو قسراً (ألمانيا) الاضطلاع بمهمات التطور الاقتصادي، معلنة، بذلك عجزها عن الاستمرار في قيادة المجتمع. لكنّها لا تلبث أن تستعيد السلطة بعد أن تكون الفاشية قد أنجزت مهماتها على المستوى الاقتصادي. ولكن بعد أن تكون، طبعاً قد دفعت البلاد في أتون الحروب والدمار!

        وقد وجَّه المؤلف اهتمامه إلى الأُسس الإيديولوجية لقيام الفاشية، ورأى أنّ العمود الفقري في “فلسفتها” يقوم على فكرة الأُمّة ووحدتها مقابل التشرذم الناتج عن تصادم المصالح “الخاصة” بالأفراد أو المصالح “الخاصة” بالطبقات، ويعني بذلك الرغبة في إلغاء مفهوم الطبقة والصراع الطبقي، كما يقوم على افتعال أعداء خارجيين لكي يكون الصراع دائماً بين الأمّة و”الغرباء”.

        أمّا على مستوى البرامج فإنّ فاجدا يؤكّد على عدم توفُّر برنامج واضح لدى الفاشية، وعلى أنّها في البداية تتبنّى شعارات ثورية وبرنامجاً إصلاحياً جدياً لكنّها سرعان ما تنقلب عليه عند وصولها إلى السلطة، لكي تنفّذ برنامجاً آخر، هو في الحقيقة، وفي جزء كبير منه، برنامج البورجوازية. ومن جهة أخرى يرى فاجدا أنّ الفاشية تبقى مشدودة إلى برامج تكتيكية تستبدلها كلّما تغيّرت الظروف.

        العوامل الاقتصادية التي كانت وراء نشوء الفاشية الإيطالية مختلفة عن الأسباب التي أدّت إلى ولادة النازية في ألمانيا. لذلك يعتبر فاجدا أنّ الفاشية الإيطالية كانت قدراً محتوماً لم يكن ممكناً ردّه بينما كانت النازية احتمالاً في جملة احتمالات لحل الأزمة وكان يمكن تفاديه.

        يعلّل المؤلّف هذا التمايز عبر تحليل مفصَّل للأوضاع الاقتصادية في كل من البلدين خلاصته أنّ الاقتصاد الإيطالي كان في بداية مرحلة التطور الأفقي، أي في بداية تحويل العلاقات الاقطاعية إلى علاقات ذات نمط رأسمالي، وفي بداية تفكيك الملكيات العقارية الكبيرة الخ. في حين أنّ إيطاليا كانت على المستوى السياسي في ظل نظام ديمقراطي أتاح للحركة العمالية حيّزاً كبيراً من الحرية ومنحها سلطة معنوية كبيرة فأصبحت البرجوازية الحاكمة مكبَّلة بقيود مزدوجة: الطبقة العاملة ذات المصلحة بدفع الاقتصاد في طريق تطوره مع الحفاظ على حقوق العمال، وطبقة الإقطاع التي كانت ما تزال تشارك جزئياً في السلطة وما تزال تحتفظ لنفسها بدور أساسي على المستوى الاقتصادي. وفي ظل هذا الوضع بدت البرجوازية عاجزة عن القيام بدورها في قيادة عملية التحويل الثوري البرجوازي باتجاه استكمال المرحلة الأفقية من التطور الرأسمالي ثم باتجاه المرحلة الثانية أي مرحلة التطور العمودي. كما كانت الطبقة الاقطاعية غير قادرة على استلام السلطة من البرجوازية وعلى إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. أمّا الطبقة العاملة فقد كانت تنظيماتها النقابية قوية جداً لكن قيادتها الاشتراكية أخطأت، حسب  رأي غرامشي، في تقدير أهمية السلطة السياسية في عملية التحويل الثوري، وفشلت الطبقة في القيام بدورها التاريخي. إذن لم يبقَ أمام البرجوازية من خيار سوى تسليم السلطة للحركة الفاشية الناشئة. وهذا ما يدعو ميخائيل فاجدا إلى الاعتقاد بأنّ الحل الوحيد لإخراج إيطاليا من أزمتها الاقتصادية والسياسية قد تجسّد في صعود الفاشية. وقد كان ذلك، من وجهة نظره، أمراً لا مفر منه.

        أمّا التجربة الألمانية فقد كان أمامها خيارات متعددة لا سيما وأنّ المشكلة التي تواجهها ذات طبيعة أخرى، فهي، وخلافاً للأوضاع في إيطاليا، كانت قد تجاوزت مرحلة التطور الأفقي في بنية اقتصادها الرأسمالي وغدت أزمتها الاقتصادية من النوع الذي يرافق الأنظمة الرأسمالية في مرحلتها الامبريالية. وفي مثل هذه الحال كان يمكن الخروج من الأزمة في ألمانيا عن غير الطريق النازي خاصة وأنّ تجربة البلدان الأوروبية الأخرى كانت، في هذا المجال ناجحة نسبياً. وإذا بقيت التجارب الأخرى عاجزة عن التوصل إلى معالجات جذرية للأزمات التي ترافق النظام الرأسمالي، وهي ما تزال حتى اليوم عاجزة عن ذلك، فإنّها قد نجحت فعلاً في تفادي الحل الفاشي طيلة فترة ما بين الحربين (وهي ما تزال تحافظ على إنجازها حتى اليوم).

        إنّ وظيفة الفاشية هي، إذن، تأمين الشروط السياسية لانتقال الرأسمالية من مرحلتها الأفقية إلى مرحلتها العمودية. وقد ظهر أنّ العقبة الأساسية التي اعترضت سبيل الفاشية هي الديمقراطية. لذلك قامت الفاشية على أساس عداء تناحري مع الحريات الديمقراطية حتى بمعناها البورجوازي الليبرالي.

        يبقى أن نشير إلى الجانب القومي، وهو مفهوم إيديولوجي تقوم عليه الفاشية، فقد تمكّن هتلر من أن يستثير غرائز الشعب الألماني ضد الذين فرضوا عليه شروط معاهدة فرساي “المُذلّة”، ومن أجل وحدة الأُمّة واسترجاع الأراضي التي تُعتبر ضمن الحدود الطبيعية لألمانيا الخ. كما وجد هتلر بسهولة “الضحية” التي يمكن من تحميلها مسؤولية الأزمة الاقتصادية معتبراً اليهود وراء انفجار الأزمة، متعاملاً معهم على أساس أنّهم هم “الغرباء” الذين يمكن تصويب النار “الإيديولوجية” إليهم كوسيلة لاستقطاب الجماهير. (هذا ما يقوم به اليوم زعيم الجبهة الوطنية في فرنسا النائب لوبن حين يحرّض الفرنسيين المصابين بأزمة اقتصادية، ضد “الغرباء” الأجانب، لا سيما المهاجرين العرب).

        إنّ هذا العرض الموجز لبعض الأفكار الواردة في كتاب ميخائيل فاجدا لا يشكّل تقديماً وافياً لما يتضمّنه من محاولات التفتيش عن الأُسس التي قامت عليها الفاشية على كافة المستويات.

        وإذا كان نشر عيّنات من هذه الأفكار عملاً هادفاً فإننا، في الحقيقة، ننطلق من فرضية وجود مشروع فاشي لدى بعض فئات من اليمين اللبناني، كما ننطلق من أنّ هذا المشروع لم تتوفّر له كافة عوامل نضجه وتكامله على امتداد مراحل الأزمة. فكان كلّما فقد أحد العناصر الأساسية المكوّنة له انكفأ ليبحث عمّا يعوّض له عن ذلك، أو لكي يهيّئ بديلاً عنه.

        وعلى هذا الأساس نعتبر أنّ المشروع الفاشي كان قد استكمل أُسسه بين عامي 1978 – 1982، فقد أنشأ تنظيمه العسكري (الميليشيا أو الميليشيات) فتوفرت له الأُسس التنظيمية، كما توفرت له أُسس إيديولوجية (الحرب ضد الغرباء) وأُسس اقتصادية (الأزمة التي بدأت مع انهيار بنك أنترا) وأُسس سياسية (ظهور الطبقة الحاكمة عاجزة عن استكمال دورها في قيادة المجتمع اللبناني) وقد اكتمل هذا المشروع بتوفر الزعيم (بشير الجميّل).

        الميليشيا عصب المشروع الفاشي وتنظيمه الأساسي. منها تستمد الحركة الفاشية قوتها وتستخدم الأُطر الأخرى وتجنّدها في خدمة الميليشا. من هنا كان الإصرار على استقلالية القوات اللبنانية، وقبل ذلك، الإصرار على توحيد الميليشيات في إطار القوات اللبنانية. ومن هنا أيضاً ينظر إلى مرحلة 1978 – 1982 على أنّها أكثر المراحل الفاشية خطراً لأنّها شهدت محاولات لتوسيع أُطر القوات اللبنانية، أي الميليشيات، باتجاه التنسيق مع المزيد من الميليشيات في ظل الهيمنة الإيديولوجية والعسكرية والسياسية للقوات اللبنانية.

        منذ اللحظة الأولى لقيامها بدأت الفاشية تستخدم التعبئة ضد “الغرباء” وتبشّر بقيام “الأُمّة” اللبنانية، فتنبش، على غرار الصهيونية، مقومات وهمية لهذه الأُمّة، فتنادي بنقاء العرق، وتميّز الجنس “الفينيقي” أو “الماروني” أو “اللبناني”، وأسبغت على صفة “اللبناني” مسحة عدائية، بحيث أصبح يستحيل أن يقوم لبنان إلاّ على حساب الآخرين الذين تجسّدوا دائماً بالعنصر “الفلسطيني” وأحياناً بالوجود “السوري” وأحياناً أخرى باليسار “الدولي” أو بالمسلمين الذين ينبغي أن يعودوا من حيث أتوا، إلى الجزيرة والعراق، أو أن يعود سكان الضاحية الجنوبية لمدينة بيروت إلى حيث أتوا من الجنوب والبقاع.

        إلغاء الآخرين هو أحد ميزات الحركة الفاشية. وفي هذا الإطار نفسّر كيف “نظفت” الفاشية منطقتها من كل وجود معارض بالتهجير أو بالتصفية، وليس خافياً أنها استخدمت التحريض الطائفي في بعض المراحل لإنجاز هذه المهمة، واستخدمت غيره حين أصبحت “المعارضة” المستهدفة محصّنة ضد التحريض الطائفي (كما كانت الحال مع كميل شمعون وسليمان فرنجية).

        ينشأ على أساس هذه الخاصية الفاشية استنتاج مهم يتناول جبهة القوى المواجهة للفاشية؛ فقد ارتكبت هذه القوى، وما تزال، خطأ محاولات إلغاء الآخرين، بالصراع المسلّح، أي التصفية أحياناً قليلة، أو باعتماد أشكال “سليمة” لإلغائهم. وقد أصابت هذه “العاهة” أنظمة دكتاتوريات عديدة في الكثير من الدول العربية ودول المنطقة.

        ربما يكون ذلك وراء الالتباس الذي وقع فيه بعض المثقفين المناهضين للفاشية حين وضعوا على نفس المستوى من الخطر الحركة الفاشية التي تكاملت مقوماتها والحركات الأخرى التي ارتكبت أخطاء بحق الديمقراطية والحريات، وبواسطة الميليشيات أيضاً، دون أن تتحوّل إلى حركة فاشية. هذا الالتباس دفع البعض إلى تسمية الحرب الأهلية اللبنانية “بالحروب القذرة”، معبّراً في ذلك عن موقف إيديولوجي يساوي بين المخاطر ويضيع بالتالي الخطر الأساسي مما يدفعه إلى خطأ في اختيار معسكره وتحالفاته، فيلجأ إلى هذا الفريق أو ذاك بناءً على تقييمات جزئية قد تكون صحيحة، إذا عُزلت عن سياقها، لكنها، بالتأكيد، خاطئة إذا نُظر إليها كجزء من مشروع أو من استراتيجية.

        ربما يكون ذلك وراء خطأ ارتكبه مثقفون وسياسيون حين تعاملوا مع المشروع الفاشي بالمهادنة والمساومة واستيهام الحلول معه، مستندين في ذلك إلى لحظات قصيرة في سيرورة المشروع الفاشي، يبدو فيها وكأن المخاطر قد زالت أو أنّ مفهوم “الأُمّة” قد تغلَّف بمواقف تهدف إلى تأمين الوحدة الوطنية.

مصدر آخر يمكن أن يوقع المناهضين للفاشية بالخطأ وهو طبيعة البرنامج الفاشي. في الحقيقة ليس عند الفاشية، كما يقول فاجدا، برنامج واحد. إنّ لديها برامج، و”وصفات” جاهزة لكل حالة. وفي بعض هذه الحالات يبرز في البرنامج الفاشي شعارات إصلاحية برّاقة، كان منها، في الوضع اللبناني، مسألة ضبط الوضع الأمني التي شكّلت إحدى الأولويات في مهمات الفاشية (لأنّها إحدى ضرورات تطورها) ومنها ضرورة تغيير الأُطر القديمة تغييراً ثورياً (الإدارة – المفاهيم السياسية – الفساد.. الخ). وهذا ما استطاع بشير الجميّل أن يقنع به الآخرين في بعض سلوكه، لا سيما في الندوة المتلفزة بعد انتخابه). لكن هذه الشعارات البرّاقة ليست إلاّ البرامج المرحلية بل الآنية جداً التي يتسلّق المشروع الفاشي عليها من أجل تنفيذ ما هو أساسي، وما هو تدميري.

        بعد موت “الزعيم” وضع المشوع الفاشي أمام خيارين: إمّا إعلان هزيمة المشروع بمجمله وإمّا التفتيش عن زعيم آخر، وقد اختار “المهيّأون” للزعامة الاحتمال الثاني بانتظار نضج الظروف من جديد (وليس من المستبعد أن تكون الأوهام قد اكتملت في رؤوسهم يوم إعلان “انتفاضة” الثاني عشر من آذار وتنصيب سمير جعجع زعيماً جديداً).

* * * 

        ترتدي دراسة هذه الظاهرة أهميتها اليوم في ظل الظروف المعقّدة التي تحيط بالوضع اللبناني وفي هذه المرحلة من مراحل النضال من أجل القضية الوطنية اللبنانية، وهي القضية التي يعتبر النضال ضد الفاشية أحد وجوهها.

        قد تكون هذه الأحكام  متسرّعة لكن الخوض في مثل هذه المسألة ينبغي أن يدفع النقاش إلى المستوى النظري وإلى المستوى السياسي، لكي يشكّل تحليل الظاهرة الفاشية جزءاً من النضال الإيديولوجي، ولكي يؤدي النقاش بين المثقفين الوطنيين المناهضين للفاشية إسهاماً في مجال الاكتشافات النظرية والتقدم المعرفي.

        ولا شك أنّ الأفكار الواردة في كتاب ميخائيل فاجدا في محاولات معرفية استندت إلى  خضم صراع حاد حول قضية شائكة أين منها أوضاع ألمانيا وإيطاليا بعد الحرب العالمية الأولى، وأنّ القضية القومية والوطنية التي نناضل في سبيلها زاخرة بمواضيع تشكّل مجالاً لدراسات غنية حول التحرُّر الوطني والاستقلال والسيادة والديمقراطية وغيرها من المفاهيم السياسية، وحول الطبقات الاجتماعية والطوائف والطغمة المالية وغير ذلك من القضايا النظرية.

        في ظل وجود مشروع فاشي ينطوي النضال دفاعاً عن الديمقراطية على معانٍ وأبعاد لا تتوفر في ظل غيابه. في ظل وجوده تزداد المخاطر على الديمقراطية، وتكثر المذابح. بينما يبقى الخوف على الحريات ولكن مع نسبة أقل من المذابح ونسبة أكبر من المعتقلات في ظل أشكال أخرى من الدكتاتورية. في ظل وجوده تصبح الحاجة إلى العنف الثوري ضرورة بينما قد يكون شكل النضال السلمي كافياً، في ظل شروط معيّنة، للدفاع عن الحريات. ومن الممكن أن نمضي في المقابلة إلى أبعد من ذلك، إلى حيث لا مفر من أن يحدد المثقف الوطني معسكر أعدائه ومعسكر أصدقائه والبرنامج والشعارات والأُطر النضالية، وليس الأمر سواء بسواء مع المشروع الفاشي وبدونه.

        يقول فاجدا في كتابه:

        ” في كل بلد، توجد طبقة من السكان (البورجوازية الصغيرة والمتوسطة) تعتقد أنّ بوسعها حل المشاكل الكبيرة بالبندقية والمسدس. هذه الطبقة هي الأرض الخصبة للفاشية وهي التي توفر لها الكوادر”.

        إذا جاز هذا الكلام على الظروف اللبنانية صار لزاماً علينا أن نتساءل:

        أولاً: ما هي الشروط التاريخية التي تتيح لهذه الطبقة تزويد الحركة الفاشية بالكوادر وتوفير المناخ المناسب لنموّها؟

        ثانياً: هل ينطبق مثل هذا الكلام على الوضع اللبناني مع أنّ أصحاب المشروع الفاشي ينطلقون من تمثيل طائفي ومن تمثيل طبقي؟ وفي هذه الحال ما هو موقع الطائفة من الطبقة؟ بل ما هو موقع الطائفية داخل المشروع الفاشي؟

        ثالثاً: إذا كان المشوع الفاشي موجوداً فهل تتوفّر له بعض المقومات لدى كافة الطوائف اللبنانية؟

        رابعاً: هل يُعتبر اللجوء إلى البندقية والمسدس من أغراض الفاشية وحدها، أم أنّه شأن مرتبط بكل حركة دكتاتورية؟ وهل هناك مسافة في الواقع اللبناني، بين مشروع دكتاتوري ومشروع فاشي؟

        خامساً: ما هو موقف البورجوازية، اقتصادياً، من المشروع الفاشي؟ وهل وافقت عليه طوعاً أم قسراً؟ وهل رفضته أو قاومته؟ وأين تقع مصلحتها الاقتصادية بالضبط؟

        سادساً: إذا كانت الفاشية تعبيراً عن أزمة ومشروعاً لحلّها، فما هي الحلول البديلة الممكنة للخروج من الأزمة؟

        هذه الأسئلة وكثير غيرها بحاجة إلى دراسة وإلى إجابات. وتحتاج إلى بحث معمَّق، أو بالأحرى، إلى تعميق الأبحاث حولها. وإلى أن يتم ذلك يمكن التأكيد على أنّ المناضلين الوطنيين اللبنانيين هم اليوم أمام مهمات بناء وطن جديد، وأنّهم، على كافة صعد النضال السياسية والعسكرية والنقابية والإيديولوجية مدعوون إلى إقامة أوسع جبهة وطنية للدفاع عن الديمقراطية.