19 أبريل، 2024

مغامرة القفز في المجهول

في الموقف الفلسطيني

        بعد أن كانت الخطوة الأولى من مشوار عرفات الطويل نوعاً من القفز في المجهول، غدت تلك الخطوة من جانبه هو، على الأقل معروفة الآفاق والأبعاد. وإنْ بقيت عند المعارضين تعلُّقاً بحبال الهواء وبأوهام الحلول.

        يتذكّر المرء، عندما يحلّل الأزمة، الأيام التي تلت مؤتمر فاس ومشروع الملك فهد (وكان يومئذٍ ما يزال ولياً للعهد) لحلّ أزمة الشرق الأوسط. يومها رفض محور جبهة الصمود والتصدي اقتراحات الأمير السعودي وكان ياسر عرفات في عداد مَنْ رفضوا. وقد اعتبر ذلك استجابة للضغط السوري. لكنّه لم يخفِ سراً حين قال بين المقرّبين إليه: “إنّها فرصة العمر. كان علينا أن نرضى بهذا الحل لأنّ رفضنا له يعني إزالة الغطاء العربي عنّا كثورة وكقضية”.

        ومنذ ذلك الحين وياسر عرفات يفكّر ضمن وجهة ليست الخيارات فيها بين مشروع سعودي ومشروع سوري بل بين جملة من المشاريع الأميركية التي تجمع كافة النسخ المطبوعة منها على عدم الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ولا يحق للشعب الفلسطيني بتقرير المصير.

        بعد الاجتياح الإسرائيلي تصرفت القيادة الفلسطينية على اساس اتهام سوريا بتضييع الفرصة التاريخية تلك وبهاجس الثأر من سوريا على ذنبٍ كانت قد اقترفته، ثم كرّرته مرّة ثانية، حسب رأي القيادة الفلسطينية، خلال الاجتياح بالذات، ولذذلك لم يشأ ياسر عرفات أن يعطي لدمشق بركة حط الرحال الفلسطينية بعد مرحلة بيروت، واختار الرحيل في البحر إلى اليونان لا إلى اللاذقية، ثم كرّرته مرّة ثالثة، حسب نفس القيادة، حين “تورطت” في مشاكل الفلسطينيين الداخلية وفرضت حصاراً على طرابلس، وأخرجت أبا عمار منها، وهذا ما شكّل الذريعة الأخيرة لزيارة القاهرة. إلى آخر مسلسل التبرير لخيار سياسي انتهى منذ أيام بإعلان الاتفاق الأردني الفلسطيني على صيغة عمل مشتركة لحل الأزمة.

        سارعت مصر مبارك إلى مباركة الاتفاق في حين ةقفت إسرائيل منه موقف الحذر والترقب، ويسود الاعتقاد أنّ ردّة الفعل الإسرائيلية هي تعبير عن رفض عملي للاتفاق لأنّ ما سبق ورفضته جملةً لن توافق عليه مفصّلاً.

        فالملك حسين وعرفات قد انطلقا، وبصرف النظر عن حيثيات الاتفاق، من كون الضفة الغربية أرضاً عربية بينما ينطلق الإسرائيليون من كونها أرضاً توراتية لا يجوز البحث في هويتها. واستناداً إلى الموقف الإسرائيلي أعلنت الولايات المتحدة موقف الحذر والترقب أيضاً.

        حتى لا يثير الاتفاق ردود فعل فلسطينية وأخرى سورية قرّر الطرفان عدم إذاعة السر وعدم الكشف عن تفاصيل ما استقرّ الرأي بشأنه. لكن العارفين في خبايا الأمور يؤكّدون أنّ ياسر عرفات قد كلّف الملك حسين رسمياً النطق باسم الفلسطينيين وتمثيلهم على كافة المستويات في المفاوضات المقبلة لحل المسألة الفلسطينية.

        إنّه التكليف الرسمي الذي طالما امتنع عن إعلانه أبو عمار، بل إنّه لم يتجرأ على الاعتراف بموافقته عليه رغم أنّ سلوكه العام كان يشير إلى ذلك.

        وبمعزل عن الذرائع والمبرّرات التي يطلقها مؤيّدو الاتفاق فإنّ من السهولة أن يتوصّل المحلّل المتابع لمجريات الأمور إلى استكشاف أسباب هذا “الحسم” في الموقف.

        لقد طرح هذا الحسم، في الحقيقة، منذ بداية الحرب اللبنانية عام 1975 حين كانت الثورة الفلسطينية تشكّل البديل الجدي لقيادة حركة التحرُّر الوطني. حينذاك ساد شعور عام لدى الجماهير العربية بعدم جدوى الصراع “الرسمي” مع الصهيونية، وبضرورة اللجوء إلى أشكال أخرى وأطر جديدة من النضال تجسّدت، بمعنى من المعاني، في الثورة الفلسطينية الناهضة بعد هزيمة حزيران.

        وفي الوقت الذي كان ينمو فيه هذا “البديل”، كان البديل النقيض ينمو في رأس السادات وفي رأس الحركة الانعزالية اللبنانية الطائفية وسرعان ما توضَّح كل شيء. فلا حلّ لأزمة الشرق الأوسط إلاّ من خلال أحد هذين البديلين: إمّا بديل المقاومة المسلَّحة أو بديل التفاوض والاعتراف والصلح أي بديل الانقلاب على لاءات مؤتمر الخرطوم الشهيرة وعلى ما قاله عبد الناصر عن أن الثورة الفلسطينية وُجدت لتبقى.

        وفي الحقيقة أنّ نموذجي الحل كانا مرفوضين عند أوسع الأوساط العربية الشعبية والرسمية. نذكر في هذا المجال مؤتمر بغداد للقمة العربية على المستوى الرسمي، ومؤتمر المنظمات الشعبية في ليبيا، على المستوى الشعبي، وكلا المؤتمرين عبَّر بوضوح عن رفض الخيار الساداتي الذي كان قد عبَّر عن نفسه بزيارة القدس الشهيرة. أمّا ألأسباب التي قام عليها رفض هذا الحل فهي اعتباره ذروة في التطرف الاستسلامي.

        أمّا البديل الآخر فقد كان بدوره مرفوضاً لا سيما وأنّ اسمه ارتبط بتحالف مع اليسار اللبناني الذي يلعب الماركسيون فيه دوراً مهماً. وقد مثّلت سوريا وجهة نظر الإجماع العربي على رفض هذا الخيار أو هذا البديل الي اعتبر، هو أيضاً، ذروة في التطرف باتجاه العنف. وقدّمت سوريا نفسها حاملة لواء حل ثالث يقع بين التطرُّفَيْن.

        لكن استمرار دمشق على موقفها رغم التغيُّرات الكبيرة التي حصلت في المنطقة، بعد الاجتياح الإسرائيلي وبعد أن غاصت الحرب الإيرانية العراقية في مزيد من الدمار والعبثية، وبشكلٍ خاص، بعد هزيمة المارينز في لبنان وطردهم من سواحل بيروت، وهزيمة إسرائيل في جبل لبنان ثم في الجنوب واضطرارها إلى الانسحاب قسراً من جزء من الأراضي اللبنانية المحتلة، وبعد هزيمة حزب الكتائب صاحب المشروع الطائفي العنصري، وبعد بروز ظاهرة المقاومة الوطنية اللبنانية عاملاً أساسياً، ويكاد يكون وحيداً، في إرغام إسرائيل ليس فقط على الانسحاب الجزئي من لبنان بل على بداية الانسحاب الكلّي من مشروع إسرائيل الكبرى… بعد كلّ ذلك يغدو استمرار الموقف السوري على نفس الوتيرة ضرباً من التطرف، من وجهة النظر الإسرائيلية والأميركية.

        لذلك يمكن القول أنّ القيادة الفلسطينية قد رفضت كافة الحلول وأذعنت في النهاية إلى حل أميركي كانت واشنطن قد لمّحت إليه وسرّبت ملامحه عبر الكثير من الوسطاء. بيد أنّ ياسر عرفات صمد طويلاً قبل أن يوقّع على اتفاق واضح، وحاول أن يحصل من ملك الأردن على تنازلات تحفظ له ماء الوجه الفلسطيني. فبعد أن اقتنع بنصيحة كلود شيسون التي طلبت صراحة التعجيل بتوكيل الأردن خضع أبو عمار لتهديد مباشر من مبارك بالتخلّي عن حمل القضية إلى واشنطن وعن إثارتها مع الرئيس الأميركي ريغان ما لم يجرِ الاتفاق الواضح قبل موعد الزيارة المصرية إلى البيت الأبيض. ومن ناحية ثالثة فقد استفاد الملك حسين من تلك المعطيات ليتعامل مع القيادة الفلسطينية التي يلتقي بها من موقع القوة والابتزاز. لذلك نراه، عندما عرض عليه الفلسطينيون بعض التعديلات، قد رفض ذلك بشكلٍ قاطع. لقد عرض عليه مبعوثو ياسر عرفات أن يستبدل كلمة الأراضي الأردنية بالأراضي العربية المحتلَّة، وكلمة الوفد الأردني بالوفد العربي، لكن مثل هذا التعديل وُوجه بالسخرية من قِبَل العاهل الأردني.

        إذن، سيذهب الأردن ليمثّل الفلسطينيين في مفاوضات السلام بل لينوب عنهم في البحث عن إعادة الأراضي الأردنية المحتلّة إلى المملكة، وبذلك لا يبقى للفلسطينيين من أرضهم الفلسطينية إلاّ قطاع غزّة. أمّا الوفد الأردني فقد يضم في صفوفه، إذا شاء الملك ذلك، بعض الفلسطينيين ذوي الصفة التمثيلية على غرار بعض رؤساء البلديات الموالين لسياسة الملك.

        ومع ذلك يبقى هذا النهج قفزاً في المجهول لأنّ الصهاينة ما زالوا يتمسّكون بنصوص يستخرجونها على طريقتهم من التوراة وتلغي من قاموس المفاوضات إمكانية الكلام عن ضفة غربية عربية أو فلسطينية.

        وحين ستخرج هذه القفزة إلى النور في آخر حلّة لها، أي عندما سيجلس الملك على الطاولة، بل في الوقت الذي يهيّئ نفسه لذلك، لا بد أن تكون جهات أخرى تستعد لقلب الطاولة.

        وقد يبدأ هذا النوع من ردود الفعل المعترضة على الاتفاق الأردني الفلسطيني في أي مكان صالح لاستقبال أشكال الصراع حول المسألة لكن الأراضي اللبنانية تبقى أكثر خصوبة لنمو مثل هذه التناقضات. من هنا يرى بعض المراقبين أنّ المنطقة التي ستجلو إسرائيل عنها ستكون عرضة لصراعات فلسطينية – فلسطينية حتى لو نجح الحكم في تفادي الصراع اللبناني – اللبناني. ومن المراقبين من اعتقد أنّ زيارة رئيس الجمهورية أمين الجميّل إلى دمشق كانت في هذا الإطار، حيث توجَّه للتهنئة، ولكي يطالب دمشق بالضغط من أجل المحافظة على أمن المناطق المحرَّرة. على كل حال قد يكون هذا الهاجس ممّا يشغل الحكم اللبناني، وقد يكون موقف النظام السوري إزاء الوضع اللبناني محكوماً بثقل القضية الفلسطينية، لكنّه محكوم بدرجة مماثلة بفظاعة السلوك الكتائبي الذي لا يخفي رغبته في عدم تنفيذ الاتفاقات التي يعقدها مع شركاء مفروضين عليه ونعني بهم السوريين وحلفاءهم من اللبنانيين.

        بعض الجهات المطّلعة تقول أنّ السوريين قد أبلغوا الرئيس الجميّل بشكل غير مباشر امتعاضهم من نهجه وإصرارهم  على عدم الموافقة على تقديم أي عون للنظام اللبناني قبل الشروع بالحل السياسي في لبنان وهذا ما قد يكون موضع اتفاق مع الجهات العربية التي تملك إمكانات المساعدة المالية. وقد يكون الامتعاض إيّاه سبباً في عدم تلبية رغبة الرئيس في “الأمن الشرعي” خارج مناطق الغيتو الكتائبي.

        لبنان أيضاً سيدفع ضريبة الصراعات. إضافة إلى أحلام الثأر الإسرائيلي والانتقام من أعمال المقاومة وذلك بالعودة إلى سلاح القصف البري وغارات الطيران والتهويل بالفتن والمذابح.

        كالطفل يركض هارباً وهو يرشق خصمه بالحجارة.