28 مارس، 2024

تجــارة الحــرب

مأزق العلاقات بين فرنسا والعالم الثالث

        هل يصحو ضمير مصدّري الأسلحة إلى بلدان العالم الثالث؟

        تقول الدوائر العليمة في البلدان المصدرة أنها تشكو بسبب هذا الموضوع من وخز الضمير، وتفاقمت هذه الحالة ” النفسية” وتحولت إلى كابوس مؤلم، بعد أن تطورت تجارة  الحروب، لا سيما مع البلدان الفقيرة ذات المستوى المتدني من المعيشة. ولم يكن حسن النوايا كافياً لحل هذه المعضلة لأنّه يصطدم، على الدوام بصعوبات غير متوقعة.

        لم تكن فرنسا في منأى عن هذا المأزق. وقد أفادت المؤسسة الدولية للأبحاث في ستوكهولم أنّ شحنات الأسلحة الفرنسية إلى الخارج لم تتضاءل خلال عام 1984، بل إنّها مالت إلى التصاعد. والتبريرات معروفة طبعاً! إنّها مرتبطة بأمن فرنسا القومي وباستقلالها! ومن المسلّم به أنّ تصدير السلاح شأن حيوي بالنسبة لكل دولة تتوفر لديها إمكانات صناعة الأسلحة، باعتبار هذه الصناعة شرطاً أولياً للحفاظ على القرار المستقل في سياستها الدفاعية ولتأمين سلاحها الخاص ضمن شروط مالية معقولة.

        يظهر حجم الأهمية التي توليها فرنسا لصناعة الأسلحة من خلال تطور عملية التصدير. فقد تضاعفت كميات الأسلحة المباعة اثني عشر ضعفاً في اثني عشر عاماً (1970 – 1982)، بينما تضاعفت كمية الصادرات الفرنسية الأخرى بنسبة سبع مرّات فقط. والحساب الاقتصادي لهذه المسألة بسيط. فالتوظيفات المالية في هذا النوع من الصناعة كبيرة نسبياً وتعود بأرباح كبيرة أيضاً وتحتاج إلى تشغيل عدد لا بأس به من اليد العاملة. وقد لحظت خطة 1984 – 1988، في مجال الدفاع أنّ الجهود المرتقبة للبحث والدراسة تمثّل 20% من الإنتاج القومي في حين أنّ الميزانية العسكرية لا تتجاوز 4% من الميزانية العامة.

        وتفيد الإحصاءات أيضاً إنّ مضاعفة الإنتاج تؤدي إلى زيادة في القدرة الإنتاجية تصل إلى حدود العشرين في المائة، وإنّه كلّما تطوّر مستوى الإنتاج كلّما تضاءلت الكلفة، لا سيما إذا كان الإنتاج يعتمد على مستوى تكنولوجي رفيع كما هي الحال في صناعة الطيران الحربي.

        لكن معرفة قيمة العائدات التي توفّرها صادرات الصناعة الحربية لا يمكن تحديدها بدقة بسبب ما يكتنف هذه الصناعة من غموض، ممّا حدا بمسؤول إحدى المؤسسات الخاصة أن يتساءل في إحدى المحاضرات، عمّا إذا كانت العائدات التي وفرتها مؤسسته للخزينة العامة قد حوّلت لتمويل القوات البرية التي دفعت اعتماداتها مسبقاً؟ ومن الثابت والأكيد أنّ هذا القطاع الصناعي يصبح ملزماً يتخفيض ميزانيته إلى النصف إذا توقفت عملية التصدير ممّا يعرّض القدرة الدفاعية الفرنسية للاهتزاز.

        وتشكّل الصادرات العسكرية عنصراً مساعداً على المستوى الأمني والسياسي، فبفضله تتمتع فرنسا بشروط تساعدها على التدخل في القضايا ذات الشأن العالمي. ذلك أنّ الدولة التي تملك القدرة على تصدير السلاح تملك أيضاً امتيازات على الصعيد العالمي، وتتصرف بقدرتها على التأثير عبر صداقاتها ونفوذها، وهي تستطيع بفضل ذلك أن تحرّر بلداً معيّناً من الارتهان إلى مصادر السلاح الأخرى وأن تحميه من أطماع إمبريالية أخرى.

الصادرات الحربية اقتصادياً

        بالإضافة إلى الجوانب السياسية والعسكرية لهذه الصناعة، فإنّ لها جانباً اقتصادياً لأنّ الصادرات الحربية هي سلع مثل السلع الأخرى وهي تؤثّر على القطاع الصناعي المعني، لكنّها تؤثّر أيضاً في الأوضاع الاقتصادية العامة في البلاد.

        استناداً إلى مثل هذه التقديرات حول تجارة السلاح يمكن البحث عن الإيجابيات التي تجنيها هذه التجارة وعمّا إذا كانت “تجارة السلم” أكثر فادة منها. والجواب العلمي هو ما تتوصّل إليه الدراسات والأرقام.

        من الثابت أنّ الصادرات العسكرية الفرنسية تسدُّ جزءاً من العجز في ميزان المدفوعات، وإنّها، إضافة إلى ذلك قد لعبت دوراً في تنظيم الدورة الاقتصادية للبترو دولار، وهي بلا شك، القطاع الذي يلعب دوراً إيجابياً في حساب الميزانية العامة. فقد سجّل قطاع الصناعات البحرية والجوية عام 1982 فائضاً مقداره 30 مليون من الفرنكات الفرنسية مقابل 20 مليوناً في قطاع صناعة السيارات.

        تصبح هذه الأرقام أكثر حدّة ودلالة إذا علمنا أنّ 80% من قيمة الصادرات الحربية يباع إلى بلدان العالم الثالث، وتشكّل مقدار 14% حتى 17% من قيمة الصادرات العامة إلى هذه البلدان. والجدير ذكره هو أنّ قيمة الصادرات الفرنسية من الأسلحة بلغت عام 1982 حوالى عشرين مليار فرنك.

        إضافة إلى ذلك يلاحظ أنّ الصادرات الحربية قد تفرض نوعية معيّنة من الاستيراد. فمقابل مليون فرنك من البضائع العسكرية المباعة، تستورد فرنسا بما قيمته 315 مليوناً من الفرنكات، 62% منها تدفع ثمن مواد أولية تستخدم في الصناعات العسكرية نفسها.

        أما البلدان التي تعتمد الفرنك كعملة رسمية فإنّها تتبادل مع فرنسا بقيمة 278 مليون فرنك مقابل مليار فرنك قيمة المشتريات العسكرية في فرنسا.

        ومن الثابت أيضاً أنّ الصناعات الحربية أكثر مردوداً على الرساميل المستثمرة من الصناعات السلمية. كما أنّ النمو في الإنتاج يبلغ في الأولى ضعف ما يبلغه في الثانية في ظل شروط ملائمة.

        خلال المحادثات حول استبدال طائرة “ف – 104 ستارفايتر” قدّمت مؤسّسة مارسل داسو الفرنسية عروضاً مغرية، قدّمت بموجبها ما أسمته “تعويضات صناعية” وهي شروط ما تخول الجهات التي تشتري طائرات ميراج “ف -1” بأن تصنع بعض التجهيزات الخاصة. وعلى هذا الأساس أُعطيت كل من اليونان وإسبانيا حق إنتاج بعض قطع غيار لدبابات “أم. ك – 30” ولغواصات “أغوستا”، كما منحت بلجيكا وإسبانيا حق إنتاج أجزاء من “ميراج – 3″ و”ف – 1” ليس فقط من أجل الاستهلاك المحلي، بل للتصدير أيضاً، وأُعطيت بريطانيا حق صناعة صواريخ أكروست.

مأزق السياسة الفرنسية

        إنّ أفضل تعبير عن مأزق السياسة الفنسية إزاء تجارة الحرب هو قرارها عام 1977 بعدم بيع السلاح إلى أفريقيا الجنوبية وردّة الفعل على القرار. فقد قال أحد النقابيين معلّقاً على قرار حكومته: “نحن نعارض، طبعاً، بيع السلاح إلى الأنظمة الفاشية والعنصرية ونفضل، طبعاً، أن نصنع بضاعة أخرى غير السلاح. لكن من حقّنا أن نصمد أمام الصعوبات. فنحن تنظيم نقابي وعلينا واجب الدفاع عن حقوق العمال وبالدرجة الأولى حقّهم في العمل”.

        إنّ التعليق نفسه يمكن أن يتكرّر إذا ما كرّرت الحكومة ذات الإجراءات بصدد قطاعات أخرى من الصناعة العسكرية. وذلك هو الأمر المتوقع في مجال التصنيع البحري. فالدراسات الإحصائية تشير، بلغة الأرقام، إلى أنّ كل مليار من الدولارات العائدة من تصدير الصناعات الحربية يؤمّن مجالات العمل لحوالي 3300 عامل. بينما يؤمّن رأس المال ذاته في التصنيع السلمي مجالات عمل لحوالي 3500 عامل. وهذا يعني اقتصادياً أنّ الاستثمارات السلمية تتطلّب مزيداً من اليد العاملة يجعل معدلات الربح فيها أقل من المعدلات في استثمارات “تجارة الحرب”.

* * *

        تعمّقت الأزمة في فرنسا بعد إقفال أهم معامل الحديد والصلب ممّا سيؤدي حسب التوقعات، إلى تخفيض حجم الصادرات العسكرية إلى العالم الثالث، وبالتالي زيادة عدد العاطلين عن العمل بنسبة 30 إلى 40% عمّا كانت عليه.

        كيف السبيل إلى تجاوز الأزمة؟ هل بمطالبة دول العالم الثالث بتخفيف وارداتها من الأسلحة؟ يبدو هذا الحل وهمياً رغم أنّ مبررات هذه المطالبة من الصراحة والوضوح بحيث لا يمكن تجاهلها. ذلك أنّ الميزانيات العسكرية في بلدان العالم الثالث تصل أحياناًً إلى حوالى 60 أو 70% من إجمالي الميزانية العامة، بينما لا تتجاوز في بلدان أوروبا نسبة 15% من الميزانية. إنّ هذه الأرقام تبيّن حجم الدمار الذي تلحقه السياسة القائمة على تخزين السلاح، ليس فقط بما هو أداة للحرب والدمار، بل بما هو وسيلة من وسائل الاستثمار غير المنتج لطاقات الشعوب.

        من ناحية أخرى تبدو مطالبة الدول الكبرى بتغيير سياستها في هذا المجال ضرباً من الوهم والمحال أيضاً، لأنّ تلك الدول عجزت بعد ثمانين عاماً من المفاوضات عن التوصل إلى اتفاقات للحد من سباق التسلُّح.