29 مارس، 2024

رقصــة المجـانيـن

        بعد انسحابها الجزئي أقدمت إسرائيل على اتّباع سياسة أطلقت عليها عبارة “القبضة الحديدية” وبدأت بتطبيقها في قرى مختلفة من المناطق المحتلة في جنوب لبنان. من المراقبين مَنْ قال إنّها محاولة لإخراج الجيش الإسرائيلي في جو من الانتصار الظاهري بعد أن سادت قبيل الانسحاب الجزئي في منتصف فبراير، أجواء من الإحباط النفسي لدى الجنود الصهاينة ومشاعر الهزيمة. ومنهم مَن اعتبر الأمر مجرّد ردّة فعل على خسارة اثنين من كبار الضباط، لا سيما وأنّ أحدهما يتولّى الإشراف على جيش أنطوان لحد. وبلغ ببعضهم القول أنّ خسارة هذا الضابط بالذات أثارت حقد الجيش الإسرائيلي لاسيما قيادته والأخص لأنّه ابن شقيقة رئيس الأركان موشي ليفي.

        على أنّ الأقرب إلى الصواب، على صحة التفسيرات المذكورة، هو أنّ إسرائيل لا تقصد من وراء لجوئها إلى القبضة الحديدية محاصرة قرى الجنوب، بقدر ما تستهدف محاصرة ردّات الفعل الفلسطينية في الأراضي المحتلة، ومحاصرة العدوى التي نقلت إلى الضفة الغربية “مرضاً” بقيت إسرائيل تتمتع بالمناعة ضده فترة طويلة من الزمن ونعني به “مرض” المقاومة المسلّحة التي تهدّد الإسرائيليين بأرواحهم وبحياة جنودهم بعد أن ظلّت، طوال عقود، تكتفي بإثارة القلق في نفوس مستوطنيهم.

        وإلى جانب ذلك تأتي تلك الإجراءات في ظروف التحضير للمفاوضات الأردنية الإسرائيلية وقد شكّل الوضع اللبناني، وما يزال، ساحة الاختبارات والتجارب والضغوط تمهيداً لأيّة خطوة. وكأنّما تريد إسرائيل أن تشد بقبضتها الحديدية لا على أعناق اللبنانيين الرازحين تحت الاحتلال فحسب، بل بالدرجة الأولى على أجواء التحضير وعلى طريقة تشكيل الوفود وعلى إجراءات التفاوض التي بدأت مصر بالإعداد لها.

لكن الواقع هو أنّ القبضة تشد، بشكل غير مباشر، ومن حيث لا تقصد إسرائيل ولا تدري، على عنق المشروع الصهيوني وتشكّل تعبيراً عن الألم الذي تكابده قيادات الدولة العبرية وهي تحاول الانسحاب من مأزق بيغن، أو من المأزق الذي ورّط بيغن دولة إسرائيل في وُحوله. وقد يكون رئيس الوزراء الأسبق في تشدُّده ونزقه قد استيقظ من غفوة الهزيمة الأولى أو من كابوسها وعاد إلى الحلبة ليحاول مرّة أخرى، بل ليشد من أزر حكومة قرّرت الانسحاب، أي الانقلاب على ما كان قد “أنجزه”، لا سيما أنّه يخشى من أن تعود قلعة الشقيف إلى الوطن اللبناني بعد أن كان قد أهداها لسعد حداد عربوناً للصداقة والوفاء!

        إنّ تفاصيل القبضة الحديدية لا تشير إلى وجود خطة واضحة المرمى والأهداف بقدر ما تشير إلى أعراض هستيرية لا على الخسائر البشرية الإسرائيلية فحسب، بل وقبل ذلك، على تبخُّر أحلام اليقظة البيغينية، وعلى اصطدام الغطرسة العسكرية الصهيونية بشبح المقاومة الوطنية الذي يتحرك في الخفاء ويؤلم، وأكثر ما يؤلم فيه أنّه موجود في كل مكان من الجنوب، في كل شيء ومع ذلك فهو لا يرى. ولا عجب والحالة هذه أن تتكرّر يومياً حالات من المواجهة االمضحكة بين جنود الاحتلال وزملائهم العملاء أو بين مجموعتين من الجيش الإسرائيلي لأنّ “كابوس” المقاومة موجود على الدوام في كل خطوة يخطونها. فقد أطلق الإسرائيليون النار مرّة على حارس إسرائيلي كان يقوم بمهمته وهو يخلع قميصه بسبب الحر، وأطلقوا مرّة في الهواء بعد أن انفجرت علبة فارغة تحت دواليب السيارة التي تقلّهم، وكانوا قبل انسحابهم بأيام قليلة لا يتجرأون على اجتياز مدينة صيدا دون أن يطلقوا النار في جميع الاتجاهات طيلة مرورهم داخل المدينة. إنّه الجنون أو الرغبة في مقاومة الجنون على طريقة القبائل البدائية التي كانت تعتقد بوجود شياطين داخل الجسد وبأنّ الرقص العنيف القاسي كفيل بإخراجها. إنّ الإسرائيليين يقومون اليوم بالرقص البدائي هذا لكي يخرجوا من تحت جلدهم “الشيطان” المقاومين الوطنيين.

        على الوجه الآخر من الصورة يظهر مستوى البربرية والهمجية في سلوك الإسرائيليين. إنّهم لا يطلقون دائماً في الهواء وكأنّهم لا يقصدون أحداً، بل كثيراً ما يظنون أنّ الهواء خصم لهم والتراب والشجر والحجارة وكل شيء، حتى إذا تأكّدوا من أنّ كل رقصهم الجنوني لم يحفظ لجنودهم حياة ولا أمناً ولا استقراراً لجأوا إلى إطلاق النار بشكل متعمد للإبادة والقتل الجماعي وللتهجير وتفريغ القرى، وإلاّ فكيف نفسّر إقدام الصهاينة على هدم عشرات المنازل وعلى اغتيال عشرات المواطنين الجنوبيين خلال الأسبوع المنصرم؟ بل وكيف نفسّر إقدامهم على ما لا تقوم به إلاّ ميليشيات مسلّحة، كممارسة القنص على القرى وإقامة الحواجز الطيارة لخطف المواطنين؟ وكيف نفسّر إقدامهم على اجتياح قرى تقع في نطاق احتلالهم وعلى قصف قرى هي الأخرى في منطقة سيطرتهم؟ إنّه رقص المجانين الهستيري.

        لا شك أنّ الأرض الملتهبة تحت أقدام الصهاينة في لبنان تشكّل هدفاً عندهم لتحويلها إلى أرض محروقة، ولا شك أنّ ارتفاع الجندي الإسرائيلي إلى مستوى المقاتل الانتحاري أمر مستحيل. لذلك يعتقد المراقبون أنّ حكومة بيريز لن تُقدِم على إحراق الجنوب في ظل وجودها لأنّ في ذلك تمثُّلاً بالأعمال الفدائية الانتحارية، ولذلك، وحسب نفس الاعتقاد، ستنسحب إسرائيل بجيشها لترمى بالقذائف الحارقة من بعيد، الأمر الذي قد يهدئ من روعها متيحاً لها إمكانية التقدُّم خطوة جديدة نحو “السلام” الذي تريده.

        لكن الانسحاب، بقدر ما يُعتبر عنصراً إيجابياً لكونه يعفي الجنود من الاستنفار الدائم ومن الخوف المستمر على حياتهم من رصاصة لبنانية، يشكّل عنصراً سلبياً يضعف إسرائيل حتى أمام الراغبين بمفاوضات عاجلة. فالرغبة في استكمال عملية السلام على طريقة كمب دايفيد تستند إلى أحكام موازين القوى. وفيها بدت إسرائيل هي الأقوى وبدت الولايات المتحدة وكأنّها، في نظر البعض قدر هذه المنطقة وسيدة مصيرها، لذلك تبدو الهزيمة الإسرائيلية تصميماً لعملية السلام إضافة إلى الصعوبات الأخرى الموجودة أصلاً، والتي لا يندرج في عدادها اعتراض بعض قادة منظمة التحرير على المبادرة المصرية، ولا الإصرار على تفسير بنود الاتفاق الأردني الفلسطيني بأشكال متعددة  بل متباينة.

        حين تعتبر هذه الأمور بمثابة صعوبات هامشية فلأنّ الأساسي الذي يحول دون استكمال السلام “الإسرائيلي” هو كونه سلاماً لا يجمع عليه الإسرائيليون كلّهم ولأنّ وجودهم داخل الكيان العنصري، هو بحدّ ذاته ضد السلام.

        إنّ إسرائيل، حين تُحكم قبضة حديدية على الجنوب المحتل، ترغب في أن يأتي الصدى صراخاً فلسطينياً في الضفة الغربية. لكن المقاومة الوطنية اللبنانية تمضي ودويّها على كل الضفاف.