25 أبريل، 2024

شاخ بورقيبة وبقي استقلال تونس

        في مثل هذا الشهر من العام 1955 دخلت تونس عهد الاستقلال. ثلاثون عاماً وما تزال شمس الحرية تدور، ودواليب الزمن تدور، والرئيس بورقيبة، سيّد الاستقلال، الأب والمحرّر، ما يزال يدير شؤون البلاد، عين إلى الوراء، على إنجازاته الهائلة، وأخرى على الحاضر المليء بالصعوبات والمشاكل.

        في الأول من شهر يونيو 1955 عاد الرئيس الحبيب بورقيبة من منفاه الذي دام عامين ونصف، وبعد ثلاثة أعوام ونصف على اعتقاله، انتقل خلالها بين طركا والرمادة وجزيرة دوغروا، وقصر الفرتيه في مونتارغيس، وأخيراً في شانتييه. خلال تلك الفترة راح بيار ماندس فرنس يبشّر التونسيين بمنحهم الاستقلال والسيادة في وقت قريب.

        الأول من يونيو 1955 “وضع الحبيب” قدميه على أرض الوطن، حمله محبّوه على الأكتاف ونادوا من أعماق صدورهم، وبأعلى حناجرهم: يعيش بورقيبة. وأحاطوه بمحبّة وإعجاب واعتزاز، كثيراً ما يُحاط بمثلها الأبطال القوميون محرّروا الأُمّة. إنّه تاريخ عظيم بالنسبة لهم، تاريخ نهاية الاستعمار والسيطرة الأجنبية.

        قبل هذا التاريخ كانت تونس تجرجر وراءها تاريخاً طويلاً من الاستعمار التركي الذي استقال من وظيفته تلك بسبب ضعفه وتآكله وليس لسبب آخر تركة الرجل المريض انتقلت عام 1881 إلى سلطة الدولة الفرنسية الناهضة، وكانت تونس قبل ذلك رازحة تحت الحكم العثماني منذ القرن السادس عشر. وهو التاريخ الذي يمثّل، بالنسبة للفرنسيين، عصر النهضة الأوروبية.

حاربهـم بسلاحهـم

        الرئيس بورقيبة، الذي نشأ على التربية الفرنسية، قرّر أن يواجه فرنسا بسلاحها، إنّه التونسي الذي فتنته حضارة فرنسا. تعلَّم في مدارسها، وفيها ترسّخت في ذهنه معاني القيم والشعارات التي عرفتها البشرية لأول مرة من باريس: الحرية، الإخاء، المساواة. لكن الرئيس كان سرعان ما يصاب بخيبة الأمل، بعد أن يخرج من قاعة الدرس، معجباً بأساتذته المثقفين، ليلتقي في الشارع، أفراد الشرطة وعناصر الأمن وهي تحمل السياط وتمنع التونسيين من ريادة بعض المقاهي المخصَّصة للفرنسيين. إنّه التناقض الذي لا يُحتمل، والذي يصعب على تلميذ نجيب أن يجد له تفسيراً.

        عام 1934 بدأ الرئيس بورقيبة ثورته على الدستور. كان ذلك في الثاني من مارس في قصر الهلال، بالقرب من مدينته موناستير، أي بعد سنوات سبع على عودته من باريس حاملاً إجازة في الحقوق، وبرفقته زوجته الفرنسية. وفي منتصف عام 1938 تدخَّل الجيش ليمنع على التونسيين مطالبتهم بما هو أرفع مستوى من الدستور الجديد، بل بما هو أخطر على الفرنسيين. واعتُقل بورقيبة للمرّة الثانية.

        الأمر الذي أصدره بورقيبة، القائد الحزبي، عند اندلاع الحرب كان واضحاً: “إنّني أصدر أمري، كمسؤول حزبي، بضرورة الدخول في علاقة مع الديغوليين الموجودين في تونس، وذلك بهدف تنسيق نشاطنا السري، قدر الممكن، مع نشاطهم، تاركين إلى ما بعد الحرب قضية استقلال بلادنا”. غير أنّ الجنرال ديغول كان ما يزال يجهل هذا القائد، حتى بعد أن انتهت الحرب. ورغم ذلك بقي القائد يعلّق آماله عليه.

مأخذ قديم: عدم الواقعية العربية

        بعد خيبة الأمل من الموقف الفرنسي اتجه بورقيبة شطر الشرق، فذهب في زيارة سرية مجتازاً الصحراء الليبية باتجاه القاهرة، من أجل كسب التأييد والمساعدة العربيين. وعاد من جولته الشرق أوسطية في الثامن من سبتمبر عام 1949. لكنّه عاد أيضاً خائباً بسبب عدم الواقعية التي كان يتميّز بها سلوك الحكّام العرب، وبسبب الهوّة السحيقة التي تفصل بين القول والعمل. بعد عودته، وجد أنّ الشعب التونسي ما يزال على فقره، والفرنسيين ما يزالون على إصرارهم في السيطرة وحجز الحرية عن شعبه. فقرّر معاودة النضال.

        “إنّها بالذات فرنسا، هي التي علّمت العالم المبادئ التي نستلهمها نحن لكي نناضل ضدها من أجل الحرية”. وفي عام 1951 بعثت وزارة الخارجية الفرنسية المندوب السامي كسافييه دو هوتيكلوك على متن سفينة حربية، ليمنح صلاحيات استثنائية للجنرال غارباي الذي “رسّخ” السلام في مدغشقر، على أشلاء ثمانين ألف ضحية. غير أنّ المقاومة تصاعدت. واعتُقل بورقيبة للمرّة الثالثة، وللمرّة الأخيرة.

تحرير البلاد، تحرير المرأة

        عهد الاستقلال التونسي شهد، في بداياته إنجازات هائلة. فخرجت تونس في ظلّه من عصر إلى عصر، من حضارة إلى حضارة. لأول مرّة يخرج التونسيون من بيوتهم ليمارسوا دوراً سياسياً بات حتى ذلك التاريخ بمثابة الحلم. فقد أُتيح لهم أن يشاركوا في انتخابات عامة. وكان من الطبيعي أن يصعد بورقيبة عن طريق الانتخابات المباشرة إلى سدّة الرئاسة في تونس بعد أن كسب الزعامة عن طريق النضال ضد الاستعمار.

        عام 1956 صدر قانون العائلة الذي اعتُبر متقدماً، في كثير من النقاط، على القانون الفرنسي ذاته. ومن مآثر الرئيس الشهيرة جداً أنّه قام بنفسه خلال أحد الاحتفالات، بنزع الحجاب عن وجوه النساء المشاركات، فكان بذلك أول زعيم عربي يقوم بهذه الخطوة التحررية، إضافة إلى الملك محمّد الخامس في المغرب. وفي قانون العائلة ذاك منحت الزوجة حقاً مساوياً لحق الزوج في الطلاق، وبموجبه اعتُبر كل زواج قسري من دون موافقة الفتاة باطلاً. وقد وصل الأمر إلى حد منح المرأة حق الإجهاض ولكن ضمن شروط.

        على المستوى الثقافي شهدت تونس تطورات مهمة على يد الرئيس بورقيبة وذلك من خلال جهودٍ بُذلت لتعميم التعليم، وللتوفيق بين التراث الذي تسود فيه تعاليم الدين، وبين متطلبات العصر العلمية والتكنولوجية. ومن الجدير ذكره أنّ الحبيب بورقيبة كان يخوض في ذلك الحين نوعاً من التحدي. غير أنّه نجح ولا شك مستنداً في ذلك إلى زعامة راسخة وثقة شعبية لا تتزعزع.

النبـيّ الهــرم

        لم يكن التحدي من نوع التحديات السياسية، بل هو أخطر من ذلك لأنّه يطال المشروع الثقافي والحضاري الإسلامي في الصميم. لذلك راح الرئيس يبشّر مواطنيه ويلعب بينهم دور المرشد الديني قائلاً:

        ” إنّ النبي ذاته قد رأى، خلال الهجرة، أنّ الصيام يضعف المحاربين فأمر بقطع الصيام وقدّم لهم المثل. أمّا اليوم فإنّ الجهاد والحرب المقدَّسة ليسا ضد الخطيئة الأخلاقية أو ضد الخيانة، إنّهما ضد التخلُّف. إنّ سياستنا تقضي ببناء أُمّة قوية محترمة. وأُمنيتنا هي أن نقود أفريقيا كلّها نحو التقدم والكرامة. ثقوا جيداً أنّ تفسيري لقوانين الإسلام هو التفسير الأكثر قابلية للحياة”.

        بعد ثلاثين عاماً على الاستقلال ها هو الرئيس بورقيبة يواجه الهوّة السحيقة التي تفصله عن الجيل الشاب. وخطيئته، في نظرهم، أنّه لم يفسح في المجال أمام احتمالات التجدُّد والتجديد. وأنّ الذي أنجزه في بداية زعامته، قد أصبح اليوم من الماضي، وأنّه لم يسمح لغيره بأن يقوم بما قام به هو. لذلك لم تستكمل الحرية معناها الأشمل، ولم تتابع تونس طريق تطورها في نفس الزخم الذي بدأت به.

        بورقيبة الشاب أطلق ثورة شابّة. ولمّا شاخ شاخت معه وغدت تراثاً جميلاً يؤسّس للحرية التي لا تصيبها الشيخوخة.