نميّز بين القيادة الفلسطينية والشعب الفلسطيني والقضية
تجربة مدينة صيدا ضد الانفلات غير المحدود، وضد الفرد والتسلُّط
المدن الأخرى تغوص في الاقتتال بسبب غياب الموقف السياسي الموحَّد
أُطلق عليه لقب “رمز المقاومة الوطنية اللبنانية” وتصدَّر هذا اللقب الواجهات واليافطات والصور يوم عودته من الولايات المتحدة الأميركية، ومن بوسطن بالتحديد حيث عولج من آثار محاولة الاغتيال الهائلة التي أودت بعينيه. من يراه، بعد الإصابة يتأكّد أنّ وجهاً جديداً قد جرى تركيبه له بعناية فائقة، وأنّ الخدوش التي تعرَّض لها فاقت كل تصور، فلم يجد الأطباء له حاجباً ولا خدّين ولا فكاً أسفل ولا شفة. ومع ذلك تستطيع اليوم أن تحاوره، فيجيبك بذهنٍ حاد وذاكرة متوقدة. وحين يفتح أحدهم الباب، ويقول: السلام عليكم، يعرفه مصطفى سعد من صوته، فيقول أهلاً بفلان، يقوم ويصافح، ثم يعود من جديد إلى كرسي مكتبه يتابع عمله. يضع أمامه على المكتب، منفضة للسجائر وفنجان قهوة وعلبة سجائر، يستخدمها كلّها باللمس ويعرف أيضاً أين يضعها واحدة واحدة. وإلى يمينه أجهزة الهاتف. حين يقرع الجرس يمسك الآلة بيده اليمنى، يضحك، يحزم، يعبس، يعبّر عن استهجانه، أو إعجابه، أو استغرابه، بما تبقّى من قسمات وجهه التي بدأت، بعد أشهر على الإصابة، تستعيد صورتها المألوفة وتطوي صفحة صعبة من الذكريات، ومن الحالة الصحية غير الطبيعية. وبدأ مصطفى سعد يستعيد وزنه الجسدي، بعد أن تضاعف وزنه السياسي والمعنوي، في مدينته صيدا، وعلى الصعيد الوطني والقومي.
بعد عودته من زيارة الاتحاد السوفياتي الأخيرة، ظهرت على وجهه ملامح الارتياح الكبير. فقد وعده العالِم السوفياتي فيودريف بإعادة 60% من حاسة الرؤية خلال الفترة القادمة، وربما لن تزيد المهلة عن عام. وربما يكون ذلك من منجزات العلم الحديث. كما وعده الحزب الحاكم هناك بأنّ أول عين اصطناعية على الكرة الأرضية ستكون مخصَّصة لرمز المقاومة الوطنية اللبنانية، خريج معاهد الاتحاد السوفياتي، المتزوج من سوفياتية، ابن القائد الناصري معروف سعد، والذي يعدّ العدّة لمرحلة جديدة من حياته السياسية، ولمرحلة انتقالية يهيّئ فيها نفسه للعين الجديدة. فكيف سيرى فيها العالم؟
كان “للقبس” هذا اللقاء مع مصطفى معروف سعد في منزله، في مدينة صيدا وناقشت معه الأمور الملتهبة على الساحة اللبنانية، والصيداوية بنوعٍ خاص، وكان هذا الحوار.
القبس: نبدأ أولاً من مدينة صيدا التي تكثر الإشاعات حول انفجارات مرتقبة فيها. فما هو حظ هذه الإشاعات؟
سعد: هنالك إشاعات حول تفجير معيّن، في مدينة صيدا، غير أنّ لهذه الإشاعات أساساً متيناً من الصحة، وهي ليست معلَّقة في الهواء. فمن الناحية الأولى نحن على خط النار مع العدو الصهيوني، وجيش التحرير الشعبي – قوات الشهيد معروف سعد تقف في مواجهة عملاء إسرائيل من جيش أنطوان لحد على محور لبعا – عين المير كفرفالوس. ومن الطبيعي أن يكون من احتمالات هذه المرحلة استكمال دورها في التدخل في الشؤون اللبنانية، خاصة عندما تلوح بعض الفرص لإحلال السلام في لبنان، الأمر الذي يدفع إسرائيل إلى تكليف أدواتها بالتحرك. ويزداد الأمر خطورة إذا علمنا أنّ إسرائيل التي انسحبت مرغمة بفضل المقاومة الوطنية والمواجهات الشعبية ما تزال تحن إلى تنفيذ مشروعها التاريخي عبر غزوٍ جديد للبنان، وهي لم تصرف النظر نهائياً عن نواياها العدوانية التوسعية، وإنْ بدا ظاهرياً أنّها تراجعت عن مشروعها وانسحبت من جزء كبير من الأراضي اللبنانية التي احتلّتها.
إذن نحن أمام احتمالات تحرشات إسرائيلية. أضف إلى ذلك أنّ جيش التحرير الشعبي ساهر بيقظة على تنفيذ مهمات المجلس السياسي الوطني لمدينة صيدا والقوى الوطنية التي أخذت على عاتقها تحرير الجنوب من الاحتلال، ولذلك يقوم جيش التحرير، إلى جانب مهماته الدفاعية، بعمليات هجومية ضد مواقع القوى المعادية، ويرد العدو، كعادته بقصف الأحياء السكنية، كما حصل في الأسبوع الأخير عندما تعرّضت مدينة صيدا لسقوط بعض القذائف، ممّا حتّم علينا اتخاذ ما ينبغي من إجراءات سياسية وعسكرية لردع عملاء إسرائيل.
حرب المخيمات في الجنوب مستبعدة
القبس: تتناول الإشاعات تفجير الوضع في صيدا من خلال صراع بين الفلسطينيين، أو بين بعضهم وبعض اللبنانيين، وهذا هو الأهم والأخطر.
سعد: قلت إنّ النوع الأول من الإشاعات يتناول خط المواجهة العسكرية مع العدو الإسرائيلي. أمّا النوع الثاني فهو الذي يتناول، مع الأسف، أشكال التقاتل الأخرى السائدة في لبنان، التقاتل بين قوى على الساحة اللبنانية محسوبة على معسكر المواجهة مع إسرائيل وعملائها، على غرار ما جرى ويجري في بيروت خاصة، وفي طرابلس، وما يخطط له أن يجري في صيدا، مع المخيمات الفلسطينية أو بين اللبنانيين أيضاً. وليس خافياً على أحد أنّ الإشاعات تتناول فضلاً عن المخيمات صراعات يجري العمل على إعدادها، بين قوى منضوية في إطار المجلس السياسي الوطني للمدينة، وتحديداً بين أحزاب الجبهة الوطنية الديمقراطية، وبشكل خاص التنظيم الشعبي الناصري، من جهة، وبين التنظيمات الدينية الإسلامية. غير أنّ هذه الإشاعات اصطدمت وتصطدم برغبة عميقة وصادقة لدى كافة القوى على الساحة في عدم التقاتل صوناً لوحدة الصف، ودفاعاً عن القضية الوطنية اللبنانية، وعن القضية الفلسطينية.
القبس: إنّ منطق الصراع العربي – العربي، الذي يتجسّد بين تيارين: الأول يمثّله التحالف الفلسطيني الأردني والآخر تجسّده سوريا وتحالفاتها، يقودنا إلى الاعتقاد بأنّ هذا الصراع سيمضي إلى نهايته ولن يعرف مهادنة. فهل سينطبق ذلك على الوضع الفلسطيني في صيدا، خاصة وأنّ أنصار عرفات يتمتعون ينفوذ قوى؟
سعد: إننا نميّز جيداً بين القيادة الفلسطينية والشعب الفلسطيني، بينها وبين القضية. من هنا فإنّ القوى الوطنية اللبنانية عموماً، وكافة القوى الموجودة على ساحة مدينة صيدا، تجمع على إدانة السياسة التي تنتهجها قيادة المنظمة والتي تأخذ منحى الاستسلام أمام المشاريع الصهيونية. ومن هذه الزاوية فقد أعلنّا مراراَ وتكراراً في المجلس السياسي الوطني موقفنا الواضح من السياسة التي تدمّر نضال الفلسطينيين وتدوس على تضحياتهم الماضية، وقلنا صراحة أنّنا منحازون، في شأن الصراع الفلسطيني الداخلي، إلى جانب القوى التي تعارض منهج الاستسلام وتستمر في تمسُّكها بالبندقية الفلسطينية، وبتحالفها مع القوى الوطنية اللبنانية ومع سوريا.
غير أنّ هذا الموقف لا ينبغي أن يجرّنا إلى مواجهة الشعب الفلسطيني في مخيماته كما حصل في بيروت، خاصة وأنّ “حركة أمل” قد اعترفت، على لسان رئيسها أنّ حرب المخيمات كانت فخاً سقطت فيه كما سقط فيه الفلسطينيون أيضاً، وهذا ما يؤكّد لنا ضرورة الحذر من وقوعنا أو وقوع ألاخرين ضحية تقديرات غير محسوبة بدقة، ومعارك لن تقضي على نهج التراجع، بقدر ما تهدّد القضية برمّتها إلى الخطر.
إنّ هذه الرغبة في تدارك المخاطر والسعي إلى تفاديها، تملي علينا أن نكون منتبهين لكل الحركات المدسوسة، وللتصرفات الطائشة وغير المسؤولة التي يقوم بها بعض الفلسطينيين في لبنان بتشجيعٍ من الخارج، ومن ذلك إصرارهم على تهريب السلاح والمال والمقاتلين إلى المخيمات لا بقصد الدفاع عنها، كما يشيع ذلك البعض، بل بقصد التحضير لشن معارك تخرّب الوضع اللبناني وتعرقل الدور السوري. وهنا لا بد من القول صراحةً، بحكم قوانين التاريخ والجغرافيا، أنّنا والشقيقة سوريا نقف الآن في خندق واحد دفاعاً عن قضيتنا الوطنية اللبنانية، وعن القضايا القومية للأُمّة العربية.
مدن ثلاث: تجارب ثلاث
القبس: ما هي، بتقديركم، عوامل توحيد الموقف الوطني والإسلامي في مدينة صيدا، خلافاً لما هي عليه الحال، في بقية المدن اللبنانية، كطرابلس وبيروت؟
سعد: لا شك أنّ الوضع الطبيعي هو وضع مدينة صيدا، وبالتالي فإنّ السؤال ينبغي أن بوجَّه إلى المدن الأخرى لتفسير أوضاعها الشاذة. غير أنّنا نرى، من جانبنا، أنّ الحالة الشاذة في بيروت ناجمة عن عدم الاتفاق على الحد الأدنى الضروري بين قوى متعددة تعمل على الساحة، وبتعبير آخر إنّها نتيجة تعدد للقوى غير حصري، ممّا يصعب ليس فقط توحيد موقفها، بل حتى التنسيق فيما بينها. ولا شك أنّ وجود بعض القوى في بيروت هو في حد ذاته مظهر من مظاهر الأزمة السياسية في المدينة، لأنّ بعضها، لا يمثّل في الواقع أي قوة، ولا يعبّر عن أيّة فئة، ممّا يدفعنا إلى الاعتقاد بأنّ التعدد ليس حالة صحية.
أمّا في طرابلس فإنّ الحالة الشاذة ناجمة عن عكس ذلك، أي عن غياب التعدد، وبتعبير آخر، فهي نتيجة حتمية لتفرُّد بعض القوى في التحكُّم بمصير المدينة ضد المنحى الوطني العام الذي شهدته المدينة سابقاً، وضد الخط الوطني الذي نحتاج إلى التقيُّد به في مواجهة المنحى الطائفي.
وفي الحالتين فقد أدّى التفرُّد في طرابلس، والتعدد المنفلت في بيروت إلى غرق المدينتين في أمراض الطائفية والمذهبية، وهما المرضان اللذان نقاتل حتى لا يصلنا منهما أي شر.
وقد كان للقيادات السياسية في مدينة صيدا، على اختلاف المواقع الفكرية لهذه القوى، دور مهم في حماية مدينتنا من الوقوع في فخ المذهبية والتعصُّب، ولذلك قامت، في المدينة أُطر للتنسيق لم يعرف لبنان، في مناطقه الأخرى مثيلاً لها، وكان المجلس السياسي الوطني الذي يضم التنظيم الشعبي الناصري، والأحزاب التقدمية والتنظيمات الإسلامية والشخصيات المستقلّة خير تعبير عن الإجماع على وحدة الموقف، وعلى التعددية ضمن الوحدة، كنموذج كما نطمح أن يكون عليه لبنان في مواجهة خطرين اثنين: تحوُّل لبنان إلى بلد بلا حدود، أو محاصرته بقوانين التسلط والظلم والحكم الفئوي، مسيحياً كان مصدر هذا التسلط أو إسلامياً.
المعركـة طويلـة
القبس: ما هو تقديركم لاحتمالات الإصلاح السياسي وإيجاد حل للأزمة اللبنانية، وما هي فرصها من النجاح، خاصة وأنّكم عضو في جبهة الاتحاد الوطني، ومشاركون في وضع مشروع برنامج للإصلاح؟
سعد: لا شك أنّ حل الأزمة اللبنانية يبدأ بمعالجة أسبابها، وهي على نوعين: أسباب تعود إلى ارتباط أزمة لبنان بأزمة المنطقة وبالثراعات الإقليمية والدولية، ولن يكون حلّها متوفراً بجهد لبناني فقط، وأسباب أخرى تعود إلى الظروف الداخلية.
أمّا الأسباب الخارجية فليس في الأُفق ما يشير إلى نضج مرحلة الحل وذلك لأنّ قضية الشرق الوسط ما تزال، بدورها، من دون حل، ممّا يصعب ولوج الحل الشامل للقضية اللبنانية، دون أن يقضي على الأمل في التخفيف من حدّة الأزمة اللبنانية وانعكاساتها ومجرياتها.
أمّا الأسباب الداخلية فإنّ الشرط الأساسي الذي ينبغي توفره بشأن حلّها فهو وضع حد لمشاريع عزل لبنان عن محيطه، ولمشاريع الهيمنة الطائفية التي تقودها المارونية السياسية في لبنان، وليس في الأُفق ما يشير إلى إمكانية طي صفحة هذه المشاريع، بل إنّ المعطيات الراهنة تشير إلى انحدار الأزمة من الطائفية إلى المذهبية، ممّا يصعب احتمالات الحل في المدى المنظور. ومن هنا فنحن نكرّر دائماً القول بأنّ المعركة طويلة وصعبة وتتطلب تضحيات واستعدادات وعلى أساس ذلك عزمنا على إنشاء جيش التحرير الشعبي – قوات الشهيد معروف سعد لكي يقوم بأعباء الدفاع عن المدينة وجوارها، وعن القضية الوطنية اللبنانية، بالتحالف مع الحزب التقدمي الاشتراكي وحركة أمل والقوى الوطنية والإسلامية.
القبس: لننتقل، إذا وافقتم، إلى الحديث عن جانب آخر، يتعلّق بالجانب الصحي. فقد تردّد أنّ زيارتكم إلى الاتحاد السوفياتي كانت ناجحة، ووعدكم الأطباء بإمكانات كبيرة لاسترداد حاسة النظر، فما هي استنتاجاتكم من الزيارة؟
أول عين اصطناعية في العالم من نصيبي
سعد: الزيارة إلى الاتحاد السوفياتي، من هذه الزاوية كانت مفيدة. فقد خضعت لفحوصات عامة. وقد أكملتها رغم أنّ تقارير العلاج المطلوبة من المستشفيات الأميركية لم تكن بحوزتي. ولا أعرف تماماً مبرر امتناع الجهات المسؤولة هناك من إعطائي ملفاتي الصحية، مع أنهم أجازوا للمستشفيات تسليم الملفات الصحية الخاصة بالجرحى الآخرين الذين كانوا معي. وقد طمأنني العالم السوفياتي فيودريف، وهو عالم في طب العيون، ويعتبر أشهر طبيب في العالم، على هذا الصعيد، إلى أنّه من الممكن أن أسترد حاسة النظر بنسبة 60% وذلك بعد التمكُّن من تنفيذ جهاز للرؤيا تمّت تجربته بنجاح. ويجري الآن إعداده ليكون أقل حجماً وأسهل استخداماً، وقد وعدني بأن يتم ذلك خلال أشهر. كما كنت مرتاحاً جداً للموقف السياسي الذي أبلغني إيّاه الحزب الحاكم في الاتحاد السوفياتي وبموجبه فإنّ هذا البلد الصديق قرّر أن تكون أول عين اصطناعية على الكرة الأرضية من نصيب مصطفى سعد، تكريماً للمقاومة الوطنية اللبنانية للاحتلال الإسرائيل، وتعبيراً عن تعاطفه مع قضية شعبنا.
مقالات ذات صلة
خطوة واحدة ويصبح جعجع
منـذ هزيمـة النازيـة
غورباتشيف: أندروبوف الشاب