3 ديسمبر، 2024

هي ثورة على الحاكم الطائفي لا على النظام

12 شباط 2020

للمرة الثالثة أكتب عن الإنجاز الكبير الذي حققته الثورة في مواجهة الطائفية وأهل السلطة الطائفيين. فالحكايات عنها متل حكايا الحيّات، وهي مادة مغرية وسهلة الاستخدام في مواجهة الثورة. لكن تفسير أي شيء بالطائفية لا يفضي إلى الحقيقة، كما أن تفسيره بالصراع الطبقي لا يقدم تشخيصاً دقيقاً. لقد غدت العبارة رائجة وشائعة الاستخدام، فترمى كتهمة وإهانة وشتيمة في وجوه المتنازعين، وينعت بها النظام وأهل النظام والعقليات والعادات والسلع التجارية والقوى الاقتصادية والزراعية والمناطق والأحياء وحتى البنايات.

لقد كان الصراع وما زال صراعاً سياسياً بامتياز، يستخدم فيه أعداء التغيير من الأدوات ما يلذ لهم ويطيب، ومن بينها سلاح الطائفية المتغلغلة في مشاعر الناس وعاداتهم وتقاليدهم وثقافاتهم. دفاعاً عن مصالح الزعيم ليس أسهل من التحصن خلف تلك المشاعر. غير أن الطائفية قبل لبنان الكبير ليست كما بعده، ولم تكن قبل الدخول السوري كما صارت بعده، ولا هي بعد الثورة مثلما كانت قبلها.

قبل لبنان الكبير كانت الولايات خاضعة لنظام الملل العثماني الذي يجعل هويته التكوينية مرتبطة بهويته الطائفية. في لبنان الكبير تراجعت الهويات الطائفية وتوحدت الولايات تحت سقف الدستور. مع الحرب الأهلية تراجع الدستور أمام الميليشيات، ومع دخول الجيش السوري ساد النظام الأمني المخابراتي الذي يميل إلى نوع من الأحكام العرفية بديلاً عن الدستور. فكيف تكون حال الدستور في زمن الاحتلال أو بعد زواله؟ الطائفية مطية، يستخدمها صاحبها عند الحاجة. ألم تكن حماية الوجود المسيحي هي الذريعة لدخول الجيش السوري، والذريعة للاحتلال الاسرائيلي؟ ولماذا تبدلت الأدوار ودفع المسيحيون ثمن استجارتهم بالقوى الخارجية؟

أما بعد زوال الاحتلال، فقد كان النظام السوري يسارع إلى ممارسة سيادته على أي شبر من الأرض اللبنانية يتم تحريرها من الاحتلال الاسرائيلي. العام 1985، تولت ميليشيات شيعية شن حرب للقضاء على ما يهدد تلك السيادة من نفوذ عرفاتي في المخيمات الفلسطينية. بلدة مغدوشة المسيحية الواقعة جنوب شرق مخيم عين الحلوة في صيدا نهبت بيوتها وهُجِّر أهلها إلى الشتات في الجبل المسيحي. قامت ميليشيات إسلامية بمهمة النهب والتهجير ولم يرمِها أحد بإدانة، إلى أن استحقت، عن غير حق، شكر كاهن البلدة على ما أبدته من “سماحة” ( اشتقاق لغوي من سمح يسمح سماحاً بعودة الأهالي إلى بيوتهم المدمرة).

اختار أحد مهجري مغدوشة منفاه القسري في قرية كسروانية. هو مهجر(غْريب) بتسكين الغين بحسب اللهجة المحلية، لا لأنه قادم من منطقة أخرى فحسب، بل لأنه ليس مارونياً أيضاً، ولأنه تهجّر في زمن لم يكن فيه حق الاختلاف مدرجاً في قائمة حقوق الإنسان. إنه العنف العنصري والمذهبي وعنف الاستبداد على الضفة الأخرى. أقام المهجّر هناك إلى أن عاد، لكنه أقام كغريب. بعد أكثر من ثلاثين عاماً على تلك الحادثة وعلى بعد حوالى نصف قرن على بداية الحرب الأهلية وقرنٍ على قيام لبنان، سمع شاب طرابلسي قادم من منطقة أخرى ومن ديانة أخرى العبارة الكسروانية ذاتها حين قيل له، أنت من طرابلس فما الذي أتى بك إلى كسروان؟

الدوافع الإنسانية تجعل الغريب كائناً مقبولاً ومرحباً به وإن على مضض، وإذا ما تمثل الغريب كائناً سياسياً طردوه. العنصرية تفرّق ما يمكن أن تجمعه المشاعر الإنسانية. هذا ما تفعله في فصلها بين “غرباء” متشابهين في الجوع والقهر والقلق على مصير الوطن، وهذا ما يفعله نظام الاستبداد اللبناني حين يرفع الحواجز الإسمنتية والأسلاك الشائكة لحماية السلطة من غضب الشعب.

في تلك الفترة بالذات، اقتضت ظروف التصعيد السوري ضد الإمبريالية والصهيونية والاستعمار أن يُجمع خطباء المساجد، في أحد أيام الجمعة، على شحن نفوس المصلين ضد الولايات المتحدة والتحريض على رعاياها. في اليوم التالي حمل متشدد إسلامي سلاحه وأطلق النار على الممرض الأميركي في مستوصف المدرسة الإنجيلية وأرداه. هذا ليس قتلاً دينياً بل هو سياسي بامتياز.

قرار السلم والحرب والتهجير والعودة لم يكن بيد المسلمين ولا بيد المسيحيين، ومصائر اللبنانيين والفلسطينيين لم تكن في يد الإكليروس المسيحي أو الإسلامي، والضحايا، على اختلاف انتماءاتهم، دفعوا ثمن حروب سياسية لا ثمن حروب دينية، ذلك أن عصر التبشير كان قد انتهى منذ زمن بعيد.

صراع بين الشعب والمافيات

مئوية كاملة من عمر الوطن كان الصراع فيها بإدارة أطراف سياسية متشابهة في المنهج والسلوك والممارسة. إلى أن جاءت الثورة وصارت طرفاً في الصراع وأثبتت أن الصراع ليس بين الطوائف، بل بين الشعب وسلطة المافيات الميليشياوية.

حاول الشعب أن يثبت ذلك في المرة الأولى، يوم تردد في ساحة الشهداء صدى القسم مع جبران تويني بالقرب من ضريح رفيق الحريري، حيث راح يتلو واحدهم الفاتحة وآخر الأبانا، غير أن الثورة على النظام الأمني يومذاك تحولت بقرار حزبي من ثورة على الاستبداد إلى انتفاضة ضد الغريب، وأدرجت في سياق معارك التحرر الوطني، وهي المعارك التي لا تكون، بالتعريف، إلا ضد الإمبريالية والصهيونية والاستعمار، لا ضد الأشقاء والأقرباء، ولا بد لها، حينئذ من أن تدخل في متاهاتها والتباساتها.

الثورة لم تصنع السحر بل أظهرت الحقيقة التي كان يخفيها أهل النظام ويتحصنون بها ويستخدمونها باسم الطوائف دفاعاً عن مصالحهم الشخصية وتستراً على المفاسد والنهب وانتهاك القانون. ألا يذكر المواطنون قول أحد المسؤولين: لولا الطائفية لكانوا سحبونا من بيوتنا؟ نعم الطائفية متراس حطمته الثورة، فجمعت أطراف الوطن وطوائفه ومناطقه في ساحات الحرية، ورفعت على الأكتاف في ساحة جونية الشاب الطرابلسي الذي سبق لسياسي مطارَد أن تعامل معه كـ”غريب”، واحتفلت بتأبين شهيدها علاء أبو فخر في كل ساحاتها، في طرابلس وصيدا وصور والنبطية وبعلبك وجل الديب وجونية، فضلاً عن ساحة الشهداء في بيروت.

نعم الطائفية خدعة بددتها وحدة الشعب اللبناني تحت راية العلم، وساعدت على تبديدها عظات المطران عبد الساتر وقبله المطران عوده، وقبلهما البطريرك الراعي بدعواته المتكررة إلى قيام دولة علمانية، وقبلهم أيضاً علمانيون من أصحاب العمائم، من بينهم المغفور له السيد هاني فحص الذي شاركت الكنيسة في تأبينه كأنه واحد من كهنتها، والمرحوم محمد مهدي شمس الدين الذي رأى الحل بقيام دولة بلا دين. هذا ما تفعله الثورة اليوم حين تطالب بدولة بلا ميليشيات ولا مافيات ولا عصابات نهب.

نعم. الطائفية سلاح الحاكم. الحاكم المحلي أو الغريب، الشقيق أو العدو، لكنه صار بقوة الثورة سلاحاً عتيقاً، وبعد أن يصدأ في المخازن، ككل أسلحة الميليشيات، سيباع كالخردة في أسواق الدولة المدنية العلمانية، دولة القانون والمؤسسات.

https://www.nidaalwatan.com/article/14600