18 شباط 2020
مع تشكيل الحكومة اللبنانية يكون قد انتهى فصل من الثورة ليبدأ فصل آخر. الكلام عن فصول قد يرمي بعض النفوس في اليأس أو في الإحباط. لكن قياس أعمار الثورات أمر معقد. قد تكون الثورة الفرنسية هي المعيار النموذجي. بدايتها معروفة ومحددة، ولا نهاية لها بل نهايات. ليست ثورة واحدة بل ثورات. ثورتا لينين وماوتسي تونغ توهمتا أنهما ستطويان صفحة الرأسمالية، لكن انهيار التجربة في الأولى أثبت أن البشرية ليست في مرحلة الانتقال إلى الاشتراكية. ومع الثانية تأكد أن الرأسمالية طريق إلزامي نحو الأحلام الجميلة، لا يمكن القفز فوقه ولا حرق مراحله. هذا في الاقتصاد كما في الثقافة ولا سيما في السياسة وأنظمة الحكم.
البند الأول المشترك في برامج كل ثورات الربيع العربي، على خصوصيات كل منها، هو وجود دستور يتم الاحتكام إليه وتطبيقه أو تعديله عند الحاجة، وسَنُّهُ إن لم يكن موجوداً. يعني ذلك، بلغة التطور والتغير، إدخال العالم العربي إلى الحضارة الجديدة من باب النظام الجمهوري الديموقراطي، لأن بلدانه تكاد تكون الوحيدة على الكرة الأرضية التي لا تزال تسود فيها الأنظمة السلطانية والجمهوريات الوراثية القائمة على الاستبداد.
خصوصية لبنان تكمن في كونه الوحيد من بينها الذي تأسس ومعه نظام وبرلمان ودستور، لكن السلطات المتعاقبة، ولا سيما بعد اتفاق الطائف، أفرغت نظامه البرلماني من مضمونه الديموقراطي وأفسدت حياته السياسية ومؤسساته ودمرت السلطة القضائية، ما جعل برنامج الثورة يتركز على استعادة المنهوب، مالاً ودستوراً ومؤسسات وسلطة قضائية.
الربيع العربي، ومنه اللبناني، صوب على العامل الداخلي. الناهب ليس الإمبريالية ولا الاستعمار. إنه استبداد مارسته الأنظمة السياسية بخصوصيات محلية، فقمعت الحريات ودمرت الحياة السياسية وألغت الرأي الآخر ليستتب لها التصرف بالثروة البشرية والمادية بلا حسيب ولا رقيب.
حققت الثورة انتصاراً باهراً في وضعها قطار التغيير، لأول مرة، على سكته الصحيحة، تحت عنوان استعادة الحياة السياسية التي طمستها سلطات الاستبداد، وإعادة تشكيل السلطة، بدءاً بإسقاط الحكومة والمطالبة بإعادة تشكيلها على أسس جديدة. لقد سقطت الحكومة بقوة الضغط الشعبي بعد نزول مئات الآلاف إلى الشوارع والساحات.
مع أن السلطة كانت ميالة إلى استخدام العنف في قمع الثورة إلا أن الإصرار على الطابع السلمي للاحتجاجات الشعبية حال دون إفراط السلطة في استخدام العنف، وساهم في عزل التيارات الفوضوية وصعّب على الطابور الخامس المدسوس الصيد في الماء العكر.
بعد أن كانت السلطة قد صادرت حق التعبير وطبقت نوعاً من الأحكام العرفية ضد كل من ينتقد سلوك المسؤولين، تمكنت الثورة من استعادة هذا الحق فصار النقد مباحاً في وسائل الإعلام وفي الساحات والمنتديات والخيم المستحدثة، واتسعت مساحة الحوار بين مكونات الثورة والمساجلات مع أهل السلطة. بعد أن تخلى المجلس النيابي، كممثل للشعب، عن دوره في التشريع والمراقبة والمحاسبة، إستعادت الثورة هذا الدور وشكلت معارضة شعبية طال امتناع البرلمان عن تشكيلها، وفضحت المسؤولين عن تفشي الفساد وهدر المال العام ونهب الثروة الوطنية وحاصرت المرتكبين في مكاتبهم وبيوتهم، وأصدرت بحقهم لوائح اتهامية، وطرحت على بساط البحث شرعية تمثيل المجلس النيابي وضرورة البحث بأسس سليمة لإعادة تشكيل السلطة السياسية، إنطلاقاً من انتخابات مبكرة وقانون جديد للانتخاب.
ربما تكون الثورة قد تجاوزت حد المحاسبة فتولت بنفسها محاكمة المسؤولين، لكنها فعلت ذلك لدعم القضاء على استعادة استقلاليته كسلطة من بين السلطات الثلاث في النظام الديموقراطي، بعد أن كان أهل النظام قد تعاملوا معه كجزء من إدارات الدولة وألحقوه بدوائر نفوذهم، وتحاصصوه وأخضعوه للمحسوبيات وأدخلوا عليه عادات من خارج قيم القضاء. لم تسلك السلطة الطرق المعتادة في تشكيل الحكومات، فلم تتمكن من فرض أي من ممثليها القدامى، بل هي أذعنت لمطلب الثورة باستبعاد كل رموزها من النواب والوزراء السابقين. لكن الثورة التي تمسكت بآليات دستورية للتغيير، بديلاً عن لغة الانقلابات والثورات المسلحة صعّبت المهمة أمام أحزاب السلطة في اختيار الرئيس المكلف وتسمية الوزراء وصياغة البيان الوزاري، بوضعها شروطاً، هي من صميم التقاليد المتبعة في الأنظمة الديموقراطية لكنها غير مألوفة في تشكيل الحكومات اللبنانية.
ربما كانت الثورة قد استعجلت صياغة شعارها فأخذ البحث في هوية الحكومة الجديدة منحى لغوياً حول معنى التكنوقراط، تسللت السلطة من خلاله لتدخل من نافذته إلى صيغة من المحاصصة أقل فجاجة من ذي قبل، وأقل خطراً لأن أسباب السقوط المدوي للحكومة السابقة في الشارع ماثلة أمام الوزراء الجدد، الذين لم يرثوا من الأولين غير إدارة التفليسة في خزينة منهوبة.
فضلاً عن ذلك، عممت الثورة قيماً وتقاليد جديدة في الحياة السياسية، وصارت قوة مشاركة في إدارة شؤون البلاد، بعد أن ظهرت بمثابة الرقيب والحسيب ملوّحة بسيف النقد المصلت دائماً فوق رقاب المسؤولين. وبعد أن كان يجري النقاش في الكواليس وينتهي بالتسويات والمحاصصات، انتشرت ثقافة الشفافية وحق الجميع في الحصول على المعلومة، ولا سيما في ما يتعلق بالشأنين القضائي والمالي. كل ذلك ضيق مساحة المناورة أمام أصحاب الصفقات السياسية والمالية، وبات تمويه الحقائق وأخفاؤها عن الرأي العام صعباً وزاد حبل الكذب قصراً على قصر.
يمكن القول إذن، أن الثورة حققت البند الأول من برنامجها، أي إسقاط الحكومة وتشكيل أخرى. أما البنود الأخرى فعلى رأس أولوياتها ما يتعلق باستقلال القضاء كمدخل لمحاسبة المسؤولين عن نهب المال واستعادة المال المنهوب، ويأتي في المقام الثاني مطالبة الحكومة بسن قانون انتخابي عصري لتقصير ولاية المجلس النيابي وإجراء انتخابات مبكرة، ومتابعة الضغط لإيجاد حل للأزمة الاقتصادية الاجتماعية التي يرزح تحت عبئها اللبنانيون.
تواجه الثورة اليوم تحديات جديدة أكثر تعقيداً. فبعد أن نجحت في حجب الثقة الشعبية عن الحكومة وصعبت شروط حصولها على الثقة النيابية، فارضة على المجلس النيابي التحصن والإقامة الجبرية داخل الجدران الإسمنتية والأسلاك الشائكة، تجد الثورة نفسها اليوم أمام فصل جديد من النضال، ولا سيما بعد أن تحولت الأزمة من أزمة حكومية إلى أزمة حكم أوصلت البلاد إلى قعر الانهيار.
مقالات ذات صلة
هل يكتب التاريخ الحديث بمصطلحات طائفية؟
جامعة الأمة العربية ومحكمة العدل الشعبية
نقول لحزب الله ما اعتدنا على قوله