29 نوار 2020
كيف يتدبر الحكام أمرهم للإبقاء على سلطتهم من دون أن يزعجهم الشعب بمطالبه؟ بإشاعة إيديولوجيات تقنع الشعب بأن الحكام وحدهم يملكون الحق في أن يحكموا. قدمت الأديان سرديات ومعتقدات خرافية لتبرير سلطة الحكام واستبدادهم. أما مجتمعات السوق فقد احتاجت إلى سردية جديدة، فاعتمدت طرائق الفيزيائيين والمهندسين الرياضية لتجعل منها ديناً جديداً هو علم الاقتصاد مسلحاً بجنود يؤلفون الكتب ويكتبون المقالات الصحافية ويظهرون على شاشات التلفزة ومحطات الإذاعة وعلى الشبكة العنكبوتية، ويسمون أنفسهم خبراء.
في الحقيقة لا يوجد خبراء حقيقيون، لأن الاقتصاد أكثر أهمية من أن يترك للاقتصاديين، ولأن ترك الاقتصاد للخبراء يعادل ما فعله أولئك الذين عاشوا في العصور الوسطى حين تركوا أمر رخائهم في عهدة اللاهوتيين والكرادلة ومفتشي محاكم التفتيش الإسبان. كلما ازداد فهمي لنظريات الاقتصاديين ومعادلاتهم الرياضية، ازداد إدراكي أن من يُدعَوْن خبراء في جامعاتنا العظيمة وعلى شاشات تلفزيوناتنا وفي المصارف ووزارات المالية ليس لديهم أدنى فكرة عن الموضوع. أما البقية، المعلّقون الاقتصاديون من الدرجة الثانية، فلم يقتصر الأمر على أنهم لم يفهموا نماذج الاقتصاديين العظماء، بل يبدو أنهم لم يبالوا على نحو ملحوظ بأنهم لم يفهموها.
كلما استمعت أكثر لهؤلاء الخبراء الاقتصاديين وهم يتحدثون عن الاقتصاد، أراهم يزدادون شبهاً بحكماء وعرافي حقبة ما قبل الحداثة الذين كانوا ينجحون في تثبيت سلطتهم الثقافية وسلطة الحاكم السياسية مع أن نبوءاتهم لم تكن صحيحة بالمرة. اليوم لا يختلف الخبراء الاقتصاديون كثيراً عن العرافين. فعندما يخفقون في التنبؤ بظاهرة اقتصادية تنبؤاً صحيحاً، يستحدثون تصورات جديدة لتفسير فشل تصوراتهم السابقة. يستفيد الاقتصاديون من النماذج الرياضية ومن جيش من الأدوات والبيانات الإحصائية. لكن ذلك لا يجعل منهم علماء في الواقع، على الأقل ليس بالطريقة عينها التي يكون بها الفيزيائيون علماء.
ذلك أنه لن يكون صعباً فحسب، بل مستحيلاً، إيجاد مختبر يمكن فيه التحكم بالظروف الاقتصادية وتكرارها بما يكفي لأن تكون أي تجربة علمية صالحة، أي لاختبار الكيفية التي كان سيتطور بها تاريخ العالم مثلاً لو أن الدولة طبعت نقوداً العام 1929 لإعطائها للفقراء بدل اعتماد خيار التقشف، أو كيف ستكون الحال في اليونان لو أن الدولة رفضت في إفلاس 2010 الحصول على أكبر قرض في التاريخ بظروف تقشف هي الأكثر وحشية على مر الأيام. عندما يصر الاقتصاديون على أنهم علماء أيضاً لأنهم يستخدمون الرياضيات فهم لا يختلفون عن المنجمين الذين يحتجون بأنهم علميون مثل علماء الفلك لأنهم يستخدمون أيضاً الحواسيب ورسوماً بيانية معقدة. قد يستمرون بالتظاهر بأنهم علماء كما يتظاهر المنجمون، أو بأنهم أكثر شبهاً بالفلاسفة الذين لن يعرفوا معنى الحياة الحقيقي بالتأكيد، بصرف النظر عن مدى الحكمة والعقلانية التي يحاججون بها.
ألم تر أنهم في كل واد يهيمون؟
رأينا أن هذا النص ينطبق على حالتنا، فالخبير الاقتصادي لا يكون خبيراً في الاقتصاد إلا إذا كان خبيراً في السياسة. مفتاحه وخاتمته مقتبسان بتصرف من آيات القرآن الكريم، أما متنه فمن كتاب شيق لوزير المالية اليوناني، يانيس فاروفاكيس، الذي أشرف على إنقاذ الدولة اليونانية من الإفلاس، عنوانه، “الاقتصاد كما أشرحه لإبنتي”.
مقالات ذات صلة
طوفان عيوب في حرب الإسناد
حزب الله كمقاومة وحزب الله كحركة تحرر وطني
هل الصمت الدولي مشروع ومبرر؟