28 آذار 2020
بعد خروج القوات السورية من لبنان كتبت مقالة طالبت فيها القوى السياسية اللبنانية بالعودة من ولاءاتها بالعمالة إلى انتمائها الوطني. قلت فيها إننا كلنا، يمينيين ويساريين، ارتكبنا فعل الخيانة بحق الوطن. نحن أهل اليسار كنا عملاء للفلسطينيين، وسوانا كانوا عملاء لسوريا، وآخرون عملاء لإسرائيل، إلى أن أضاف “حزب الله” دولة الولي الفقيه إلى اللائحة في وقت لاحق. عملاء لأن مصالح الدول والقوى الخارجية بالنسبة إلى الوطن، كانت في نظرنا، “هي أولاً وهو المحل الثاني”.
واحد من كتبة السلطان رأى أنني ساويت بين سوريا وإسرائيل. قلت له في الرد على الرد، على الصفحة ذاتها بناء على قوانين النشر، “ما كنت أحسبني أحيا إلى زمن” نكون فيه معاً زميلين في كلية واحدة من كليات الجامعة اللبنانية. لكنني لم أستغرب حماسته واستنفاره، فقد كان واحداً من المتسكعين على باب الزعيم. أدركت في تلك اللحظة أن الجامعة ماضية إلى الانهيار، وأن إنقاذها مستحيل في ظل سيطرة الميليشيات على السلطة السياسية.
ليس من قبيل الاعتراض على رأي أو موقف، بل هو امتعاض وقرف مما آلت إليه معايير الثقافة. قلت له ليس من قبيل العتب، بل لأن جهلك معاني المصطلحات وقواعد البلاغة والبيان والبديع جعلك تمضي إلى تأويل الكلام بما يزيّن صورتك أمام الوالي، الذي تلقنت منه أن كلمة عميل لا تستخدم إلا مع مضاف إليه متعدد الأوصاف والنعوت، كالإمبريالية والاستعمار والصهيونية.
لم يكن يعرف قواعد البلاغة ليدرك أن المماثلة في العمالة لا تعني تشبيه سوريا أو الثورة الفلسطينية بإسرائيل. شرحت له أن التشبيه في مثل هذه العبارة يعني أن عمل اللبناني لصالح قوة غير لبنانية يشبه عمل أي لبناني آخر لصالح قوة غير لبنانية. وهكذا فإن طرفي التشبيه هما اللبناني واللبناني الآخر اللذان يعمل كل منهما لصالح قوة خارجية، أي غير لبنانية، صديقة كانت أم عدوة، ضد وطنه وضد أبناء وطنه.
الإيديولوجيات أرسخ في الذهن من العلوم الإنسانية بل ومن العلوم البحتة. وللعمل الحزبي في دولة الميليشيات أولوية على العمل الأكاديمي، وحين تستعصي على أستاذ جامعي معرفة الفارق بين التشبيه التمثيلي والتشبيه العادي، فهل نلوم سواه من أهل الطاعة العمياء؟
إلتباس المعنى ليس مسألة أكاديمية أو لغوية أو بلاغية، بل هو تعبير عن أزمة انتماء وطني وخطر على الدولة والقانون وعلى السيادة الوطنية. لبنان صار وطناً نهائياً إلا في خطاب من ينشد بناء الأمة، عربية أو إسلامية أو أممية، أو في خطاب الوطن القومي المسيحي. ولكل منهم أصيل في السلطة ووكيل في الشارع وبوق في وسائل التواصل.
كان ذلك قبل الثورة. بعدها جاء شباب لبنان وشاباته من أربع جهات الوطن وجسدوا المعنى الحقيقي للانتماء الوطني، ولم تعد العمالة وجهة نظر. وغداً حين ينتصر العلم على الوباء، ستستأنف الثورة مسارها وترسي مفاهيمها عن الدولة والوطن، وعن السيادة والعمالة، ولن ينجو من المحاكمة الشعبية لا الحكام الفاسدون ولا أزلامهم الجهلة.
مقالات ذات صلة
نعم انتصرنا
هل يكتب التاريخ الحديث بمصطلحات طائفية؟
جامعة الأمة العربية ومحكمة العدل الشعبية