3 نيسان 2020
حزب الله مسؤول عن أخطاء فادحة ارتكبها ويرتكبها بحق شيعته وبحق اللبنانيين وبحق الدولة، وهو أحد العوامل في تفاقم أزماتنا وأزمات المنطقة. لكنه ليس هو سبب هذه الأزمات بل واحد من أعراضها. هذا رأي مازلنا نكرره منذ تسعينات القرن الماضي، ونعيد التأكيد عليه اليوم، متشجعين بما أنجزته الثورة ورسخته في ثقافتنا من أجل التغيير.
رأى بعض اللبنانيين أن مصدر أزماتنا يتمثل بالخطر الصهيوني والاحتلال الإسرائيلي، فيما حمّل بعضنا الآخر الفلسطينيين وسلاحهم الوزر، وبعض ثالث رماه على “الاحتلال” السوري. اندحرت إسرائيل، وزال السلاح الفلسطيني وخرج الجيش السوري، والأزمة اللبنانية إلى تفاقم. واليوم يرمي البعض السبب على إيران و”حزب الله”. والصحيح أن الأزمة تتفاقم بعوامل داخلية. القوى الخارجية تسعى وراء مصالحها، وهذا طبيعي. أما نحن اللبنانيين فقد تنافسنا على خدمة مصالح الخارج. هذا ما يفعله “حزب الله”، لكن هذا ما سبقه آخرون إلى فعله في سياق حرب أهلية دائمة، من غير سلاح أحياناً.
كيف لنا أن نقتنع بأن “حزب الله” ليس إيرانياً بل هو حزب لبناني، وكيف له هو الآخر أن يقتنع بأنه حزب لبناني؟ تبدو هذه الأسئلة ساذجة، لكنها هي الأسئلة الحقيقية، وقد يكون الجواب عليها أصعب بكثير من البحث عن وسيلة لنزع سلاح “حزب الله” أو لشتم إيران والهلال الشيعي، خصوصاً أن المشروع الإيراني مشروع قروسطي عفا عليه الزمن، وهو تعبير عن أزمة الدخول في الحضارة الرأسمالية. وهو إلى أفول لأنه يعمل ضد منطق التاريخ.
لنفترض أنه السبب، فهل يطالب بالحل من يكون سبباً؟ فاقد الشيء لا يعطيه. هل يعني ذلك السكوت عن أخطائه؟ طبعاً لا. لكن الكشف عن الأخطاء لا يكفي وحده لتشخيص العلة. أما نزع سلاحه فالسبيل إليه معروف. إما بحرب أهلية تنهك حاملي السلاح، إما بتولي طرف خارجي أقوى منه، إسرائيل مثلاً – وهات أن يقتنع أنها أقوى منه – أو إيران مثلاً (ومعها سوريا) أو الحلف الأطلسي. والنتيجة في كل الحالات تدمير لبنان. هذا ما شهدناه في تجارب الحروب الأهلية ولا سيما الحربين الشيعية الشيعية والمارونية المارونية قبيل الطائف، أو في حرب تموز2006.
هل هو نمط تفكير موروث وتقليد ثقافي أن نرمي وزر أزماتنا على الخارج؟ الحركة القومية حمّلت إسرائيل مسؤولية التخلف والشرذمة في مجتمعاتنا العربية، إلى أن جاء الربيع العربي فأبطل حجة من مارسوا، تستراً بصراعهم مع الصهيونية، استبداداً غير مسبوق على شعوبهم، وأثبت أن التخويف بالصهيونية، وهي خطر، لم يكن يستهدف القضاء على إسرائيل بل القضاء على الرأي المختلف، وأن الأعطال الداخلية في أنظمة الفساد والاستبداد هي السبب، وأن الحل يكمن في معالجة تلك الأخطار.
إيران رمت الشيطان الأكبر بالويل والثبور وعظائم الأمور، وكذلك فعل اليسار القومي والأممي، لكن الخصومة سرعان ما كانت تستحيل صداقة وتعاوناً. هذا ما حصل عند انخراط هذا اليسار في معركة “الإمبريالية” ضد عراق صدام حسين، وهو ما فعله اليسار الأوروبي حين شارك الولايات المتحدة هجومها على يوغسلافيا، وهو ما فعلته إيران بتعاونها مع الأميركيين في أفغانستان وربما في العراق، وربما في تبادل أسرى وخدمات.
النظر إلى “حزب الله” على أنه حزب إيراني هو نسخة منقحة من كلام لبناني قديم عن اليسار الدولي، أو عن تصدير السنة إلى السعودية والشيعة إلى العراق أو عن التوطين أو عن ترحيل المسيحيين إلى أوروبا وكندا.
بات على كل شفة ولسان القول بأن “حزب الله” مدين لإيران تنظيماً وتسليحاً وتمويلاً وتمويناً. لكن علاقة “حزب الله” اللبناني بإيران تشبه تلك التي كانت للشيوعيين مع الاتحاد السوفياتي أو للقوميين مع مصر الناصرية أو للبعثيين مع سوريا والعراق. زال الاتحاد السوفياتي وكل آثار الناصرية وانهار نظاما البعث وما زال محازبوهم في لبنان ناشطين في كل التحركات الشعبية، حتى أن سواعدهم هي التي تولت وحدها حماية العلم الوطني في الجنوب اللبناني خلال الثورة. هذا ما علينا فعله للمساعدة لكي تنزاح كل الأعلام غير الوطنية عن كل ساحات لبنان.
لبنان صار وطناً وعمره قرن من الزمان. ولا حلول لأزماته بإلغاء التنوع. “حزب الله” جزء من هذا الموزييك اللبناني. هو آخر من أصابته آفة السلاح وتدمير الدولة. سبقته إلى ذلك قوى لبنانية أخرى استقوت بالخارج، على غرار استقوائه بإيران، تأميناً لمصادر التمويل والتسليح وعدة الحرب. إقرار “حزب الله” بهذه الحقيقة، يستوجب إقرار سائر القوى الأخرى بها. فسياسة الإلغاء التي بدأت، عام 1975، بعزل الكتائب أو بنفي المسلمين لم تنته بحرب الإلغاء العونية ولا بمعزوفة نفي المسيحيين.
لا يتذرعنّ أحد بأحد، فإدانة موقف “حزب الله” من السلاح ينبغي ان تترافق مع نقد قاس وصادق، ليس لكل حامل سلاح في وجه الدولة فحسب، بل ولكل عقلية ميليشيوية، في السلطة أو في المعارضة، تعتدي، من غير سلاح، على سيادة الدولة. المحاصصة عدوان على الدولة، الحقن الطائفي عدوان على الدولة، إلغاء استقلالية القضاء عدوان على الدولة، السطو على المؤسسات الإدارية وسرقة المال العام عدوان على الدولة، انتهاك القانون والدستور عدوان على الدولة، تقاسم “المنتشرين” في بلاد الاغتراب بين شيعية سياسية في إفريقيا ومارونية سياسية في بلاد الشتات الأخرى عدوان على الدولة.
بعد دحر الاحتلال بفضل بطولات المقاومة وتضامن اللبنانيين شعباً وحكومة، تمسك “حزب الله” بسلاحه وجعله معياراً للاعتراف بدوره السياسي، فما كان من خصومه إلا ملاقاته في منتصف الطريق بموافقتهم الضمنية على جعل التخلي عن السلاح معياراً لتعزيز سلطة الدولة. تحت جنح المعركة على السلاح بين مؤيد ومعارض، تسللوا وأمعنوا تدميراً بالقضاء وسائر مؤسسات الدولة وبانتهاك الدستور وعمّموا النهج الميليشيوي وشرعنوه من غير ما حاجة إلى سلاح.
قلنا في الأزمة المالية التي يعيشها لبنان، لو ملأنا خزينة الدولة بالمال، هل نحل المشكلة؟ وجوابنا بالنفي، لأن اللصوص جاهزون لإفراغها من جديد. وبالقياس ذاته، لو نزعنا سلاح “حزب الله” الآن، هل نحل المشكلة؟ والجواب أيضاً بالنفي. المشكلة قائمة في نظام استبدادي تتوزع الأدوار فيه قوى سياسية تنتهك الدستور وتؤسس لانتهاك سيادة القانون بسلاح وبغير سلاح. الحل يكمن في بنود البرنامج الذي طرحته ثورة السابع عشر من تشرين الأول. عندها تنتفي الحاجة إلى الكلام عن نزع السلاح.
مقالات ذات صلة
جامعة الأمة العربية ومحكمة العدل الشعبية
نقول لحزب الله ما اعتدنا على قوله
الإذعان بعد فوات الأوان