15 آب 2020
البرنامج السياسي كان عاملاً موحداً لقوى الثورة إلى أن سقطت حكومة الرئيس سعد الحريري. عندها انكفأت مكونات الثورة كل حول شعاره المفضل. شكّل البرنامج في المرحلة الأولى تعويضاً عن غياب القيادة، إذ تولى هو دور تجميع القوى وقيادتها. مع سقوط الحكومة الثانية، حكومة الدمى، بات التشتت يشكل خطراً على مسيرة الثورة، وبات من السذاجة العمل على إعادة تجميع ما فرقته نضالات الأشهر السابقة. لا النخوة ولا الصدق في مواجهة سلطة الفساد يكفيان لتوحيد المسار. النقاط الخلافية بين مكونات الثورة ليست شأناً مستغرباً. بل سيكون من المستغرب إن سقطت الثورة أمام التحدي الذي سقط النظام أمامه في مئويته. التحدي يتمثل بتنظيم الاختلاف لا بتفجيره، وهو ما لم ينجح النظام اللبناني بتحقيقه على امتداد قرن من عمر الوطن.
النقطة الخلافية الأولى تتمثل في الموقف من “حزب الله” ومن سلاحه. لا يختلف اثنان حول الموقف النظري والمبدئي من أي سلاح خارج الشرعية، وهو اليوم سلاح بيد “حزب الله”، بعد أن كان في ما مضى بيد سواه. لكن آليات العمل السياسي تختلف عن آليات التفكير النظري. السبيل إلى نزع أي سلاح ميليشيوي معروف، فإما حرب أهلية بين الميليشيات على غرار ما حصل في حرب عون والقوات أو حرب أمل و”حزب الله” أواخر الثمانينات، وإما تدخل خارجي على غرار ما حصل في الاجتياح الاسرائيلي، وكلاهما لا تقتصر مفاعيله على مواجهة السلاح الميليشيوي بل تتعداها إلى تدمير البلد، ولا أظن أن عاقلاً في الثورة أو خارجها يقول ما قاله الشاعر ساخراً: آه لو تسقط الشرفات على رأسي لتقتل فيه الأفكار الخاطئة.
من بديهيات العمل القيادي أن يكون لكل قرار موجباته وآلياته التنفيذية. ومن البديهيات أيضاً أن القرار الذي لا يكون صاحبه قادراً على تنفيذه هو قرار خاطئ، لأنه يستبطن الاستعانة بقوة أخرى لتنفيذه. ولا أظن المطالبين اليوم بنزع السلاح غير الشرعي يملكون القدرة على تنفيذ ذلك بقواهم الذاتية، ولا أظنهم أيضاً يرضون باستدراج الخارج من أجل تنفيذ رغباتهم. لأنهم، إن فعلوا ذلك، فهم يكررون خطيئة أهل النظام، سلطة ومعارضة، لحظة انفجار الحرب الأهلية.
لقد اكتوى لبنان كفاية بنار الاستدراج بما جعلنا نتعلم من هذه الخطيئة كيف نضع الوحدة الوطنية في موضع الأولوية على أي مشروع فئوي. من بديهيات هذا الدرس، إذاً، ألا ينزلق الحريصون على الوحدة الوطنية وعلى مسيرة الثورة إلى رفع شعار”عزل الشيعية السياسية”، فقد علمتنا الحرب أن شعار عزل “الكتائب” في بداية الحرب الأهلية عمّق هوة انقسام كانت قائمة لأسباب أخرى بين اللبنانيين بدل أن يعالجها.
الشيعية السياسية تكرر اليوم خطيئة الاستقواء بالخارج مع كل مخاطرها تهديداً للوحدة الوطنية وانتهاكاً لسيادة الدولة. إذاً على الثورة أن تكون هي أم الصبي وأن تواجه المعضلة بصون الوحدة الوطنية والدفاع عن سيادة الدولة، بحيث يبدو الصراع صراعاً بين حريصين على الدولة ومؤسساتها وبين مفرطين بالدستور والسيادة، لأن الصراع على السلاح يستفز الوعي الميليشيوي فيما الثورة تحتاج إلى تفكيك هذا الوعي واستبداله بوعي وطني وبحرص على المصلحة الوطنية، لا على المصالح الفئوية والحزبية والمناطقية والطائفية والمذهبية التي تستقوي بالسلاح ويستقوي بها. هذا يطلب من الثورة لا من أطراف قد ترى من المجدي طرح شعار مواجهة مع “حزب الله”، فيكون لها منفردة، دون الثورة، الحق في غنم المواجهة وعليها وحدها غرمها.
السلاح غير الشرعي كان في الماضي بيد المارونية السياسية والحركة الوطنية اللبنانية المتحالفة مع الإسلام السني. هو اليوم سلاح بيد الشيعية السياسية التي تزرع في وعي جمهورها الشيعي الفكرة الشائعة القائلة بأن التعرض له هو تعرض للطائفة وحقوقها المزعومة ولقوى الممانعة عموماً، مستندة في ذلك إلى دوره المهم في عملية تحرير الوطن من الاحتلال الاسرائيلي.
الثورة مطالبة بتفكيك هذا الوعي بدل استفزازه، وذلك بالتركيز على أن الحل بالدولة وأن السلاح هو قوة للبنانيين إذا كان بيد الدولة وتحت إشرافها، وهو إضعاف للدولة إذا ظل سلاحاً فئوياً. وتندرج في هذا السياق المطالبة لا بوضع سلاح المقاومة وحده تحت سلطة الدولة وإشرافها بل بضرورة وضع شرطة المجلس النيابي أيضاً تحت سلطة الدولة لمنعها من ممارسة دورها الميليشيوي، بديلاً عن معارك الكر والفر الباهظة الكلفة في محيط البرلمان، وإخضاع المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، وكذلك سائر المؤسسات الدينية المماثلة، لقوانين الدولة المالية والضريبية والقضائية، بما في ذلك قوانين الأحوال الشخصية.
مقالات ذات صلة
نعم انتصرنا
هل يكتب التاريخ الحديث بمصطلحات طائفية؟
جامعة الأمة العربية ومحكمة العدل الشعبية