13 أكتوبر، 2024

تقاليد شيعية حميدة

26 أيلول 2020

https://www.nidaalwatan.com/article/30495

عام 1970 أطلقت وزارة التربية مشروع تجميع المدارس الابتدائية والمتوسطة، لم تكن المتوسطة من حصة قريتنا المختلطة من شيعة وموارنة وكاثوليك، بل من حصة قرية مجاورة صافية على المذهب الشيعي. دفعتنا ضرورات التعصب القروي إلى المطالبة بتعديل خطة الحكومة. كنت الأصغر سناً بين أعضاء وفد قريتي قاصدين غبطة البطريرك خريش لنشكو له هذه “الظلامة”. ماذا سيكون رأي أهل القرية المجاورة غير المختلطة لو كانت المتوسطة في بلدتكم؟ حين طرح غبطته السؤال علينا انتابنا شعور بالخجل. خرجنا بخيبتنا لكننا حفظنا منه النصيحة بالحفاظ على التنوع والتعدد لأن ذلك جزء ثمين من ثروتنا الوطنية.

غبطته يعرف عن كثب مرارة التعصب الأعمى، فهو ابن قرية عين إبل الجنوبية التي دفعت ثمناً غالياً من دماء أبنائها لأن معنى الوطن والوطنية لم يكن قد دخل بعد إلى قاموس الطفار من خريجي دولة الملل العثمانية. في مئوية لبنان الكبير تتكرر جريمة الطفار بحق الوطن لكن هذه المرة على صورة مسخرة. فلا مؤتمر وادي الحجير ولا تلك القيادات التاريخية، بل مفردات من لغة بالية عن حقوق الطوائف وأقلام سوقية ترشق المقامات بوسخ الكلام.

قبل ذلك بسنوات كان قد جسد تلك النصيحة رمزان كبيران من بلادنا هما السيد موسى الصدر والمطران غريغوار حداد، حين زارا قريتنا وعقدا لقاء مع الأهالي في النادي الحسيني الذي لم يكن في ذلك الحين مكاناً لممارسة الطقوس الحسينية فحسب بل قاعة للنشاطات الثقافية والاجتماعية أيضاً. فيه استقبلنا رجال دين ورجال سياسة وإعلاميين في ندوات حول الديموقراطية، قبل أن تندلع الحرب وتلغي تقاليد جميلة ترعرت طفولتنا في ظلها وتربينا عليها. ومن أسف، لا ورثة موسى الصدر حافظوا على وصيته بالانتماء إلى الوطن قبل الطائفة ولا الكنيسة عملت على احتضان أفكار المطران.

لم تكن تخلو المشاعر من العصبية والتعصب. لكن اختلاط المتنوعين في الدين كان كافياً لترسو تلك المشاعر في قعر النفوس. هذا ما تعلمته مع حليب الرضاعة. والدتي كانت تقيم في منزلنا مجالس العزاء للنساء نهاراً وتسهر في المساء مع صديقاتها المسيحيات. حملتني إحداهن ذات يوم أحد إلى الكنيسة ليمنحني الكاهن بركة صلاة الزياح فأبرأ من التهاب اللوزتين الدائم. وجاءت أخرى لتطلب من والدتي تلاوة آيات من القرآن لتنقذ بالرقية إحدى غنماتها التي قصّرت عن القطيع. هل كانت الآيات كافية “لعقد لسان الوأش” (الوحش) وكيف لفلاحة مسيحية أن تؤمن بفعل آيات قرآنية؟ قالت لي والدتي إن الغنمة لن تنجو يا بنيّ، إن هي نجت، فبفعل الآيات، بل بفعل الإيمان الصادق في قلب صاحبتها.

في آخر يوم دراسي قبل عيد الفصح، كان يخرج وفد من طلاب المدرسة الابتدائية، مسلمين ومسيحيين، يجول في القرية مردداً أمام بيوت الفلاحين نشيد العازر:

يا له يوماً سعيداً للبنين الصالحينا

سنّوا للعازار عيداً يظهر الحق المبينا

بيت عنيا قد أتاك من بأنعام كساك

فافرحي في ما حباك ذلك الفادي الأمينا

أخته مرتا ومريم وافتا والقلب مكلم

ولذاك الجفن مؤلم ذارفاً دمعاً سخيا

ودعا العازر هيا قم من الأموات حيا

شاكراً رباً سخيا واغتنم وقتاً ثمينا

واجهدوا باري الأنام قد تدوموا بالسلام

ثم ضجوا باحتشام يا رحيم الراحمينا

هالسنة بتنعاد عليكم بالمسرة مع بنيكم

والغياب ترجع إليكم بالسلامة أجمعينا

كنا نتلو النشيد أمام باب المنزل فيكرمنا أصحابه، مسلمين ومسيحيين أيضاً، ببيض بلدي مما تجود به دجاجات الفلاحين. نختم الجولة مع سلة بيض نهديها إلى أستاذ المدرسة. أذكر أنها كانت ذات مرة للأستاذ الياس عواد المسيحي من قرية روم، ومرة أخرى للأستاذ سامي عيسى المسلم من بلدة جون الشوفية. كم هو الوطن بحاجة لمساواة في المواطنية تشبه تلك السلة التي لا نعرف أي بيضة من أية دجاجة من أي بيت مسلم أو مسيحي. سبحان من وهب قادة اليوم عبقرية الفرز الطائفي بين بناية وأخرى ومنطقة وأخرى ومصرف وآخر وحريق وآخر، وبين وزارة وأخرى.

في 9 نيسان 1959 نشر سليم باسيلا من جرجوع، في جريدة المصور، صورة للمئذنة والكنيسة المتجاورتين مع بيتين من الشعر. شحذت تلك الصورة المذيلة، قريحة آخرين فنسجوا على منوالها بمحاكاة جميلة جمعت في لوحة ما زلت أحتفظ بنسخة منها وهي عبارة عن قصيدة شارك في تأليفها شعراء من لبنان إضافة إلى شاعرين من جرجوع هما علي سعيد مقلد وسليم باسيلا مطلق المبادرة وصاحب الصورة وناشرها.

ضيعتي بالعز بشرب كاسها تناوط عليها البدر حتى باسها

حد الكنيسة شيدت جامع صلا تتظل عالأجيال ترفع راسها (سليم باسيلا)

ضيعتك شاعر ذكي حساسها طيبة من قلبها وأغراسها

ما تعانقوا الأديان فيها من زمان لوما يكون الطهر دك اساسها (علي الحاج البعلبكي)

ضيعتك لما يدقوا جراسها بتطرب إلى حدادها ونحاسها

معرج نبينا والقيامة بالقدس وجرجوع متل القدس في نبراسها (أبو معروف الحاروفي)

جرجوع نورك شع ضوى العالمين وأهلك كبار وفي إلك عالكون دين

كنيسة وجامع عمروا عافرد حيط وشرق وغرب إسمك بيملي كل عين (الياس الهاشم)

يا إبن جرجوع برموشي بتنحرس وبالجامعة هالدرس لازم يندرس

لو ما كنيسة وجامع توحد سوى لا كبر مؤذن ولا دق الجرس (أحمد السيد)

جرجوع برسالة جهادا مؤمني بصد الأعادي لا ملل ومهادني

عزفت نشيد النصر عا مر الزمان تجويد لحنو بالجرس والميذني (الياس أبي رعد)

بنينا الكنيسة بالمحبة والوقار وحدها جامع بتقوى وافتخار

مش بس حتى نكون أخوة بعضنا بدها تخاوي بعضها بعض الحجار (يوسف شلهوب)

جرجوع فيها هيك الله بينعبد كنيسة وجامع للعبادة للأبد

الخوري الجمعة بيعتلي عالميذنة والشيخ بيدق الجرس يوم الأحد (علي سعيد مقلد)

جرجوع جامعها بكل حواسها سمعوا الكلام الجوهري بقداسها

زرتها ولملمت من نهرا حصى استغنيت عن تبر الدني وألماسها (ديب ديب)

جرجوع أهلا ومرحبا عليك السلام من كنيستك من جامعك طل السلام

بكبّر على قبة جرسها للهدى بصلّي بجامعها الأبانا والسلام ( سليم باسيلا)

قد يقول قائل إن لبنان الرحباني هذا جسد علاقة تكاذب بين مكوناته الدينية ولم يصمد أمام رياح فتن تخبو ثم لا تلبث أن تهب. وقد يقول آخر، إن هذا الغزل لا يلغي وجود مشاعر طائفية دفينة، كانت تظهر إلى العلن عند المنعطفات.

لا هذا اخترع البارود في قوله ولا ذاك. التعصب من طبيعة كل معتقد وكل دين. كل مؤمن يتعصب لما يؤمن به وإلا يكون ناقص الإيمان. ومن يضرم النار في العصبيات الدينية والطائفية والمناطقية هو شخص لم يكتمل إيمانه بالوطن. هو ذو إيمان ناقص بوطنه، ومشاعره ما دون الوطنية تغلب على ارتباطه بأرض وشعب وسيادة ومؤسسات ودستور. هو شخص لا ينتمي إلى ثقافة العصر والكيانات السياسية التي تشكلت بعد الثورة الفرنسية على أساس الديموقراطية وحقوق الإنسان، بل هو امتداد لعقل السلطنة ودويلات الملل العثمانية. جواباً على هذا القائل وذاك وعلى من لديهم فائض تعصب ديني وسياسي ونقص إيمان بالوطن، رفعت الصلوات من كنيسة وجامع في ساحة رياض الصلح وفي وقت واحد دعماً لثورة السابع عشر من تشرين التي نبذت مشعلي الفتن الطائفية ووحدت أربع أرجاء الوطن.

كان الأوائل يخفون حتى مشاعرهم الطبيعية، أي تعصبهم للدين والمعتقد، حين يتعلق الأمر بقضية وطنية. ربما كانوا يتسترون عليها بالتكاذب والقول بالشراكة والعيش المشترك، أما المحدثون فالمشاعر الطائفية لديهم مادة للتباهي والطقوس الدينية عندهم ليست من العادات والتقاليد بل هي وسيلة لشحن الغرائز وإضرام الفتن.

الأوائل من رجال الدين ومن السياسيين كانوا يبادرون إلى إطفاء نار الطائفية إذا ما اشتعلت على يد جاهل أرعن. أما المحدثون من المسؤولين في الدين وفي السياسة فهم يتولون بأنفسهم إشعالها بلا خجل ولا وجل. في ما مضى كان حق التعبير محصوراً بأهل القلم والعلم والثقافة. بعد انتشار وسائل التواصل غدا التعبير مباحاً لمن ملكت أيديهم ثمن شراء هاتف خلوي وسادت لغة سوقية زقاقية لم ينج منها حتى بعض رجال الدين ومعظم السياسيين والعديد من الإعلاميين.

من المؤكد أن العودة مستحيلة إلى تلك التقاليد الحميدة. لكن إعادة بناء الوطن تحتاج إلى استقامة الأوائل ونظافة أكفهم، وإلى شجاعة الجيل الجديد وعقله وعلمه وتمرده على رجال السياسة وعلى توظيف المقدس الديني في السياسة. فهل يكون سقوط السلوك السياسي والديني إلى الدرك الأسفل وسقوط اللغة إلى قعر الإسفاف شرطاً لموت القديم وانبعاث الجديد من بين الأنقاض؟