22 نوفمبر، 2024

ما حاجة السياسي إلى البلاغة؟

3 تشرين الأول 2020

https://www.nidaalwatan.com/article/30992

اعتاد عبد الناصر على ارتجال خطاباته لساعات طويلة. ويروى عن كاسترو أنه كان يستمر يخطب حوالى عشر ساعات، وعن حافظ الأسد أنه كان يجعل من مداخلاته أمام زواره الرسميين محاضرات يطلب بعضهم خلالها وقتاً مستقطعاً متذرعين بالعمر وبالحاجة إلى دخول المرحاض. هذا في خطابات حركات التحرر. أما الخطابات “الإمبريالية” فهي تلميح لا يتجاوز ما قل ودل. لا يعود ذلك إلى قدرة هذا على الإيجاز ولا ذاك على الإطناب، بل يعود بلا شك إلى أمر آخر.

هل كان الكاتب الفرنسي فرانسوا فينيلون على حق حين قال ما معناه، كلما كانت الفكرة واضحة في الذهن كان التعبير عنها واضحاً في اللغة؟ لا أظن ان الأمر يعود لدى قادة حركات التحرر إلى نقص في وضوح الفكرة، لأنهم كانوا على يقين لا يشوبه شك بأن العدو الذي يواجهونه هو الآخر، أيّ آخر، بدءاً من الاستعمار والإمبريالية والرأسمال المتوحش. فكيف إذا كان هذا الآخر يهودياً إسرائيلياً موجوداً بعدوانيته ومجازره، في الليل وفي النهار وفي خطب الشعراء، يراه عبد الناصر من جهة الشرق وحزب البعث من جهتي الجنوب والغرب ويراه آخرون في الكوابيس؟ لم يخطر في بالهم أن الخطر قد يكون في الداخل مثل سوس الخشب أو دود الخل.

كان يمكن للبناني أن يستنتج ذلك بعد خروج المقاومة الفلسطينية وبعد نجاحه في إخراج جيش الاحتلال الاسرائيلي والقوات السورية. بعض اللبنانيين أعربوا عن لامبالاتهم حيال خروج الفلسطينيين وعن غبطتهم لاندحار القوات الإسرائيلية، لكنهم انزعجوا من خروج الجيش السوري، لأن الآخر في نظرهم هذه المرة هو سوس الخشب الداخلي من أبناء بلدهم.

هذا هو الفارق الكبير في المواجهات الكلامية بين الثنائي الشيعي وخصومه. الثنائي ما زال يربط مصيره بالنظام السوري وبحلفائه من خلفه في الشرق، مركزاً تصويبه على نادي رؤساء الحكومات وعلى سمير جعجع قائد القوات اللبنانية. أما مبررات الثنائي الداخلية في الراهن فهي تسقط إلى مستوى مناقرات صبية الحي، كقوله إن الرئيس المكلف يعمل على تشكيل الحكومة من دون التشاور مع الخليلين، وكأنه هو الذي يخالف الدستور في ذلك وليس الثنائي، أو كإطلاقه كلاماً عن الدستور والميثاقية والشرعية منافياً لكل الأعراف الدستورية وتأويلاتها وتفسيراتها واجتهاداتها. هنا ندخل في لعبة اللغة والبلاغة.

لا يشك أحد بمحاولات الرئيس بري الشعرية ولغته المؤثرة في مرثياته، ولا بإتقان السيد حسن نصرالله قوانين النحو والصرف مما يستوجبه التخصص في علوم القرآن. لكن كيف للكلام أن يحمل المعنى ونقيضه بين ليلة وضحاها؟ كيف يمكن أن يكون الثنائي داعماً للرئيس المكلف عند تكليفه، ومعترضاً عليه بعد تكليفه، وكيف يقبل الثنائي بحكومة مستقلين من خارج الأحزاب في مشاورات الرئيس الملزمة وفي مشاورات المكلّف غير الملزمة، ثم يصبح أمر تعيين الوزراء الشيعة من اختصاص الثنائي؟

إذا حسبنا هفوات القادة في الثنائي نوعاً من اللعب على الكلام، فالأتباع ممن لا يملكون ناصية اللغة ولا قوانين البلاغة يدافعون عن الهفوة بلغة سوقية لا يميزون فيها بين الحقيقة والمجاز أو بين المناورة السياسية والكذب.