14 تشرين الثاني 2020
من حقّ أي لبناني أن يشمت، أن يعبّر عن مشاعره، ولن تكفيه كلّ وسائل التعبير، أما الثورة فلا.
أستعير من الجاحظ جزءاً من استدارته الشهيرة في مديح الكتاب، لأحوّلها معكوسة إلى هجاء رجل سياسة، رجال سياسة لا رجال دولة. “لست أعلم أقل بِرّاً وإنصافاً وطواعية وكفاية ودراية وتجربة وتدبّراً، ولا أكثر صلفاً وتكلّفاً ومراء وخواء ورعونة، ولا أرخص ثمناً وأوهى حجّة وأضعف حيلة منه”. ولا أظنّ العقوبات الأميركية كافية لشفاء غليل مَن مسخروه واحتقروه.
من حقّ أيّ لبناني أن يغتبط. ويكذب واحدنا إن لم يكن سعيداً، في سرّه على الأقلّ بهذه الصفعة. أما الثورة فلا، لأنّها لا تثق بغير صفعتها هي.
ما من أحد نالت منه سياسة السياسيين اللبنانيين تجويعاً وتفقيراً وتهجيراً واغتيالاً واعتقالاً وقلع عيون، إلّا وله ملء الحق في أن يخرج ما في داخله من غضب متراكم. أمّا الثورة فهي لا تستخفّ بمشاعر الناس ولا تعمل على كبتها، بل على العكس، تستخرج منها طاقة، وتسعى وراء المخارج والحلول.
تعلّمت الثورة من دروس المئوية اللبنانية أنّ القوى الخارجية، كلّ القوى الخارجية، تعمل ما تراه في مصلحتها أولاً، وأنّ حصّة اللبنانيين مرتبطة طرداً بقدرتهم على استثمار التدخّل الخارجي في مصلحة لبنان. كم كرّرنا على مسامع السياسيين حكمة المتنبّي في قوله:
“وَمَن يَجعَلِ الضِرغامَ بازاً لِصَيدِهِ تَصَيَّدَهُ الضِرغامُ في ما تَصَيَّدا”، لكنهم بدل أن يستوعبوا الحكمة توهّموا القدرة على تطويع الضرغام واستخدامه فيستدرجونه ليصطادهم.
كلّ العقوبات الخارجية المحتملة لا تفي اللبنانيين حقّهم في إعادة بناء الوطن والدولة، بما يليق بأجيال المبدعين منهم في أربع أرجاء الأرض. العقوبات الخارجية كالمساعدات الخارجية، تبقى عنصراً مساعداً. من دونها ما كان يمكن للغريب والأجنبي أن يعبث بالسيادة الوطنية، وما كان للإحتلال الإسرائيلي أن يندحر، وللجيش السوري أن يخرج لولا دور اللبنانيين الحاسم.
ارتكابات الحاكم أنواع وأشكال، لكنّها كلّها تقع في باب السطو. السطو على المال أو اغتصاب السلطة، أو الدوس على كرامات الناس، أو تدمير مستقبل الوطن. ومنبعها واحد، انتهاك القوانين الأخلاقية والإجتماعية، أما القانون الوضعي والدستور فانتهاكه لا يعني سوى بيع السيادة بالمزاد للقوى الخارجية وبالمحاصصة لتحالف المافيا والميليشيات.
لأميركا حساباتها، شأنها في ذلك شأن كل القوى القريبة والبعيدة، الصديقة والعدوّة، التي تدخّلت في الشأن اللبناني، أو الراغبة في التدخّل تلبية لطلب أو عن طريق الإستدراج أو بدافع “النخوة والغيرة”. باب التدخّلات الخارجية مساعدات مزعومة، للفلسطينيين وللمسيحيين وللإسلاميين وللعروبيين أو ضدّ كل منهم. أما الباب الآخر فهو باب العقوبات. دخله الجميع خلسة وكان الثمن غالياً، من كمال جنبلاط وبشير الجميل ورفيق الحريري حتى آخر نقطة دم أُريقت بفِعل قرار خارجي، وحتى آخر رصيد من الثروة الوطنية عن طريق الهدر أو التهريب.
الولايات المتّحدة الأميركية هي الوحيدة التي دخلت من باب العقوبات جهاراً نهاراً. فضل تدخّلها على سواه أنه معلن وصريح. وهو ككلّ المساعدات أو العقوبات، قد يغتبط له البعض ويغضب منه آخرون، لكنّه ككّل تدخّل، انتهاك للسيادة، إن لم يكن من خلال الدولة.
ترى الثورة، بلغة الرياضيات، أنّ العقوبات الخارجية قد تكون ضرورية وقد لا تكون، لكنّها ليست كافية. عقاب المجرمين الحقيقي سينطق به القضاء اللبناني بعد أن تستعيد الثورة سيادة الدولة من التحالف الميليشيوي المافيوي.
مقالات ذات صلة
طوفان عيوب في حرب الإسناد
حزب الله كمقاومة وحزب الله كحركة تحرر وطني
هل الصمت الدولي مشروع ومبرر؟