22 نوفمبر، 2024

في نقد الثورة (1)

31 تشرين الأول 2020

https://www.nidaalwatan.com/article/32890

جوقة مديح الثورة، وأنا منها، قالت فيها ما لم يقله “أبو نواس” في الخمرة. فاض عنها المديح المستحقّ، حتّى أنّنا سهونا أحياناً عن النقد، أو أنّ المديح جاء صريحاً ومباشراً ورسم لوحة زاهية لإنجازاتها، فيما كان يأتي النقد مُضمراً وخجولاً حتّى لا يتعكّر صفوها، فيصطاد أعداؤها في الماء العكر. لكنّ الحاجة إلى تنظيف المسار وتصويب الخلل تقتضي ولوج باب النقد الذاتي.

في أقلّ من أسبوعين، تمكّنت الثورة من تحقيق أول أهدافها، بإسقاطها حكومة سعد الحريري، فاكتسبت جرعة إضافية من الثقة بالنفس، وتباهت بإبداعاتها كثورة مبتكرة في سلسلة ثورات الربيع العربي، واستندت إلى منسوب عالٍ من إخلاص الثّوار وتفانيهم وصدقهم والتزامهم، فمنّت النفس بتنفيذ برنامجها كاملاً، وتوهّمت أنّ سقوط السلطة لن يحتاج من الوقت أكثر ممّا احتاجه سقوط الحكومة. هذا بعض من التباس في تفسير المصطلحات، حيث بات الخلط بين السلطة والدولة والحكومة جزءاً من فهم مغلوط، عملت السلطة السياسية خلال عقود على نشره وتعميمه في الوعي العام، ولم تسلم مخيلة الثوار الشابة من الوقوع في حبائله.

للمرة الثالثة، ترتكب الثورة الخطأ ذاته في تناولها مسألة التأليف والتشكيل. لم تنتبه إلى أنّ ثمار ثورة تحت سقف الدستور تحتاج من الوقت لإنضاجها، أكثر بكثير ممّا يحتاجه استلام السلطة بعد انقلاب عسكري أو ثورة مسلّحة. بل هي شغلت نفسها بالإجابة على أسئلة ليست من اختصاصها ولا من صلاحياتها، فأقحمت نفسها في اختيار الرئيس المكلّف، واختلف الرفاق على كيفية اختياره، بالتوافق أم بالاقتراع السرّي، في مؤتمر علني أم على وسائل التواصل.

في المرّة الأولى، ابتهجت الثورة مزهوّة بإنجازها وبالتفرّج على هرج ومرج في حفلة تنكّرية، انتهت فيها مسرحية التكليف والتأليف برئيس يعيا البيان، ويعجز عن التعبير عن تعداد عيوبه ومثالبه، وبحكومة من الدمى، ما أوهم الثوار بأنّ السلطة بلغت مرحلة العجز، غداة استقالته، وبأنّ أمر التكليف والتأليف بات من مهمّاتهم، وكاد ينتهي النقاش “الثوري” لتسمية أعضاء الحكومة ورئيسها إلى ما لا تُحمد عقباه، لولا توافق أهل الحكم على استنهاض مشروعهم التحاصصي. في الثالثة تراجعت الثورة إلى رفض من تنتهي إلى تسميته الإستشارات الملزمة، وأعلنت في بيان بعض مجموعاتها أنّها عازمة على إسقاط الحكم والحكومة.

لا نطلب من رفاقنا الثوار إلّا القليل من التواضع. إذا كانت ثورتنا تحت سقف الدستور، فلسنا نحنا من يُسمّي ولا من يُعيّن ولا من يمنح الثقة الدستورية. الثورة قادرة فحسب على ممارسة الضغط، وهي أبلت بلاء حسناً بل رائعاً، فأسقطت حكومات وفضحت الفساد والفاسدين، وفرضت برنامجاً للإصلاح تبنّته حكومات ومؤسسات دولية، وعطّلت الإستمرار في لعبة المحاصصة المكشوفة، ورفعت الأقنعة عن وجوه المجرمين في التحالف المافيوي الميليشيوي، فباتت قوّة يُحسب لها حساب، ولو من بعيد، في اختيار التشكيلة الحكومية وفي صوغ برنامج الإنقاذ.

من إنجازات الثورة أنّ الصراع على تشكيل الحكومة بين أجنحة السلطة لا يمكن أن يجدّد أشكاله القديمة، فقد غدا خطاب الثورة على كل شفة ولسان، حتّى عند الذين أمعنوا بانتهاك الدستور وسيادة الدولة. لذلك، يبدو أنّ الخطوة الأكثر ثورية لدى الثورة هي المضيّ وراء دعوتها الجميع إلى الإلتزام بأحكام الدستور، ودعوة الحكومة القادمة إلى تنفيذ برنامج الثورة الإصلاحي.

في نقد الثورة (2)

2 تشرين الثاني 2020

https://www.nidaalwatan.com/article/32966

قال سمير عطالله المُبدع في مقالته: “شعبك مهاجر ومسافر وبلا سقف وعلى الطرقات. ولنكفّ عن كذبة 30 عاماً. ما شهدنا شيئاً من هذا ولا في 300 عام. ما عرفنا شيئاً من كلّ هذا السوء إلا في الأعوام الثلاثة الأخيرة”.

انتبهت حين قرأته إلى أنّ كذبة 30 عاماً لم تكن كذبة الحكّام وحدهم، بل استساغ حملها الثوار أيضاً، ما كان أكثر تعبيراً عن الغضب من فشل الحكم وأكثر جدوى لتجميع اللبنانيين المنكوبين بحكّامهم من شعار “كلّن يعني كلّن”.

في لحظة الغضب يعبّر المرء عن نفسه بلا قيود ولا رقابة، و”يخبط خبط عشواء، فمن تُصِبْ تُمِتْه”، على ما قال زهير بن أبي سلمى. بعد أقلّ من أسبوعين على انفجار 17 تشرين الأول، كان ينبغي أن يهدأ روع الثورة. هي انطلقت بعفوية ومن دون تخطيط، “من دون النظر إلى ساعة الحائط أو مفكّرة الجيب” عرفت موعد صراخها (محمد الماغوط). حقّقت إنجازها الأول وأسقطت الحكومة. كانت مطالبة بالصراخ وبات عليها أن تفكّر لماذا يتبارز المتّهمون بالفساد وبتدمير البلاد ويرشقون بعضهم بعضاً بالشعار ذاته، ويستخدمونه كجواز مرور للتقرّب من الثورة والتسلّل إلى صفوفها؟

أكثر من طرف في السلطة انبرى يحاكي الثورة ويتناغم معها في كلامه عن الشفافية وفي إدانته انتهاك الدستور وتهريب الأموال. رفعوا الشعار ذاته واستخدمه كلّ على هواه. صوغ الشعارات موهبة غير قابلة للاحتكار، ولا فضل لشعار على آخر إلا بجدواه، بقيمته الاستعمالية، بمرونته وقابليته على التوظيف لصالح من يحمله. لكن لا شيء بعد 17 تشرين كما كان قبله، بما في ذلك الشعارات.

شعار “كلّن يعني كلّن” فعل فِعله، لا في إسقاط الحكومة فحسب، بل في انفكاك قوى التحالف الحاكم، حتى لا نقول تفكّكاً. كان بإمكان الثورة أن تلتقط هذه اللحظة لتضيّق الخناق على التحالف الميليشيوي المافيوي، الذي أثبتت الوقائع اللاحقة أنّه هو المسؤول عن الإنهيار، فيما المسؤولون عن الأزمة هم كلّ من شارك في السلطة أو في الحرب الأهلية من أهل اليمين وأهل اليسار.

الثورة في موقع الهجوم وفي موقع المنتصر. كان عليها، من باب الأخلاق الثورية كما من باب الحنكة السياسية، أن ترحّب بمن انسحب من تحالف السلطة، وتُلزمه بالحياد على الأقلّ، خصوصاً أنّهم قرنوا انسحابهم بموقف يصبّ في مصلحة الثورة، إذ أعلنت قياداتهم استعدادها الطوعي للخضوع للمحاسبة أمام القضاء، وتحول مناصروهم مناصرين للثورة ومشاركين بفعالية في كل تحرّكاتها.

سنحت للثورة فرصة ثمينة لإعادة خلط الأوراق، نجحت في طيّ صفحة بعض الإنقسامات القديمة، وفشلت في أخرى. نجحت في جمع اللبنانيين تحت العلم الوطني، وفي فضح الأكاذيب المتوارثة عن الطائفية وشرورها، لكنّها لم تبذل الجهد الكافي لإعلان موت الإنقسام الآذاري، 8 و14، ربّما لأنّ شريحة واسعة من أهل الثورة يعود بها الحنين إلى تلك اللحظة التاريخية التي أخرجت الجيش السوري من لبنان. لكنّ التاريخ يأبى أن يكرّر نفسه.

لم يفت الأوان بعد. على الثورة أن ترسم خطوط تماس جديدة بين أنصار الدولة وأنصار الميليشيات.

في نقد الثورة(3)

5 تشرين الثاني 2020

https://www.nidaalwatan.com/article/33169

إن لم تكن ثورة دستورية فهي ثورة تحت سقف الدستور. إذن هي حدّدت دائرة فِعلها وتأثيرها: ممارسة الضغط على السلطة الحاكمة، الضغط السلمي فقط وبكل الوسائل، بالتظاهرات والتجمّعات والاعتصامات واحتلال الساحات والبيانات واليافطات والعرائض والاحتفالات والأغنيات، وباستخدام وسائل الإعلام ووسائل التواصل، وغير ذلك من أشكال التعبير. وقد أبدعت الثورة في استخدام هذه الوسائل، وابتكرت منها ما يفوق الوصف. من ذلك على سبيل المثل، العرض المدني الرائع بديلاً من العرض العسكري بمناسبة عيد الاستقلال، والسلسلة البشرية التي ربطت الساحل اللبناني من شماله إلى جنوبه.

الضغط السلمي فقط، وشرطه أن يكون مُجدياً، أي مؤلماً. وإن لم يُصب خصومها فسيرتدّ ضدّها. بالرغم من طابعها السلمي، هي معركة هجومية تشبه بآلياتها أي معركة عسكرية. يبدأ الهجوم بقصف، بضغط مكثّف على كل المواقع. مع تقدّم المعركة، يتركّز الضغط وتزداد الأهداف دقة ووضوحاً. في البداية ضغط عشوائي على منابع الفساد والإفساد، وما كان أكثرها. وإذا ظلّ عشوائياً أساء.

أينما حلّ ضغط البدايات أصاب. على مراكز القرار السياسي والمالي والإداري والقضائي. كيفما اتجهت تجد أثراً لاختلاس مال عام أو لانتهاك قانون. أما انتهاك الدستور فلا حاجة للبحث عنه، إنه في أروقة السلطتين التنفيذية والتشريعية، في تعطيل المؤسسات كرئاسة الجمهورية ومجلسي النواب والوزراء، في إلغاء الفصل بين السلطات وتسييس القضاء، في الجمارك والحدود المشرّعة أمام لصوص التهريب، تهريب العملة الصعبة والمواد الغذائية والمشتقات النفطية.

بعد عام، بل خلاله، استسلم بعض السلطة وخرج من المواجهة. حتى لو كان هروبهم تهرّباً أو مناورة، فقد كان على الثورة أن تكتفي بمحاصرة من ارتضى منهم طوعاً البقاء قيد المراقبة والمحاسبة أمام القضاء، وتركّز جهدها ضدّ من استمرّ في المكابرة والتعطيل وعرقلة الحلول والتغطية على المجرمين.

في البداية، كان مبرراً أي تعبير عن الغضب بسبب أزمة مستدامة طاعنة في السن. بعد عام ضاق الخناق على المذنبين. الوطن في أزمة مستدامة وهو معرّض اليوم للانهيار. قد تكون الحريرية وراء الأزمة وقد تكون الحرب الأهلية ومن شارك فيها يساراً ويميناً، أو أول انقسام لبناني بين الناصرية وحلف بغداد، غير أنّ المؤكّد بعد عام على الثورة، أنّ سبب الإنهيار هو عدم الالتزام بأحكام الدستور، وأن من تسبّب بالإنهيار هو تحالف في رأس هرم السلطة بين المافيا والميليشيا.

بعد هذا الوضوح في بنك الأهداف باتت الانتخابات المبكرة لا تشكل حلّاً إذا لم يتعدّل قانون الانتخاب، وباتت المحاسبة مستحيلة في ظلّ سلطة قضائية مستباحة، وإعادة إعمار بيروت أمراً صعب التحقيق في ظلّ إدارة فاسدة، ومعالجة الإنهيار المالي والنقدي والاقتصادي غير ممكنة إذا ما استمرّ التحالف الحاكم مُمعِناً في انتهاك الدستور والقوانين.

الثورة أنجزت، لكن الثوار لا يستندون إلى ما أنجزوه، بل يستأنفون في كلّ يوم كما لو أنّهم في أوّل يوم. باتت الثورة مُطالبة بالإستفادة من تجربتها الغنية والناجحة لتتابع معركتها الهجومية وتحدّد أهدافها بمزيد من الدقّة والتركيز، وتُعيد تنظيم نفسها بما يجمع قواها ويحفظ تنوّعها، ويعزّز الأجواء الديمقراطية بين مكوّناتها.

في نقد الثورة (4)

7 تشرين الثاني 2020

https://www.nidaalwatan.com/article/33319

الثورة شخّصت وكتبت وصفة العلاج. الناشطون على الأرض خاضوا المعركة ضدّ الفساد، من غير أن يغوصوا في فقه المعاني وفي الفروقات بين المصطلحات: طائفية، محاصصة، علمانية، مدنية، ديموقراطية، انتخابات، دولة مركزية، دويلات، لامركزية، فدرالية وكونفدرالية وغيرها من المفاهيم. المثقّفون شغلتهم هذه الكلمات، وأدخلتهم في التفاصيل عن قوانين الإنتخاب وقوانين الأحوال الشخصية وإلغاء الطائفية.

غير أنّ أهل السلطة عملوا على فكّ حصار الثورة المُحكم عليهم بشحن هذه المصطلحات بمعان ملتبسة. هم أيضاً من أنصار الدولة، الدولة المدنية والعلمانية. حتّى الأحزاب الدينية والمفتي الجعفري لن يقبلوا بغير دولة مدنية، لكنّهم يعارضون سنّ قانون موحّد للأحوال الشخصية. الكلّ مع إلغاء الطائفية، لكن الأحزاب المسيحية لا ترضى إلا بالعلمنة الكاملة.

انتخابات مبكرة وقانون عصري للإنتخابات لإعادة تكوين السلطة. لكن، كيف يكون القانون عصرياً؟ بتصغير سنّ الإنتخاب أم بلبنان دائرة انتخابية واحدة، أم بتعديل حجم الدوائر، أم بتصويت المقترع لمرشّح واحد؟ وهكذا تكون السلطة قد زجّت الثورة في متاهات حوار وُلد عقيماً منذ رأى اليسار أنّ إلغاء الطائفية هو المدخل إلى الحلّ، وردّ اليمين بسؤال البيضة أم الدجاجة، النفوس أم النصوص.

الثورة ألغت كلّ أنواع الإلتباسات في الشوارع والساحات. تجاوز الثوّار أسئلة الماضي العقيمة، والتقوا في الساحات والشوارع، وجمعوا أطراف الوطن ولم يعيروا انتباهاً لتنوّع الإنتماءات الدينية والطائفية والمذهبية والمناطقية والحزبية. نجحوا لأنّهم أجابوا على أسئلة أخرى غير تلك التي طرحها جيل الحرب الأهلية. لم يكن الخطأ في الأجوبة القديمة وحدها، بل في الأسئلة أيضاً.

أين هي الطائفية التي سنلغيها؟ من المستفيد من تنصيب شيعي في وزارة المالية؟ الطائفة أم تجّار الطائفية فيها؟ ومن المستفيد من وزارة الطاقة؟ المسيحيون أم أحد الأحزاب المسيحية أم لصوص المال العام في الحزب الحاكم؟ إنّهم يبحثون عن حصص، ويزعمون أنها حصص الطوائف، لكنّها حصص أشخاص معدودين داخل كل طائفة، جعلوا الدولة ملكيات خاصة للزعيم وزوجة الزعيم والورثة، فتحاصصوا الإدارة والثروة والنفط، واختلفوا على جلد الدبّ قبل أن يأسروه.

أهمّ حكومة في تاريخ لبنان تشكّلت أيام فؤاد شهاب من رشيد كرامي وحسين العويني من السنّة وبيار الجميل وريمون إدة المارونيين. أربعة وزراء فقط، لا عشرين ولا أربعة وعشرين. لم تتردّد يومذاك مصطلحات الميثاقية والدستورية والشرعية التي ينطق بها اليوم من يجهلون معانيها، لأنّهم لم يتعلّموا في مدرسة ميشال شيحا ورياض الصلح وبشارة الخوري وفؤاد شهاب كيف يُبنى الوطن والدولة، بل تدرّبوا في الأجهزة والعسس والمافيات الميليشيوية على السطو والبلطجة وانتهاك الدستور.

“الأحوال الشخصية” أصعب من الطائفية، وراء كل منهما تاجر أو مقاول. وهي أصعب لأنّها “شخصية”، أي مرتبطة بالخيارات الفردية وبحقّ الإنسان بالحرية. هناك بلدان يبني القضاء أحكامه فيها على الأعراف والتقاليد. وما همّ إن تعدّدت القوانين، المهمّ ألا تتعدّد السلطات. ما ينبغي إلغاؤه هو السلطات الموازية القضائية والمالية لدى الطوائف، وإخضاع المحاكم الشرعية لسلطة القضاء المدني الذي يحكم باسم الشعب اللبناني، على أن تُحمى حرية النطق باسم الله وباسم الآب والإبن كحقّ فردي من حقوق الإنسان.

ليست الأجوبة القديمة وحدها المغلوطة. إعادة صوغ السؤال عن مواصفات الدولة المنشودة. والجواب: الدولة الدستورية، دولة القانون والمؤسسات.