20 شباط 2021
أكثر من مئة وعشرين مقالة في “نداء الوطن”، قلت فيها كل شيء عن الثورة. تغنيت بها، ردّدت ما قيل شعراً في الثورات، شاركت مناضليها خطاهم وتباهيت بابتكاراتهم ومبادراتهم الخلاقة، وتضامنت مع معتقليهم وكتبت لأبلسم جراح الجرحى منهم. لن أبدل حرفاً مما كتبته عنها. ما قلته عنها يشبه ما قاله المتنبي في مدح سيف الدولة “فإنك معطيه وإني قائله”. أنا حكيت عن إبداعات من صنعها هي، وعن ثمار من جنى غرسها. لن أقول وداعاً، على العكس، سأجدد العهد والأمل والثقة بأن لبنان الجديد سيولد، وبأن جيل الثورة هو الذي سيعيد بناء الوطن والدولة.
لكنني كتبت أيضاً في نقدها، وزعمت أنني استخرجت من مسارها اليومي ومن قراءتي النقدية لتجربة الحرب الأهلية توليفة من نصائح قدمتها لرفاقي الثوار ومن دروس كنت أتعلمها منهم. هم رسخوا يقيني بأن الوطن باق والميليشيات إلى زوال، وبأن العلة ليست في النظام بل في أهل الحكم، وأن الأزمات المتناسلة منذ الاستقلال ناجمة كلها، لا من النظرية بل من إساءة فهمها ولا من التطبيق بل من عدمه، من عدم تطبيق الدستور والقوانين، أي من انتهاكها. أعترف أنني عجزت عن إقناعهم بأهمية وحدة الصف. ربما لأن النصائح وحدها لا تكفي، وربما لأن التجربة، لأن مدرسة الحياة، في نظرهم، هي الأهم. ولا التمنيات وحدها تكفي، فهم يأخذون بقول المتنبي “ولكن تؤخذ الدنيا غلابا”، لكن عليهم أن يأخذوا بقوله، “الرأي قبل شجاعة الشجعان”. ينقصهم الإصغاء لمن خبر الحرب الأهلية وذاق مرارتها وتعلم منها أن الواجب الوطني يقضي بتنظيم الاختلافات لا بتفجيرها، وبجعل التنوع والتعدد مزيّة وفضيلة لا لعنة وبؤرة للحروب.
بالرغم من تشتت الثوار وتشرذمهم وتفريخ مكوناتهم كالفطر، ما زلت مقتنعاً بأن الثورة بخير. فالثورة ليست حاصل جمع عددي، ولا تحسب قوتها فحسب بحشود في الساحات أو بطرقات مقطوعة بالدواليب، أو بتجمعات في الشوارع أو أمام مقرات الفساد، بل في الرهان على الفوز في سباق ستكون فيه سلطة الفساد والإفساد والنهب المنظم هي الخاسرة بالتأكيد.
وعجزت عن إقناعهم أيضاً بأن مصطلح الطائفية فخ، حصرم يتقن أهل السلطة كيف يمضغونه ويضرس المواطنون. الطائفية موجودة في المشاعر والعادات والتقاليد، وهي جزء من تنوع أو تعدد هو من ثروتنا الوطنية، ولا تتحول إلى خطر إلا عند توظيفها في الصراع السياسي وفي شحن النفوس والتعبئة ضد الآخر. لا يضير المسلم أن يكون رئيس الجمهورية مسيحياً ولا المسيحي أن يكون رئيس الحكومة سنياً، لأن معيار الحكم على الرؤساء والوزراء والمسؤولين هو التزامهم القوانين وأحكام الدستور. لا تقولوا بأن نظامنا طائفي، قولوا هو نظام محاصصة. هو ليس محاصصة طائفية، ليس محاصصة بين الطوائف، بل بين طائفيين نصبوا أنفسهم، بقوة الاستبداد وتزوير الانتخابات ودعم الخارج، ممثلين حصريين لطوائفهم. إن كانوا لم يقتنعوا بهذه أو تلك من الأفكار فهذا من حقهم، ولأنه لا يمكن لأحد أن يحتكر الحقيقة سوى أمرين اثنين لا مجال فيهما للتأويل والاجتهاد. أولهما أن الوجع اقتصادي لكن المرض سياسي والحل سياسي وكل جهد يبذل بغير هذا الاتجاه لا يكون فحسب بلا جدوى بل هو مؤذٍ للثورة. وثانيهما أن للثورة تحت سقف الدستور آليات لم تشهدها ثورات الربيع العربي، وأن تعامل الثوار مع هذا المبدأ باستخفاف يهدد بضياع هذا الابتكار العبقري.
أما بعد. فسلسلة مقالاتي اللاحقة سأضعها تحت تصرف الثورة ومحورها إعادة بناء الوطن والدولة.
مقالات ذات صلة
نعم انتصرنا
هل يكتب التاريخ الحديث بمصطلحات طائفية؟
جامعة الأمة العربية ومحكمة العدل الشعبية