14 آب 2021
في الديمقراطيات الحديثة ينتظرون قرار المؤسسات الدستورية، مجلس الوزراء، البرلمان، مجلس القضاء الأعلى وغيرها من هيئات الرقابة. في الأنظمة الاستبدادية ينتظرون كلمة متلفزة أو إطلالة إعلامية أو مؤتمراً صحافياً للأمين العام أو الرئيس. أما في السوبر استبدادية فلا ينتظرون غير خطاب الزعيم.
يتندر جمهور الاستبداد بقدرة زعيمه على تمغيط الخطاب. ست ساعات استمر عبد الناصر في خطاب الميثاق، وفيديل كاسترو ست عشرة ساعة. ضيوف حافظ الأسد ومحاوروه كانوا يطلبون وقتاً مستقطعاً لأنه “لا رأي لحاقن” ولأن كلمة الرئيس خلال المحادثات تبدأ من سفر التكوين ولا تكفيها جلسة واحدة وتستكمل في الجلسة التالية. أما رفاق الرئيس فقد تآكلت أزمانهم في السجون أو في المنافي إن لم تتآكل أجسادهم في دود التراب.
في الأنظمة كما في الأحزاب الاستبدادية لا يتعلق الزمن بدورة الأرض حول نفسها فيما هي تدور حول الشمس، بل بمزاج الزعيم. إذ لا يجوز أن يكون الزعيم مصاباً خلال الخطاب بزكام ، ومن الأفضل ألا تفاجئه نوبة سعال ولا يجوز أن ينقطع الكلام بعطسة أو صداع مفاجئ. كل شيء يكون معداً سلفاً بما في ذلك النبرة وخلفية المشهد والمصفقون، إلا الخطاب، فمن الأفضل أن يكون ارتجالياً وأن يتلبس الخطيب دور الواعظ حتى لو لم يكن من سلالة رجال الدين. كل التفاصيل مهمة إلا الزمن، فهو ملك الزعيم وما على الشعب سوى الانتظار.
الحاكم في بلادنا انتبه إلى الأزمة على بعد ثلاثين عاماً، وأهل التسوية انتبهوا إلى بطلانها بعد أربع سنوات. وبعد أربعين عاماً من الحكم قرر القذافي أن يتعقب الثوار زنقة زنقة. مع مبارك في مصر وبن علي في تونس ونبيه بري في لبنان، بعد ثلاثين عاماً. لمَ الاستعجال؟ الزمن يتماوج أمام الزعيم كأجنحة رفوف البجع. إن لم يأت الحل في زمن هذا الجيل ففي زمن الجيل التالي أو في عهد من يرث الزعامة، حتى لو لم يجد الزعيم ما يورثه غير المصائر المؤلمة كالحروب الأهلية كما هي الحال في الجمهوريات الوراثية أو كالجحيم الموعود كما هي الحال في لبنان.
الزمن وحده لا يكفي لترويض الشعوب. يلزمها دورة زمنية من التجويع والإذلال أمام كراتين الإعاشة والطوابير أمام محطات الوقود. النمر في يوم الإذلال العاشر تم ترويضه في قفصه وصار من أكلة الحشائش. هذا نمر الأديب الكبير زكريا تامر في مجموعته “النمور في اليوم العاشر”، أما النمور اللبنانية فصارت تقتات من زراعة الخضار على الشرفات. الكرة الأرضية اشترطت تشكيل الحكومة لتقديم المساعدات، والرئيس ما زال يبحث، أسوة بمطالبة حليفيه في الثنائي الشيعي بحق علي بالخلافة،عن حق صهره بالرئاسة.
لا يناقش الزمن في أحكامه. لكن الزعيم لا ينجو من المحاكمة إن هو جرب أن يتحكم بالزمن، أن يشده إلى الوراء، أن يحول الزعامة إلى سفاهة والحكم إلى تفاهة. ثورة 17 تشرين أحالت إلى المحاكمة زعماء “زمن الرويبضة أي الزمن الذي يسوس فيه العامةَ سفهاءُ العامة”. لم يعد يجدي استذكار الشهداء في المهرجانات ولا خطابات دورية ولا إطلالات إعلامية ولا مؤتمرات صحافية لمسؤولين في السلطة السياسية أو في الأحزاب. لقد سقطت عن الجميع حصاناتهم المغتصبة من التاريخ أو من الدين أو من قوانين الانتخاب السيئة الذكر والنتائج.
لم يعد مجدياً الحنين إلى ماض مضى زمن الرسل والأنبياء أو زمن الخليفة أو المهدي، ولا زمن لينين وعبد الناصر وحافظ الأسد. وإذا كان النفخ في جمر الحرب الأهلية يلهب نفوس الجهلاء من الطوائف وعقول الذباب الإلكتروني من الذين لا يتقنون غير لغة التخوين ومفردات الشتائم، فإن اللبنانيين الذين اجتمعوا في ذكرى مجزرة المرفأ قرروا رفع الحصانة عن المرتكبين والتضامن مع القضاء لمحاكمة المذنبين.
جريمتهم ليست التلاعب بالزمن والتاريخ فحسب، بل العبث بحياة اللبنانيين وبعمر الوطن.
مقالات ذات صلة
نعم انتصرنا
هل يكتب التاريخ الحديث بمصطلحات طائفية؟
جامعة الأمة العربية ومحكمة العدل الشعبية