28 مارس، 2024

فساد بالسوية استبداد بالرعية

28 آب 2021

https://www.nidaalwatan.com/article/56265

التعميم عدو الحقيقة. الشيطان يكمن في التفاصيل لا في العموميات. الفيلسوف الفرنسي باشلار قال إن التعميم عائق أمام الوصول إلى المعرفة، إلى معرفة الحقيقة العلمية، الحقيقة الدامغة التي لا يمكن بلوغها إلا بالبراهين والأدلة. الباحث في العلم كالقاضي لا ينتهي إلى خلاصة حكم إلا بالدليل القاطع أو بالقرينة، أي عن طريق المقارنة، فهل يمكن تطبيق هذا المصطلح على القضايا السياسية؟

حقل السياسة تربة خصبة للعموميات، لأن الصراع فيه يستعجل بلوغ الهدف ولا يقبل التسويف والتأجيل، ولأن كل طرف يسوغ لنفسه اللعب على المواجع، خصوصاً تلك التي تصنع الجمهور. الموجوع يبدأ بالصراخ قبل البحث عن حلول ومخارج.

كثيرة هي شعارات التعميم ومصطلحاته، وأهمها منذ بداية الثورة اللبنانية، كلهم يعني كلهم، والمصارف في لغة اليسار و128 حرامي والمنظومة الحاكمة والشعب يريد إسقاط النظام وغيرها. لكن أكثرها التباساً مصطلح المحاصصة الذي ترفعه الثورة لتدين به ممثلي الطوائف المشاركين في الحكم، ويتستّر به الحاكم تحت زعم الدفاع كلّ عن حصة طائفته في أجهزة الدولة والثروة الوطنية.

المحاصصة بدعة من مواليد عهد الوصاية، ظاهرها تقاسم السلطة بين ممثلي الطوائف، وجوهرها السطو على مغانمها وتوزيعها على أصحاب النفوذ المالي والعسكري والسياسي، الذين حولوا الوطن كازينو، وتلاعبوا على طاولات المقامرة فيه بثروة الوطن البشرية والإدارية والمالية، وحظي مديره العام بحصة الأسد.

أيتام النظام السوري من اللبنانيين أتقنوا بوجوده دور الأدوات، ولم يتدرّبوا ليكونوا أسياد اللعبة بعد رحيله. كان يتستّر عليهم بالقوة والغلبة وسطوة السلاح وذرائع المواجهات المزعومة مع الصهيونية والإمبريالية، مستفيداً من استقطاب الأموال من كل المصادر لإعادة إعمار ما هدّمته الحرب الأهلية، مقتطعاً حصة له وحصصاً لأدواته كان أولها توزيع تجارة النفط على القوى الحزبية والميليشيات.

بعد رحيل الوصاية واغتيال رفيق الحريري، نضبت مصادر التمويل وصارت عمليات النهب تنهش باللحم الحي، في أكبر ظاهرة فساد مفضوح شهدتها أنظمة الاقتصاد الحرّ، فراح يتناقص حجم الكتلة النقدية من العملة الصعبة في خزائن المصرف المركزي، وبلغت الخط الأحمر المحدد بالاحتياطي الإلزامي، وهو خط الكارثة وباب جهنم.

خطر المحاصصة خطران، البارز والمكشوف منهما هو الفساد، أي تقاسم الثروة المالية الوطنية وتوزيعها على أسياد النهب من ممثلي الطوائف وأزلامهم من المحتكرين، وأدواتهم من تجار المواد الغذائية والطبية والنفطية المدعومة ومخزّنيها ومهرّبيها إلى سوريا وتركيا والكويت ومصر وبلدان أفريقيا، وقد تجلت وحدة الفاسدين والمفسدين في أوضح صورها في اجتماع ممثلي الطوائف وأزلامهم في نظام المحاصصة، الموزعين، سبحان الخالق، على مروحة من التنوع الديني والحزبي والمناطقي، لا يعتب فيها أحد على أحد، ويصحّ فيها شعار كلهم يعني كلهم.

أما الخطر المستتر المضمر في هذه البلية فهو الاستبداد المتمثل بالتناغم والتكامل والتنسيق والتعاون بين المتنافسين والمتحاصصين على انتهاك الدستور والقوانين وعلى اقتراف خيانات موصوفة بحقّ الدولة والوطن.

إذا جاز أن نعرّف الاستبداد بنقيضه فهو نظام يجافي الديموقراطية والدستور والقانون والكفاءة وتكافؤ الفرص. نظام الوصاية أرسى تقاليده فألغى الديموقراطية بإلغائه دور المؤسسات، وعمّم العقلية الميليشيوية في الحكم ومنطق الأتباع والأزلام في إدارات الدولة، وعطّل دور القضاء وأفرغ صناديق الاقتراع وقوانين الانتخاب من مضمونها الديموقراطي واستبدلها بمنطق التعيين بالمحادل أو بالقهر والتعسف.

كتب العميد مارون خريش على صفحته قائلاً: “عصام خليفة الأكاديمي الأصمعي كاتب تاريخ لبنان وناظم أوراق حدوده الملتبسة، صدرت بحقّه مذكرة توقيف لأنه تكلم عن فساد الجامعة اللبنانية ورئيسها مزور الشهادات العلمية. أما عصام خليفة محتكر الدواء وقاتل المرضى وخافي أدوية الأمراض المستعصية فلم تصدر بحقّه لغاية الآن أي إجراءات قضائية”.

حكاية نموذجية عن انهيار منظومة القيم في ظل الاستبداد. كم من مجرم صار زعيماً، وكم من جاهل احتلّ بلقب الحاج محل أصحاب الألقاب العلمية، مثلما احتل زعران الأحياء والشبيحة والقوادين لدى ضباط الجيش السوري مكان أصحاب الكفاءة من حاملي الشهادات الجامعية.

على الصعيد السياسي حصل ما هو أدهى. ذلك أن قوى الممانعة المحلية تابعت نهج نظام الوصاية، فحكمت برئاسة جمهورية أين منها رئاسة فؤاد شهاب، وبمجلس نيابي بدل أن يكون سيّد نفسه كان سيّد التعطيل، وبرئاسة حكومة أين منها رئاسة رشيد كرامي، وبوزراء خارجية أين منهم فؤاد بطرس، وبرؤساء جامعة لبنانية أين منهم إدمون نعيم وجورج طعمة.

بديل الكفاءة جهل وشبيحة. وبديل الدكتور والمهندس حجاج لصوص. وبديل رجال الدولة الكبار رجال سياسة من صغار النفوس. هذا بعض من أعراض الاستبداد، وبعض من أعراض انهيار النظام على رؤوس أصحابه.