11 كانون الأول 2021
استوقفني في برنامج، خطأ شائع، على إحدى الشاشات، منهج في قراءة التاريخ معظم خلاصاته أخطاء شائعة، مع أنه يستند إلى معطيات صحيحة. وهو منهج يموّه الحقيقة بل يشوّهها ويعرقل بالتالي سبل الوصول إلى حلول لأزمة الوطن المستدامة.
بعد أن كتبت عن خطأ شائع عنوانه حروب الآخرين، اكتشفت أن الكتابات التاريخية اليسارية واليمينية التي تحكي قصة الوطن مبنية على أخطاء شائعة، من بينها المصطلحات المتعلقة بإسم لبنان، والاستعمار والطائفية وسواها، وأن الاستناد إلى مقدمات مغلوطة سيفضي حكماً إلى استنتاج دروس مغلوطة وإلى تكرار الأسباب وتكرار النتائج، ورأيت من المناسب أن أنقل إلى الصحافة ما سبق لي أن فصلته في كتابي أحزاب الله عن المفاهيم المغلوطة التي ينطلق منها أبطال الأزمات والفتن والحروب الأهلية المتتالية. أبدأ بالخطأ الشائع، لبنان الكبير.
التسمية “لبنان الكبير” أنجبت مجموعة مفردات سياسية شوهت البحث النظري حول الوطن والدولة، وساهمت، بالتالي، في تشويش الحوار وفي إعاقة بناء الجمهورية اللبنانية. من أجل إزالة الالتباسات النظرية والتاريخية التي رافقت تأسيس الوطن على امتداد مئة عام، اقترحنا معياراً آخر لا يعتمد الحجم ولا المساحة، “كبير أو صغير”، بل يعتمد الموقف من الدولة. وبناء عليه نرى أن الاحتفال الصحيح بالمئوية هو العام 1926 بدل العام 1920، أي تاريخ أعلان الدستور اللبناني.
سنقوم بتمرين نظري لنثبت صحة هذه الفرضية، فنقارن المقاربات المستندة إلى معيار الحجم والمساحة بتلك المستندة إلى معيار الدولة. التسمية “لبنان الكبير” تعني أن لبناناً آخر “صغيراً” كان موجوداً وجرى تكبير حجمه. المعيار في التسمية هو الحجم والمساحة، ومنه تحدرت قراءات وسجالات مغلوطة حول كتابة تاريخ لبنان وسايكس بيكو والتنوع الطائفي والعروبة وسوء التفاهم بين القومي والوطني.
يرى ميشال شيحا أن لبنان “قديم جداً”، ويرى آخرون أن إسم لبنان ورد في الكتب الدينية، وأن هذا الكيان تأسس منذ ستة آلاف عام أو من أيام الفينيقيين أو من أيام الملك سليمان وخشب الأرز. في المقابل، لا وجود للبنان في خارطة السياسة القومية ولا في خارطة التاريخ الإسلامي. أما مهدي عامل فقد حدد “تاريخ ولادة لبنان بولادة البرجوازية الكولونيالية المرتبطة تبعياً بالإمبريالية”. هذه التواريخ كلها غير محددة بدقة، من القديم جداً إلى ولادة البرجوازية الكولونيالية، ما عدا اثنين منها، سايكس بيكو (1916) ولبنان الكبير(1920)، الأول يجعله صناعة استعمارية والثاني يميز بين لبنان الجبل، أي لبنان “الأصلي”، ولبنان الأقضية التابعة، أي المضمومة، بسبب حاجة لبنان الأصلي الممتد على سلسلة الجبال من المكمل شمالاً حتى الريحان جنوباً، حاجة وجودية إلى ممر تجاري على موانئ الساحل وإلى مصدر غذائي من زراعة السهول.
التواريخ كلها صحيحة، يمثل كل منها تاريخ إقليم أو منطقة أو سنجق أو ولاية، لكن عدم دقة بعضها شكل ثغرة تسلل منها “الصراع على تاريخ لبنان” بعد استئذان أحمد بيضون الذي نشر بحثاً بهذا العنوان، وشكل التاريخان الدقيقان، سايكس بيكو ولبنان الكبير، أسباباً إضافية للصراع بين مكونات لبنان الجغرافية والبشرية.
لبنان الحديث الذي تأسس مع إعلان لبنان الكبير عام 1920 يتكون من مقاطعات أو ولايات لم تجتمع في إطار واحد ولا خضعت مجتمعة لسلطة واحدة تحمل إسم لبنان أو الجمهورية اللبنانية إلا بعد الحرب العالمية الأولى، أي في فترة الانتداب الفرنسي، ثم تكرست في الاستقلال السياسي عام 1943. هذا يعني أن تاريخ لبنان قبل “لبنان الكبير” ليس سوى تاريخ المقاطعات أو الولايات وليس تاريخ الجمهورية، باستثناء مرحلة حكم فخر الدين المعني الثاني الذي امتد نفوذه إلى شمال فلسطين وبعض مناطق سوريا. بهذا المعنى يمكن القول إن الصراعات في ظل الجمهورية التي اتخذت شكل الحروب الأهلية في 1958 و1975 وثمانينات القرن العشرين والعقدين الأولين من القرن الحادي والعشرين، هي صراعات بين عقلين ومنطقين، منطق الولايات ومنطق الجمهورية، مع فارق جوهري يتمثل بأن سلطاناً واحداً كان يدير الصراعات والحروب في عهد الولايات من مقره في الآستانة، فيما تعددت التبعيات والولاءات والسلطنات في عهد الجمهورية، إذ صار لكل ولاية والٍ و”أم حنون”، وبدت حروب اللبنانيين الأهلية كأنها حروب الآخرين أو بين الطوائف، فيما هي في حقيقتها إما حروب ضد لبنان الكبير وضد الجمهورية، إما حروب بين مستبدين يتنافسون من مواقعهم المتقابلة ضد الديموقراطية.
معيار الدولة كفيل بحل إشكالات والتباسات متراكمة تتعلق بمعرفة العوامل الحقيقية التي أضرمت نار الحرب الأهلية، وبالتالي بمعرفة السبل الآيلة إلى رسم خارطة طريق نحو بناء المستقبل.
مقالات ذات صلة
جامعة الأمة العربية ومحكمة العدل الشعبية
نقول لحزب الله ما اعتدنا على قوله
الإذعان بعد فوات الأوان