23 أيار 2020
الممانعة والمقاومة معسكر واحد على صعيد الممارسة السياسية، إلا أنهما متناقضان على صعيد الممارسة النظرية. ينطوي مصطلح الممانعة على معنى الموافقة المؤجّلة من جانب النظام السوري، على التسوية مع الكيان الصهيوني بانتظار تحسين شروطها، من غير المبادرة إلى العمل على تحسينها، والاكتفاء بتضحيات يقدمها الشعب اللبناني أو الشعب الفلسطيني. وهي، بحسب تعبير ياسين الحاج صالح، امتناع عن مواجهة العدو، وهي بحسب لؤي حسين، ليست أكثر من رفض ما يطرحه الآخرون، وهي لا تكون فعلاً بل ردّ فعل.
أما المقاومة فهي تعبير عن رفض مطلق لكل أشكال التسويات معه. ومن سوء حظ المقاومة بكل أطيافها أن نهوضها كان رهناً بدعم الأنظمة العربية وإيران، وأنها تحولت، بعد الاتفاقات الثنائية التي عقدتها مصر والأردن مع إسرائيل، إلى رهينة لدى “دول الطوق” في البداية ثم لدى جبهة الصمود والتصدي، ولاحقاً عند نظام الممانعة الوحيد، نظام البعث السوري، الذي احتكر شرايين تمويلها وتسليحها حتى باتت علاقتها به علاقة موت أو حياة، فأذعنت لشروطه وارتضت أن يفاوض بقوة تضحياتها وانتصاراتها من أجل تأجيل التسوية لا من أجل تحرير الأرض.
بسبب من موقف الممانعة هذا لم يكن النظام السوري، وبالتالي معسكره أيضاً، سعيداً بانسحاب الجيش الإسرائيلي ذليلاً من لبنان،إذ إنه كان قد “مانع” لسنوات أي انسحاب جزئي من جانب واحد. وهذا تناقض آخر بين ممارسة نظرية يفترض فيها تقديم الاحتفال بالنصر هدية للوحدة الوطنية واستعادة السيادة، فيما اتجهت الممارسة السياسية إلى ربط مصير المقاومة لا بنتائج نصرها الباهر بل بمتطلبات ومستلزمات نظام الممانعة الذي لم يكن يعمل لتحرير الأرض، والذي لو أدرج تحرير الجولان على جدول عمله لكان بذل في سوريا ما بذله في لبنان لبناء مقاومة يوجهها وجهة التحرير، بدل استخدامها من بين أوراق تفاوض مسدود الأفق، أو ذي أفق وحيد هو الموافقة على تسوية بشروط أكثر سوءاً.
كنت أظن أن يوم التحرير كان حزيناً على الممانعين، وإذا بالمفكرين منهم ينحازون إلى مصالح السياسيين ضد قناعاتهم الفكرية. المفكر القومي عبد الإله بلقزيز يقول حرفياً: “إن افتراض وجود دولة لا تمارس العنف هو ضرب من الطوبى ويتعارض مع فكرة الدولة، وافتراض دولة من دون عنف هو افتراض اللادولة، وفي غياب الدولة يتخذ العنف شكل الحروب الأهلية… والعنف بمعناه السياسي ليس أكثر من فرض احترام القانون، والدولة لا تمارس العنف فقط بل عليها أن تحتكر العنف”. لكنه حين يكتب عن “حزب اللّه” لا يوافق على أن تحتكر الدولة اللبنانية أجهزة العنف العسكرية والأمنية، ويعترض على قرار مجلس الأمن الداعي إلى حل جميع الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية وعلى نزع سلاحها، وعلى دخول الجيش اللبناني إلى الجنوب بعد التحرير. يقول بلقزيز، من موقعه كمفكر يدعو إلى الحداثة، أنه “لا سبيل إلى أن يعيش مجتمع من دون دولة، وأن المجتمع ولد مرتين، مرة كمجتمع ومرة ثانية حين قامت فيه الدولة، وأن الدولة ربما كانت أهم اختراع إنساني في التاريخ”. وحين يتناول مسألة تحرير الجنوب يرى، عن حق، أن “حزب اللّه” واجه جيش الاحتلال ببطولة غير مسبوقة في تاريخ الحروب مع إسرائيل، محققاً أول انتصار عربي لا لبس فيه في العام 2000. غير أنه، كمفكر قومي، لم يطرح السؤال عن مشروع المقاومة لما بعد التحرير، ولا السؤال عن توظيف هذا الانتصار ضد الدولة في لبنان.
مما لا شك فيه أن لبنان قدم نموذجاً يحتذى في مواجهة جيش الاحتلال الصهيوني، إذ سطر “حزب اللّه” ملحمة بطولية فريدة لم تشهد الساحة العربية مثيلاً لها على مختلف الجبهات والحروب والنضالات.
شكلت التجربة اللبنانية درساً ثميناً للعرب فحررتهم من خوفهم ومن ثقل الشعور القاتل بالدونية والصغار وزراية النفس أمام الوحش الكاسر و”جيشه الذي لا يقهر”، بحيث تولّد في وعي الإنسان العربي وضميره من المحيط إلى الخليج شعور مميز حيال لبنان، بحسب قول بلقزيز. لكن ذلك لم يحصل غداة تحرير الجنوب اللبناني من الاحتلال الإسرئيلي العام 2000 فحسب، بل إن هذا الشعور قديم منذ استقلاله ومرتبط بأسباب عديدة أهمها خصوصية نظامه السياسي الذي حافظ على التنوع والتعدد فيه، وعلى مستوى مقبول من الديموقراطية والحريات السياسية والإعلامية لم يعرفه أي نظام عربي آخر، وفي مناخ الحريات هذا نهضت ونشطت مؤسسات المجتمع المدني والنقابات والأحزاب، وتحول هذا الوطن الصغير إلى متنفس لكل حركات المعارضة وإلى سند لحركة التحرر في العالم العربي، وفي القلب منها “منظمة التحرير الفلسطينية” التي شكلت الأحزاب اليسارية بيئتها الحاضنة، وفي كنفها نشأت المقاومة الوطنية اللبنانية، وبذلك تكون ولادة “حزب اللّه” ومقاومته الباسلة قد حصلت في سياق كتابة الصفحات الناصعة لتاريخ لبنان أو تتويجاً لها. لئن كانت الحرية من خصوصيات هذا الوطن الصغير، فالحريات فيه كانت مغلفة بقشرة سميكة من الاستبداد، في نظام ما زال السجال حوله مستمراً لتشخيص أمراضه وتحديد أعراضه. وليس من البديهيات تحميل الطائفية فيه مسؤولية عيوبه، وقد أثبتت الثورة أن عيب النظام هو في تواطؤ حكامه على استبدال الدستور والقوانين بالمحاصصة.
في المقابل هناك بلدان أخرى عمل قادتها على تجميل نظامها الاستبدادي بحد أدنى من الحريات في مجال الفن وقطاع التعليم، على غرار ما كانت عليه الحال في مصر وتونس أيام الناصرية والبورقيبية، أو في المغرب في ذروة النهوض الثقافي مع دور ريادي لمحمد عابد الجابري استاذ هذا الجيل من المفكرين. غير أن مبدأ احتكار العنف من قبل الدولة لم ينتهك إلا في لبنان، وهذا ليس عائداً إلى هامش الحرية وحده الذي نعمت به الأحزاب السياسية بقدر ما يعود إلى حاجة الأنظمة العربية إلى إبعاد كأس التغيير، كل عن أرضه، وتوفير كل المتطلبات والموجبات لحصر هذا “الخطر” قدر المستطاع داخل حدود الأراضي اللبنانية ولو على حساب وحدة الوطن والدولة. غير أن “حساب الحقل لم يطابق حساب البيدر”، إذ سرعان ما انتشرت مفاعيل التجربة اللبنانية الرائدة في كل أنحاء الوطن العربي وأطلقت شرارة الربيع من تونس بوعزيزي، بحثاً عن الحرية والديموقراطية.
السؤال عما بعد التحرير جوابه انهيار مقاومة الشيوعيين بانهيار الاشتراكية. أما “حزب الله” والدولة الإسلامية فهما يعيشان لحظة انتظار صعبة وتكاليفها كبيرة عليهما وعلى بطولات المقاومين وعلى الوطن.
مقالات ذات صلة
نعم انتصرنا
هل يكتب التاريخ الحديث بمصطلحات طائفية؟
جامعة الأمة العربية ومحكمة العدل الشعبية