19 مارس، 2024

البرلمان ومناعة القطيع

24 تشرين الثاني 2022

https://www.nidaalwatan.com/article/125917

ظلّت عبارة القطيع غير مستحبة في وصف أي سلوك جماعي غرائزي لا يلحظ حيزاً لحرية الفرد ولا لخصوصيته ولا لملكة تفكيره، إلى أن انتشر فيروس «كورونا» وفرض على البشرية أن تكتسب المناعة إمّا بتلقيح الأفراد إمّا بترك الجماعة لمصيرها وقدرها، فمن «يصبه الوباء يمته» (زهير بن أبي سلمى) ومن يخطئه يكتسب «مناعة القطيع»، على ما سمعنا لأول مرة على لسان رئيسة وزراء ألمانيا أنجيلا ميركل، ثم تحوّلت الكلمة إلى مصطلح علمي وصار استخدامه بهذه الدلالة أمراً مألوفاً وشائعاً من غير أن ينزع عنه دلالته غير المستحبة.

ذكرني هذا المصطلح بنواب لبنان المعطِلين (بكسر الطاء)، إذ ليس أدق منه لوصف حالتهم كل خميس حين يُدعَوْن إلى انتخاب رئيس للجمهورية فيلبّون الدعوة ثم ينسحبون بعد الدورة الأولى، أو حين سمى بعضهم الأفضل من بين الرؤساء السابقين؛ وليس أكثر بلاغة وفصاحة منه للتعبير عن الموقف، بالجملة كتلة كتلة، لا بالمفرّق فرداً فرداً. في الحالتين لا يقرر النائب وهو بكامل قواه العقلية بل بالغريزة، ولا يتصرّف كممثل للشعب في الندوة البرلمانية بل يطلق العنان للسانه كناطق باسم كتلته أو حزبه، ما يعني أنّه يتخلى عن حقه في التفكير والتعبير فيقول ما تقول الجماعة بأمر من القائد أو الزعيم أو الرئيس.

حين يتلقى واحدهم من رئيس المجلس، بواسطة البريد أو بالهاتف أو بالنداء الشفوي، الدعوة إلى جلسة لانتخاب الرئيس، يمكن تصنيف التلبية في خانة القرار الفردي الحر، إلّا إذا أضمرت، على ما فَسْبَكَ الصديق كريم جابر، دعوة «الزملاء النواب إلى عقد جلسة لتأمين النصاب في الدورة الأولى وتعطيله في الثانية»، وهو أمر مستبعد.

شكا الشاعر محمد الماغوط لجدّه «الغبار والجماهير» واصفاً الرصيف الذي كان واقفاً عليه كيف «انسلَّ بين الأزقة كالأفعى وتركه وحيداً وقدماه تهتزان في الهواء كقدمي المشنوق»، فأحالتني الصورة الشعرية الجميلة هذه إلى مشهد بشع حين يتسلل المعطِّلون إلى خارج القاعة فيعلقون نيابة غير المعطلين أسبوعاً بعد أسبوع إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا.

أمّا عن الأفضل بين الرؤساء فنواب الأمة كانوا أسوأ حالاً من الجمهور المطيع والمطوَّع. لا رأي للفرد منهم. الرأي في النهاية هو للحزب أو للفريق السياسي. لا يميز النائب بين كونه ممثلاً للأمة وكونه عضواً في تنظيم سياسي. لكم أن تتخيلوا كيف أنّ نواباً ومواطنين رأوا أنّ الرئيس الأهم في تاريخ الجمهورية هو من وضع اللبنانيين على باب الجحيم. ومن موقع إيمانهم بالتعدد والتنوع عدّدوا كل الرؤساء المتعاقبين من بشارة الخوري حتى ميشال عون. لوحة مسطّحة لا نتوءات فيها، والكل رابح على طريقة مدرسة المعجبين (ecole des fans).

معايير المفاضلة عندهم مُستلة من الماضي، من اللغة الحربية التي تفاقم هزال المناعة النيابية. ينهلون من «مناعة القطيع» بدل أن يرفعوا وعي الجمهور إلى حيث يتحصّن الوطن ضد الغرائز الطائفية والحزبية والميليشيوية.

المفاضلة الصحيحة لا تستند إلى الماضي إلّا بعد نقد الحرب الأهلية للخروج من لغتها ومعاييرها ومصطلحاتها. وأفضل الرؤساء هو من عمل في الماضي على بناء الدولة، ومن سيعمل في المستقبل على إعادة بنائها.

لا فضل لرئيس على رئيس ولا لمواطن على مواطن ولا لحزب على حزب إلّا بانتصاره للدولة. دولة القانون والمؤسسات والديمقراطية والفصل بين السلطات وتداول السلطة والكفاءة وتكافؤ الفرص هي معيار المفاضلة ومعيار الانتماء الوطني ومعيار الدفاع عن السيادة.