21 نوفمبر، 2024

التاريخ لا يُكتب على المتاريس

4 آذار 2023

https://www.nidaalwatan.com/article/151309

ربما كان أحمد بيضون أول من أشار إلى «الصراع على تاريخ لبنان»، أي إلى تنافس الطوائف وتسابقها على كتابة تاريخ الحروب والخصوصيات. حتى أنّ بيضون بالذات دخل إلى الحلبة وسلاحه المضمر مشروع دولة مدنية علمانية «غير طائفية». لكن المؤرخين بدوا في خضم الحروب الأهلية المستدامة يكتبون التاريخ نيابة عن الطوائف وعن حلفائها في الخارج.

آخر هذه الإصدارات، «النزاع على جبل لبنان بين الدروز والموارنة» للدكتور مكرم رباح، وفي العنوان إشارة صريحة إلى أنّه ينظر إلى التاريخ بعين النزاع بين طائفتين. و»عهود رئاسية من شارل دباس إلى ميشال عون، أزمات وحقائق» (دار النهار للنشر) للدكتور كمال ديب، الذي بدا كأنه يكتب من خلف المتاريس، مع أنّ الحرب الأهلية أبعدته إلى ما وراء البحار.

كان ينبغي أو يفترض أن يبدأ التمرين العملي على بناء السلام يوم الإعلان عن تأسيس الجمهورية اللبنانية. بالفعل توقفت الحروب لكن مؤرخيها استمروا يكتبون عنها لا لأنّها استمرت حيّة في العقول الطائفية، بل لأنّهم هم أيضاً كانوا ميالين إلى اعتماد سرديات متعارضة في ما بينها ومتقاطعة مع امتدادات لتلك الصراعات داخل السلطة الناشئة.

من نماذج تلك الامتدادات ميل إميل إده الفرنسي الهوى في فترة التمرين إلى تغليب الطابع المسيحي على الجمهورية (كمال ديب). ومنها انقلاب كميل شمعون على الميثاق غير المكتوب الذي ينص على التخلي عن الانضمام إلى سوريا مقابل التخلي عن الالتحاق بالغرب. كان ذلك الانقلاب نذير انبعاث ذميم لذاكرة الحرب الدرزية المارونية أيام المتصرفية والسلطنة العثمانية.

تلك الذاكرة جعلت مناهج البحث الطائفية تقفز بسهولة فوق فترة التمرين الانتدابية وفترة الاستقلال الذهبية لتجد في الحرب الأهلية وما تلاها ذخيرة حيّة تغنيها عن تاريخ الصراعات أو تبرر العودة إليها كأنّ التاريخ يكرر نفسه مع أنه قد يتكرر لكن «على شكل مهزلة».

من بين الخلاصات الخاطئة التي ارتكبها المؤرخون المعاصرون اعتقادهم بأنّ تاريخ لبنان الحديث ممتد من «الإمارة إلى اتفاق الطائف» (عنوان كتاب لفواز طرابلسي)، وهو ما أجمع عليه مؤرخو اليسار واليمين وما بينهما، ومن بينهم كمال ديب.

التحليل الذي يرى الصراعات في مرحلة الاستقلال امتداداً لآليات الصراعات الطائفية في المتصرفية وفي نظام الملل العثماني يرتكب خطأ منهجياً، لأنه لم يلحظ فارقاً جوهرياً بين المرحلتين تمثل في دخول السلطنة وولاياتها في الحضارة الرأسمالية من بابها السياسي، أي من باب تأسيس الدولة الحديثة.

جمال نعيم وضع تعريفاً للدولة الحديثة بقوله: هي الدولة العلمانية الديمقراطية ودولة القانون والمؤسسات والحريات العامة وحقوق الإنسان والحرية والعدالة والمساواة. عبد الإله بلقزيز قال إنّها أهم اختراع بشري، وحين تحدث عنها رأى أنّ غيابها يعني العودة إلى الحروب الأهلية كما هي الحال في لبنان. غير أنّ القراءة الطائفية للمتغيرات أعجز من أن ترى أهمية الدولة في نشوء الأمم الحديثة.

لو أنّ المؤرخين كتبوا تاريخ لبنان استناداً إلى معيار الدولة لما وقعوا في إسقاط الطائفية، كظاهرة اجتماعية تعددية لا يخلو من وجودها أي مجتمع معاصر، على بنية سياسية قيد التكوين، ولكانوا شاركوا في نشر الوعي حول أهمية الدولة.

إعتماد الدولة معياراً لكتابة تاريخ لبنان المعاصر يحل مشكلة الكتاب المدرسي الموحد. هذا يفترض التخلي عن مصطلحات قديمة من بينها الكلام عن لبنان كبير ولبنان صغير واختيار نقطة البداية من إعلان الدستور ومرحلة التمرين على قيام الدولة.

كل ما قبل ذلك هو مما قبل الدولة والجمهورية.