28 مارس، 2024

“زعتر بري” ومبدعة من بلادي

14 نيسان 2023

https://www.nidaalwatan.com/article/162094

هي صوفيا فرحات، تخرّجت من السوربون، صارت باحثة وكتبت شعراً بالفرنسية. سأحاول أن أقدّمها لكم بقلمها. من «زعتر»، عنوان قصائدها المنشورة في دار برونو دوساي، سأجعلها تروي، بكلمات نقلتها من كتابها، مع شيء من التصرّف، حبهّا للحياة وكرهها للحرب وحنينها إلى الوطن.

«إن شئت أن تتعرف عليّ، قطّعِ الأسلاك الشائكة وارمها بعيداً، نقّب في أحشائي، ففي داخلي سيتفتّح زهر اللغة. حكايتي مسبوكة من حروب وزعتر. ولدت تحت القذائف وسأموت بين الكلمات. لعلّني أستطيع أن أفكّ الأسلاك وأكتب شعراً معطّراً بالزعتر. أهديه لوالدي لأحمل المشعل بعده في سباق البدل.

خلف الحدود الأخرى لطفولتي، جدّتي المقاوِمة نقلت السلاح في «لَكَنِ» العجين. جدّي صنع من القصب لأولاده أقلاماً للكتابة. أتى أبي من صلبهما يحمل أشعاراً وجداول ومقاومة وجعلني أتدفّق من «نبع الطاسة». عمّتي فدوى. لم تنقذها سنواتها الثمانية عشرة من البربرية. ظلّت تحلم برؤية البحر ولم تره. إنّها الحرب. لكي تتعرّفوا على عائلتي سأقدّم لكم كتاب أبي»سنابل العمر»، وهو من أجمل ما كُتب في تمجيد الفقر وحبّ القرى وأدب المعتقلات.

أبي كان يحلم بلبنان حرّ وعلماني، كرّس حياته من سنّ السادسة عشرة للمقاومة. أنا كنت طفلة أيام الاجتياح الاسرائيلي ونذرت حياتي للشعر.

تتالت الحروب والمنافي. تشقّق المجتمع اللبناني. الزعتر وحده ظلّ يزيّن الأمكنة في بيوتنا وفي منافينا القريبة.

عنف توالى بعد عنف. لكنّ خيطاً من الضوء يطلّ من بعيد لنرتق به آمالنا الممزّقة. حتى لو سقط المطر على رأسي زخّات زخّات، سأنهض بشعري المبلّل وسأتابع الرقص.

ها أنذا امرأة مليئة بالعنف بالرغبات. ها أنا ملء نفسي. الطيور تهاجر نحو الجنوب وأنا نحو الغرب، إلى باريس، مدينة النور، لعل قبساً منها يضيء سماء بيروت. حملت معي إلى باريس كوباً من الزعتر كالنشيد الغذائي.

صارت من الذكريات. منقوشة الزعتر ملفوفة بورق الجريدة، ونشرب صوت فيروز كالشاي المخمّر. كانت صباحاتنا كالقبل الناعمة على خدّ البحر الأبيض المتوسط.

حدود بلادي تمتد كالقوس على الأغصان العالية لرمّانة زرعها والدي وسقتها والدتي.

من يقدّم لك رمانة مقشّرة يبدِ لك حبّاً أصفى من ماء الجداول. الرمّانة مليئة بالمعاني. هي الثمرة الطيبة المذاق، وهي القنبلة في يد المقاوم، وهي مدينة أندلسية غناها لوركا. أبي لم يقل لي أحبّك. شغلته الحرب عنّي. لكنّه قشر لي أكواز رمان، في كلّ واحد منها مئات الكلمات، أحبك، ومن كلّ حبّة كان يطلّ عليّ فجر جديد.

متى سنزرع الريح يا أبي؟ عندما تنتهي الحرب. ومتى ستنتهي الحرب؟ عندما نزرع الريح ونحصد زعتراً برّياً. عندما تنتهي الحرب سيبرعم الشعراء بعد آخر شتوة.

تعالي إلى جلسة هادئة، أسكب لك كأساً من الشاي وتسكبين لي من كلماتك شعراً. هل نتذكّر من سقطوا في الحرب وذهبت دماؤهم سدى. لا لم تذهب سدى! ها هي تسيل حبراً في القصيدة. إذن أعطني كلّ ما تختزنه من حقد لأكتب شعراً ضدّ العنف وضدّ الحروب.

أحنّ إلى أرض هي أول الكون. إلى صباحات جرجوع في أيلول. شهر التين والعنب. أشتهي أن أذوق التين كأنّه الفجر وأن أمتصّ الفجر كأنّه كوز التين.

تعالي يا بيروت. سأنتزع عنك عقد لآلئك الطائفية وأحيط عنقك بعقد من عطر الزعتر. بوحي على كتفي، سيبزغ فجر جديد، ستولدين ساطعة حرّة علمانية. أنت يا بيروت، أنت حبيبتي».