26 نيسان 2023
المارونية السياسية ليست حزباً بل عقلية ونمط تفكير. صيغت بأقلام متعصبة ضد الإسلام العثماني والدولة السلطانية. بدل أن تخبو خلال مرحلة الاستقلال، راح يساعدها على النمو إسلام عربي قبل 13 نيسان ثم إسلام إيراني بعد الطائف.
منشأ الفكرة انتفاضة محقة ضد معاملة المسيحيين كأهل ذمة ورغبة بالاستقلال عن الحكم التركي. غير أن حاملي الفكرة لم يدركوا معنى التحولات الجذرية التي غيرت وجه العالم بأنظمته السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، ونقلت الكرة الأرضية من حضارة الأرض إلى الحضارة الرأسمالية.
معظم سياسيي المنطقة العربية ولا سيما مشرقها، بدل أن يبحثوا عن موقع لبلادهم داخل الحضارة الجديدة، سعوا وراء السلطة بل راحوا يستجدونها من دول أوروبا المتحاربة على أرضنا والمتنافسة على تركة الرجل المريض. الثورة العربية بقيادة الأمير فيصل طالبت هي الأخرى بحصة لها من ولايات السلطنة فبنت أحلامها على أوهام قومية، ولما اختزلت الأمة بمملكتين عراقية وأردنية لم يبق لمسلمي لبنان غير الأحلام والأوهام والظهور بمظهر الملتحق بالاستقلال اللبناني.
لا غلاة المارونية السياسية ولا معارضوها من الطفار الشيعة والتجار من أهل السنة أدركوا فحوى النقلة الحضارية لذلك راحت جيادهم تشد العربة كل في اتجاه؛ أخطرها اعتبار جمال باشا السفاح بطلاً قومياً لأنه علق المشانق لمن سماهم عملاء للغرب المسيحي الاستعماري ضد الدولة العلية. إذا كان هذا قد قيل بعد الطائف على لسان أستاذ في الجامعة اللبنانية، فكيف ستكون الحال قبيل الاستقلال؟!
لا هؤلاء ولا أولئك فهموا معنى الانتقال من ولايات عثمانية إلى الاستقلال، ومن نظام الملل إلى نظام دستوري برلماني ديمقراطي. الغلاة رأوا أنّ التاريخ ينتقم لهم من اضطهاد دام قروناً، فيما الجهلة على الضفة الأخرى فسَّروه عدواناً على الخلافة الإسلامية. فماذا سيكون مصير الجمهورية إن هي وقعت بين شاقوفي التعصب والجهل؟
كادت تنطفئ الفكرة في العهد الاستقلالي الأول، لكنها تجددت مرة أولى بعد أن أشعل الرئيس شمعون فتيلها بانحيازه إلى حلف بغداد ضد المد القومي العربي، ومرة ثانية حين خاض الحلف الثلاثي (شمعون وإده والجميل) معركة ضارية ضد التجربة الشهابية، وثالثة في كراسات الكسليك التي شكلت التمهيد النظري لمواجهة العروبة بتصويرها «عصبية دينية وعنصرية جديدة وأمبريالية توسعية تعسفية جديدة وجاهلية جديدة» وعممت أفكاراً عن التعددية والحضارتين وعن التقسيم والفدرالية والوطن القومي المسيحي، وهي شعارات تعاود كلها الظهور كلما احتدمت أزمات المنطقة وانفجرت في لبنان.
من الطبيعي ألا يحظى تأسيس الكيان اللبناني في المرحلة التمهيدية بإجماع مواطنيه، وأن يشهد نشوؤه صراعاً بين متحمسين له ومعترضين عليه. ومن الطبيعي أن يحمل الوطن الجديد إسم أكبر مناطقه وأكثرها تطوراً، لكن من غير الطبيعي، في ظل دستور يساوي بين المواطنين، أن تتصرف المارونية السياسية وكأنها الطرف الأصلي في بناء الجمهورية وأن «الأقضية الأربعة» استتبعت وألحقت لحاجة الجبل إلى موانئ وإلى مناطق زراعية.
بديلاً من لغة المساواة الدستورية بين المواطنين سادت لغة المشاعر، كالخوف والغبن والشراكة والجناحين والتعايش وصار المسلم والمسيحي جارين لا مواطنين، فتحولت المساواة إلى محاصصة مقيتة والشراكة الإنسانية إلى شركة تجارية يتنافس فيها ممثلو الطوائف على جني الأرباح ويتبارى زعماء الطوائف السياسيين والدينيين في الدفاع عن الرئاسات لا عن الدستور.
المارونية السياسية جعلت فضل التأسيس منّة، واستبدلت الانصهار باللّحمة والمزيج بالخليط والوطن بالساحة. الوطن لا يكون لطائفة، وصدق المتنبي حين قال «فإنّ في الخمر معنى ليس في العنب».
مقالات ذات صلة
جامعة الأمة العربية ومحكمة العدل الشعبية
نقول لحزب الله ما اعتدنا على قوله
الإذعان بعد فوات الأوان