31 أيار 2023
العروبة موضوع سجالي في علاقتها بلبنان ومسيحييه منذ ما قبل استقلاله، مثلما هي في علاقتها بمسلميه وبالإسلام عموماً منذ ولادتهما. وقد ازدادت هذه العلاقات تعقيداً بعد الاستقلال ولاسيما بعد 13 نيسان 1975 وانفجار الحرب الأهلية في لبنان.
خطآن اثنان تحدرت منهما أسباب صراعات لاحقة. الأول هو أن العروبة ظهرت كحاجة للمسيحيين ليتحرروا من قهر السلطنة العثمانية. لذلك بدا روادهم الأوائل المنادون بالعروبة، وبصرف النظر عن صدق النوايا، كأنهم كانوا يتوسلونها حضناً آمناً ضد السلطنة، لكنهم زرعوا بذلك أول بذرة في نهج الاستدراج الذي أتقنته القوى السياسية كلها بعد الاستقلال، ولاسيما في الحرب الأهلية.
يتمثل الخطأ الثاني في فهم مغلوط لمعنى القهر. قهر السلطنة ظاهرة سياسية وليست دينية، وهي كانت تمارسه ضد رعاياها من جميع الديانات، وإن كانت خصت المسيحيين بجرعة إضافية منه فلأنهم كانوا سباقين في محاولة الإفلات من قبضتها بمساعدة قوى خارجية متعددة الجنسيات فرنسية وإنكليزية وروسية، ومصرية أيضاً في مرحلة من المراحل.
من جهة أخرى بدا النزاع بين السلطنة والبلدان الأوروبية والحروب بين أساطيلهما داخل مياه المتوسط كأنه نزاع ديني بين غرب مسيحي وشرق مسلم، فبدل مواجهة الاستبداد حاول الإسلام السياسي تلطيفه، اعتقاداً منه أن سبب تخلف المسلمين يعود إلى فهم مغلوط للنص الديني، لذلك توقف برنامجه للإصلاح عند اعتبار السلطنة ممثلاً شرعياً للخلافة الإسلامية، ورأى في إلغائها اعتداء على الإسلام.
من هذا الفهم المغلوط للتاريخ تحدرت أفكار مغلوطة حولت الحرب الأهلية إلى حرب طائفية. فقد ساد الاعتقاد بإن الجمهورية اللبنانية هي امتداد لما سبق من الحقب، وراح أنصار الحقب يستحضرون تاريخ لبنان الكنعاني أو الفينيقي أو العربي أو الإسلامي، فرفعت مصطلحات وشعارات مثل الإسلام هو الحل، أمة عربية واحدة، الذمية والوطن القومي المسيحي.
لم ينتبه هؤلاء ولا أولئك إلى أن لبنان بات وطناً لا مجموعة ولايات، وأن الاستقلال هو حد فاصل بين مرحلتين وحضارتين، دولة الاستبداد القروسطية والدولة الديمقراطية، وأن الاستبداد السلطاني لم يكن يميز ولا يفاضل بين مسلم ومسيحي، كما أن الانتقال إلى الديمقراطية ما كان له أن يتحقق إلا بفصل سلطة الدين عن سلطة الدولة. هذا ما لم يمارسه ولم يؤمن به أبطال الحرب الأهلية اللبنانية العلمانيون منهم والطائفيون على حد سواء.
عروبة ما بعد الاستقلال كانت أشد فتكاً. اتفاق القاهرة، أي منازعة الدولة اللبنانية على سيادتها، قرار عربي بمباركة المارونية السياسية. بعد 13 نيسان وزع العرب عطاياهم من المال والسلاح على فريقي الحرب الأهلية. الحزب الشيوعي ذيل صور شهدائه بعبارة سقطوا دفاعاً عن عروبة لبنان فيما الحزب كله سقط ضحية عروبته من فرج الله الحلو حتى جمول. البعث العربي في سوريا وشقيقه في العراق أشعلا حرباً مسيحية مسيحية. التدخل العربي لحماية المسيحيين سرعان ما انقلب دافعاً إياهم إلى طلب الحماية من إسرائيل. وانتهت الجولات بقصف متبادل بالشتائم والاتهامات.
العروبيون مثل سائر المشاركين في الحرب الأهلية يطالبون الآخرين بنقد تجربتهم ويستهولون نقد بطل القومية العربية جمال عبد الناصر، وهو بطل قومي حقاً، وينكرون أنه بشر ويحتمل الخطأ.
في آخر مؤتمرات القمة، اكتست العروبة حلة جديدة لا تستند إلى تقديس الماضي والحنين إليه، بل إلى نقده. لا شك أن ماركس نادم على أن فكرة نقد القديم كشرط لبناء الجديد حلت في الجمهوريات الوراثية لا في أنظمة السلالات.
مقالات ذات صلة
نقول لحزب الله ما اعتدنا على قوله
الإذعان بعد فوات الأوان
اليسار والإسلاميون