أعضاء البرلمان اللبناني الذين، باتفاقهم على تعديل الدستور اللبناني في الطائف عام 1989، أوقفوا الحرب الأهلية، هم أنفسهم كانوا نواباً عند انفجارها في 13 نيسان 1975. وظلوا يمددون لأنفسهم ولاية بعد أخرى حتى أول انتخابات أجريت على أساس تلك التعديلات عام 1992.
قادة الحرب الكبار خرجوا من تحت قبة البرلمان وأنشأوا ميليشيات وبنوا متاريس. ظلوا يحترمون «آداب» الحروب ويتواصلون إلى أن آلت القيادة إلى سواهم في الداخل، وتحكمت بإدارتها قوى من خارج البرلمان ومن خارج البلاد، فتدهورت الأمور «كجلمود صخر حطه السيل من علٍ»(امرؤ القيس)، وتحول النواب إلى متفرجين، إلى أن تعب المتقاتلون. للميليشيات مشاريعها، أما النواب فلم يكن يشغلهم غير الاجتماعات الروتينية والواجبات الاجتماعية التي حولت بعضهم إلى معقبي معاملات. ذلك لا ينفي وجود قامات شامخة بينهم من أهل العلم والرأي وفقه القانون من أمثال حسن الرفاعي وإدمون رزق.
تناط بالمجالس النيابية مهمات التشريع ومراقبة الحكومة ومحاسبتها. تقوم فلسفة التشريع على تحديث القوانين بما يتوافق مع تطورات الحياة والحاجات والاكتشافات العلمية والعلاقات بين الدول، غير أن برلماننا كان يعتمد فلسفة أخرى قوامها تقديس الدستور وربط التحديث بحاجات السلطة لا بحاجات المجتمع. لذلك تضاءلت قدرته على الاستشراف وعلى التخطيط فألغى وزارة التصميم، ولم يتنبّه إلى مخاطر اتفاقية القاهرة على السيادة الوطنية. أما المراقبة والمحاسبة فكانت تقتصر على انتقادات خطابية. فما من مرة نزع المجلس النيابي الثقة من حكومة أو من وزير فيها، وما من مرة امتنع عن الموافقة على ميزانية أو على قطع حساب. ففي برلمانات ما قبل الحرب الأهلية زرعت بذرة انتهاك الدستور حيث لم يكن يحترم مبدأ الفصل بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، ثم نمت البذرة وأينعت بعد الطائف، حين ألغت السلطات الميليشيوية، برعاية نظام الوصاية، استقلالية السلطة القضائية. النظام اللبناني لم يكن برلمانياً ولا ديمقراطياً وذلك خلافاً لما تشير إليه النصوص. فقليلة هي الحالات وربما نادرة، التي كان فيها البرلمان سيد نفسه، منها يوم انتخاب سليمان فرنجية الجد رئيساً. وفي سائر الحالات كان طوع البنان على طريقة الأغنية، «قصقص ورق ساويهم ناس»، فيتشكل بحسب القانون المعتمد على ذوق رئيس الجمهورية وتزوير الاقتراع بالغرف السوداء. هذا حصل في عهد الرئيس شمعون كما في أيام سطوة جهاز المخابرات في الجيش اللبناني، المكتب الثاني. أمران عالجهما البرلمان بطريقة خاطئة، وهما في أساس الانفجار الأول عام 1958 والثاني في 13 نيسان 1975 والثالث في 17 تشرين الأول 2019، الطائفية وقانون الانتخاب. أما الجريمة بحق الدولة فهي العفو العام عن جرائم الحرب.
الطائفية ظاهرة اجتماعية صحية وطبيعية في المجتمعات والأنظمة الحديثة التي يعيش فيها الرأي والرأي الآخر تحت سقف القانون، غير أن أهل النظام اللبناني جعلوها جزءاً من آليات عملهم وحولوها إلى محاصصة بين الزعماء الروحيين والسياسيين. لرئيس الجمهورية مدراؤه العامون. للآخرين صناديق ومزاريب لهدر المال العام. للمؤسسات الدينية قضاؤها وامتيازاتها المالية. كل ذلك جعل التعدد الطائفي نقمة بدل أن يكون التنوع نعمة على البلاد.
في الطائف، استخدموا للإصلاحات دستورية مفردات من قاموس المحاصصة، وركزوا اهتمامهم لا على تطوير النظام بل على توزيع الصلاحيات، واقترحوا قانوناً سرعان ما تخلوا عنه لتنتخب على أساسه برلمانات لا بالتشريع بل بانتهاك الدستور.
مفتاح الحل للأزمة اللبنانية المستدامة قانون انتخاب عصري يعيد تشكيل السلطة وبناء دولة القانون والمؤسسات.
مقالات ذات صلة
جامعة الأمة العربية ومحكمة العدل الشعبية
نقول لحزب الله ما اعتدنا على قوله
الإذعان بعد فوات الأوان