“أشعر أني أُهِنْتُ! أهنت إلى حدّ لا يوصف”.
نقلت هذه العبارة عن صفحة أحد الأصدقاء كتبها في أعقاب الانتخابات النيابية. هي تلخص مشاعر قسم من اللبنانيين ربما لا يمثلون الأكثرية العددية، لأن للدهماء رأياً مخالفاً،
1- فاز بعضهم بأصوات عشرات الآلاف فيما فاز آخرون بأصوات العشرات فقط. كما بلغ الحاصل الانتخابي للائحة في بعض الدوائر خمسة آلاف صوت ، فيما بلغ أكثر من عشرين ألفاً في أخرى. هذا يعني أن القانون لم يعدل بين المرشحين ولا بين اللوائح، وأن الفائز يكون قد فاز بقوة القانون لا بقوة أصوات الناخبين. وأن تزوير الإرادة الشعبية لم يحصل بسبب ثغرات في الإجراءات التنفيذية للقانون بل بسبب المناورات الانتخابية التي أتاحت للمرشحين أن يتلاعبوا لا بأصوات الأموات فحسب بل بأصوات الأحياء أيضاً
2- أقامت كل الكتل النيابية احتفالات بيوم النصر العظيم، وصدحت حناجر القادة وارتفعت قبضاتهم أمام الحشود كما لو أنهم هزموا النازية والفاشية في الحرب العالمية. بالمقاييس التي اعتمدوها، كلهم على حق، لأن معيار الانتصار عند كل منهم لا يتحدد بالمصلحة الوطنية العليا، بل بقدرة كل منهم على تجميع الطائفة حول زعيمها في مواجهة أي خرق محتمل من “عملاء” للطوائف الأخرى، إن لم نقل من للدول.
3- تحالف المتنافسون على تمثيل الطائفة، لا على تمثيل الوطن، مع بعضهم في بعض الدوائر، وتواجهوا في دوائر أخرى، ما يعني أن منسوب المبادئ انخفض إلى حده الأدنى، كما يعني انهياراً لا بمنظومة القيم السياسية فحسب بل والأخلاقية أيضاً.
4- “استعادة حقوق المسيحيين” شعار لا يحمي الحقوق بل هو الذي يفرط بها على ما بينت تجربة الحرب الأهلية ونتائجها، لأن حماية الوجود المسيحي في المنطقة ليست شأناً مسيحياً بل واجب وطني. والشعار مناورة رخيصة لتضخيم كتلة التيار العوني النيابية والتغطية على الفساد والتمويه على تخريب إدارات الدولة وسرقة المال العام.
5- أوقعت القوات اللبنانية نفسها ضحية التنافس على “التمثيل المسيحي” فتوهمت أنها كسبت السباق بحصولها،”منفردة” على زيادة في حجم كتلتها. كان ذلك على حساب موقفها النقدي من تجربة الحرب وعلى حساب علاقاتها التحالفية مع الأحزاب والشخصيات، وخصوصاً على حساب سياسة الانفتاح التي دشنتها بعد الطائف.
6- يكاد رفيق الحريري الوحيد، بين القوى والأحزاب السياسية اللبنانية، الذي عمل على إعادة بناء الوطن والدولة، في مواجهة مناكفات محلية كل همها تكريس نظام المحاصصة، ومشاريع إقليمية لا يعترف قاموسها بالكيان اللبناني لا وطناً ولا دولة. باغتياله تحرر خصومه وتعاونوا على غير “البر والتقوى، و”تفرق عشاقه” ولم يحرصوا على ما أرساه بزعامة وثروة كانتا، في آن واحد، باباً للسخاء الشخصي وللانفتاح السياسي على مكونات الوطن، ولإقامة أوسع العلاقات العربية والدولية. المارونية السياسية المحدثة التي لم تبرأ من “الإبراء المستحيل” توهمت أن رفيق الحريري هو الذي اختلس حقوق المسيحيين، وهي تصرفت في الانتخابات انطلاقاً من هذا الوهم، لتكسب مقاعد إضافية في المجلس النيابي، وأبواباً إضافية للتنافس على المحاصصة، فتضيّع بذلك ليس فقط حقوق طائفة بعينها بل حقوق الوطن والمواطنين على اختلاف طوائفهم.
7- تسلّل إلى ساحة المجتمع المدني نشاط من مخلفات الأحزاب اليسارية، الممتنعة (الممانعة) عن قراءة التاريخ والتجربة واستخلاص دروس مفيدة منهما، على رأسها الخروج نهائياً من لغة الحرب وتحالفاتها، والدخول بصدق في ورشة إعادة بناء الوطن والدولة. كان يمكن للمجتمع المدني أن يحصل على نتيجة أفضل لو لم تكن لوثة العصبية الفئوية سبباً في تشتيت القوى وتفريق شمل المعارضة.
8- الممثل الشرعي الوحيد لليسار اللبناني، الحزب الشيوعي، أعلن هزيمته بالضربة القاضية. الجهل الطبقي جعل “الرفاق”، داخل التنظيم أو خارجه، يدينون من ترشح على إحدى لوائح السلطة ويهنئون آخر فاز على لائحة، هي الأخرى من لوائح السلطة، ويرجمون بالتهم المرشح الشيوعي في منطقة ويقترعون له في منطقة أخرى، ويروجون للتحالف في دائرة وللصفاء اليساري في أخرى. كل ذلك بسبب أداء قيادات أخطأت في فهم آليات قانون الانتخاب وفي قراءة اللوحة الانتخابية؛ وهي ستخطئ، من غير شك، في قراءة الأرقام والنتائج النهائية، كأنها، وهي تمانع في إعلان استقالتها، ستعلن، من غير أن تدري، الموت السريري للحزب.
9- رغم كل ذلك، الانتخابات تمرين على الديمقراطية لا يستغنى عنه، بل ينبغي التمسك به رغم كل الشوائب، ورغم أن التمثيل السياسي بقي على حاله، من غير تبديل، وإن تبدلت الوجوه. بالديمقراطية وحدها يمكن للبنانيين أن يظلوا عاقدي الأمل على إعادة بناء الوطن والدولة، وطناً سيداً حراً مستقلاً ودولة هي دولة القانون والمؤسسات والديمقراطية والعدالة والكفاءة وتكافؤ الفرص. من أين يأتي مثل هذا الشعور؟
10- تعزيزاً للديمقراطية، وتحضيراً لدورة الانتخابات المقبلة عام 2022،إن لم يمدد المجلس لنفسه كما فعل سلفه، لا بد من إجراء تعديلات على قانون الانتخابات، لمعالجة الثغرات التي ظهرت خلال التطبيق.
أكدت التجربة أن النظام النسبي أفضل من الأكثري، بل هو وحده الذي يصلح كنظام انتخابي في لبنان لأن الأكثري لا يحفظ للأقليات حقوقها، بل هو يلغي الآخر مهما بلغت نسبة الأصوات التي يحصل عليها. أما النسبية فهي ضمانة لتمثيل القوى السياسية على اختلافها وتنوعها. كما أكدت أن الصوت التفضيلي لا يقل أهمية عن مبدأ النسبية، لأنه يحرر المرشح من استبداد رئيس اللائحة الذي كان يتعامل مع مرشحي لائحته كأنه يتعامل مع حرس الحماية من مرافقيه، يضم من يشاء ويستبعد من يشاء ويحدد سعر سلعة الترشيح كما يشاء، حتى أن بعضهم يتحول، بعد فوزه، من ممثل للأمة إلى ممثل للأمة إلى ناطق باسم رئيس اللائحة. غير أن حصر الصوت التفضيلي في الدائرة الضيقة جعله صوتاً طائفياً وجعل أعضاء اللائحة يتعاونون لتأمين الحاصل الانتخابي ثم يتنافسون إلى حد الخصومة، وعزز تجارة الترشيح بدل أن يلغيها. لذلك نقترح عليهم المبادئ التالية وهي مقتبسة، مع بعض التصرف، من مشروع أعده حسن سعد ونشر في الصحف.
– لبنان دائرة واحدة. عدد النواب 128، موزعين على الأقضية بحسب قانون الستين. الدائرة الواحدة تضع المرشح أمام حاجته إلى أصوات مواطنين من كل لبنان، وبهذا يستطيع المواطن أن يمارس حقه بصفته مواطناً، ويكون النائب نائباً عن الأمة لا عن دائرة أو منطقة أو طائفة، لأن الأصوات التي يمكن أن تؤمن له الفوز هي أصوات لبنانيين من كل المناطق والطوائف.
– التصويت على أساس اللوائح المغلقة، مكتملة أو غير مكتملة، من غير اشتراط العدد لغير المكتملة، لأن حاجة اللائحة لأصوات من كل المناطق ومن كل الطوائف هي التي تلزم المرشح بالتعاون مع أكبر عدد من المرشحين ومع أوسع تمثيل جغرافي وطائفي.
– يقترع المواطن للائحة مع صوتين تفضيليين أحدهما مسلم والآخر مسيحي ويحق له أن يختارهما من خارج الدائرة الانتخابية التي ينتمي إليها. الصوت التفضيلي يمنح المواطن الحق بترتيب المرشحين داخل اللائحة، بدل احتكاره من قبل رئيس اللائحة في الأنظمة الانتخابية السابقة.
– من الآن حتى تطبيق الطائف وانتخاب مجلس نيابي من خارج القيد الطائفي، وإنشاء مجلس شيوخ يمثل الطوائف، يتم الاقتراع في صناديق طائفية لتسهيل عملية الفرز على ثلاث مراحل لمعرفة النسبة المئوية من الأصوات لكل لائحة، والنسبة المئوية لكل طائفة في اللائحة، وعدد الأصوات التفضيلية لكل مرشح.
– تفادياً لتعقيدات احتساب الأصوات في قانون 2018 ، يتم ترتيب المرشحين بالتدرج بحسب عدد الأصوات التفضيلية التي حصل عليها كل منهم. على أساس ذلك، تلغى الانتخابات الفرعية ويملأ الشغور من اللائحة ذاتها بالتدرج.
مقالات ذات صلة
جامعة الأمة العربية ومحكمة العدل الشعبية
نقول لحزب الله ما اعتدنا على قوله
الإذعان بعد فوات الأوان