21 نوفمبر، 2024

الديمقراطية، نقد المصطلح في الأدب اليساري

5 – الديمقراطية: نقد المصطلح في الأدب اليساري

يجمع الباحثون على أن مصطلح الديمقراطية مشتق من كلمتين، ديموس وتعني الشعب، وقراطوس وتعني السلطة، ويجمعون على أنه من أصل يوناني اعتمدته أثينا في القرن الخامس قبل الميلاد. وقد حافظ المصطلح خلال خمسة وعشرين قرناً على جزء أساسي من دلالته القاموسية التي تعني في ما تعنيه الحؤول دون استفراد الحاكم بالحكم ودون استئثاره بحق اتخاذ القرارات، وبالتالي، توزيع هذا الحق على أفراد الشعب. غير أن عملية التوزيع هذه وآلياتها لم تكن موضع إجماع في أي وقت خلال هذه القرون الطويلة، بل كانت عرضة للتبدل والتغير، وللتعطيل في معظم الأحيان، إلى أن جاءت الحضارة الرأسمالية التي أضافت إلى حق أفراد الشعب بالمساواة حقهم بالحرية، وجمعتهما إلى الإخاء في شعارات الثورة الفرنسية الثلاثة.
الدلالة الحديثة للمصطلح التي تعنينا يعود منشأها الفلسفي إلى الكوجيتو الديكارتي، إلى العقل، إلى حرية الإنسان الفرد: أنا أفكر إذن أنا موجود. ويعود منشأها السياسي إلى الثورة الفرنسية التي استبدلت النظام المَلَكي، أي نظام الاستئثار والوراثة، بالنظام الجمهوري، أي النظام القائم على حق الشعب في اختيار الحاكم وفي مراقبته ومحاسبته. غير أن الولادة العسيرة للديمقراطية الحديثة سلكت مساراً طويلاً ومعقداً على امتداد قرنين من الزمن تقريباً، ولم تستقر على صيغتها المعاصرة إلا بعد الحرب العالمية الثانية.
صحيح أن الديمقراطية في أدنى مراتبها أعطت الشعب الحق في اختيار الحاكم، لكن مصطلح الشعب لم يكن يحمل الدلالة ذاتها أيام الديمقراطية اليونانية. فمن ناحية أولى اكتسب مصطلح الشعب، مع عدد من المصطلحات المنتمية إلى شجرة عائلة واحدة لم تكن معروفة قبل الثورة الفرنسية، دلالة جديدة بعدها، كالعلمنة والوطن والسيادة والقانون والدولة المدنية وأجهزتها والفصل بين السلطات. ومن ناحية ثانية، كان يمنح هذا الحق لفئات من الشعب دون أخرى، للسادة دون العبيد في أثينا القديمة، للرجال دون النساء إلى ما قبل منتصف القرن العشرين، وظل يحرم منه، بعد الثورة الفرنسية، الأميون والنساء والذين لا يدفعون الضرائب . حتى في الديمقراطيات الحديثة لا تزال تعتمد صيغ من الديمقراطية غير المباشرة يوكل بموجبها المواطن من ينوب عنه في اختيار الحاكم، كانتخاب الرئيس من قبل المجلس النيابي، أو كتصويت المفوضين في الولايات المتحدة الأميركية. وهكذا بدا كأن التعديلات انحصرت في الآليات المتبعة لممارسة هذا الحق، وفي تحديد هوية من يحق لهم ممارسته، ما جعل الاعتقاد بحصر الديمقراطية في حق الاقتراع يسود ثم يترسخ بفعل إجراءات “خبيثة” يلجأ إليها الحاكم لينتزع هذا الحق من أصحابه أو ليفرغ الديمقراطية من مضمونها الحقيقي.
إذا لم تكن الديمقراطية صندوق اقتراع فحسب، فماذا عساها تكون؟ سؤال أجاب عليه باستفاضة الفيلسوف الفرنسي ألان تورين في كتاب يحمل عنوان، ما هي الديمقراطية؟ ( ترجمة حسن قبيسي، منشورات دار الساقي، ط2،2001)، وفيه يختصر الكاتب خلاصة التجربة الديمقراطية الفرنسية والأوروبية منذ ظهور نسختها الحديثة قبل قرنين من الزمن.
لا يكتفي الكاتب بتعريف واحد بل ولا بعشرات، إذا جاز لنا تصنيفها في خانة النعوت والخصائص والمميزات، فإن كلاً منها يصلح أن يكون بمثابة تعريف. سأحاول أن أستخرجها من صفحات الكتاب المئتين والستين، وأن أصوغ منها، بنصها الحرفي أو معدّلاً، مادة تكفي لتوضيح دلالات عديدة متنوعة للديمقراطية تجاهلتها الأصوليات والأنظمة الاستبدادية عمداً، لتصوّر نفسها أنها هي حصن الديمقراطية وحاميها الأمين، لكن، لتمارس، في الحقيقة، عبر صناديق الاقتراع، أكبر عملية تشويه وسطوٍ على الديمقراطية وقيمها.
قبل صناديق الاقتراع، الديمقراطية هي، ببساطة، “أن نتعلم كيف نعيش معاً رغم اختلافاتنا، أن نبني عالماً منفتحاً على أكبر قسط من التنوع، ألا نفرّط بالوحدة ولا بالتنوع… فالديمقراطية هي سياسة الاعتراف بالآخر” (ص8)، و”احترام الحريات والتنوع” (ص21)، “ولا مكان للديمقراطية في مجتمع يتناهبه تدخل الدولة السلطوي والمقاومات الطوائفيه، لأن ذلك يحوّل الدولة إلى دولة توتاليتارية” (ص25)، إذ ” لا يجوز إطلاق صفة الديمقراطية على ستالين لمجرد أنه كان”ثورياً” أو على هتلر لمجرد أنه فاز في الانتخابات” (ص27)، لأن هناك ” وحشاً توتاليتارياً يعسّ بين التحرر والحريات” (ص 28). ” وليس هناك مبدأ ذو أهمية مركزية، بالنسبة لفكرة الديمقراطية، أشد من أهمية الحد من سلطة الدولة التي ينبغي عليها احترام الحقوق الإنسانية الأساسية (ص53) وعلى رأسها حرية اختيار المحكومين لحكامهم” (ص95)، ولا وجود للديمقراطية “ما لم تكن مزيجاً من الحرية والمساواة في الحقوق” (ص101). “الديمقراطية ثقافة، لا مجرد مجموعة من الضمانات المؤسسية”(ص168)، وتفقد من معناها “إذا لم تتغلغل الذهنية الديمقراطية في جميع جوانب الحياة المجتمعية المنظمة، من المدرسة إلى المستشفى، ومن المنشأة إلى البلدة” (ص191)، و”لا يسع المرء أن يكون ديمقراطياً ما دام يؤمن بمبدأ أعلى مركزي، سواء سواء كان هذا مشيئة إلهية أو تراثاً قومياً أو العقل أو اتجاه التاريخ” (ص195)، ولهذا يمكن القول إن ” الديمقراطية والدين ينتميان إلى عالمين لا يقلان في تضاربهما عن تضارب الحداثة والتقليد(ص224)
الديمقراطية بمعناها الحديث متحدرة من شجرة عائلة, ولا وجود لها من غير الدولة. الدولة التي تحميها من غير أن تتسلط عليها. الدولة هذه متحدرة هي الأخرى من الحضارة الرأسمالية، وهنا بالضبط يكمن مأزق الأصوليات التي إن ألزمت نفسها بالعمل من داخل هذه الحضارة ستجد نفسها ملزمة بدولة هذه الحضارة، أي بالدولة الديمقراطية، ولهذا ارتأت، لحل مأزقها، أن تشن حرباً على الدولة ولا سيما على الديمقراطية في هذه الدولة، فابتكرت أساليب وطرقاً شتى أفرغت بواسطتها الديمقراطية من محتواها، إذ هي تعطي الشعب، بيدٍ، الحق باختيار ممثليه وحكامه، ثم سرعان ما تنتزعه منه باليد الأخرى، إما بالمركزية الديمقراطية المعروفة في التنظيم اللينيني، أو بالاستفتاء بدل الانتخاب كما كانت الحال في سوريا البعث ومصر الناصرية ,وسائر الأنظمة القومية، أو في مصلحة تشخيص النظام في إيران، وهي كلها تمنح الحاكم ما يشبه حق الفيتو ضد إرادة الأكثرية إذا ما تعارضت هذه الإرادة مع توجهاته، وفيها كلها يجري تنصيب الحاكم، حتى في البلدان التي تعتمد صناديق الاقتراع، بتعيينه وفرضه من قبل الحزب الحاكم، وبإلغاء مبدأ التنافس، أي بإلغاء الخيار الحر للناخبين.
قد يعترض معترض فيطرح أسئلة مشروعة: ما المعيار الذي يجعل مواصفات آلان تورين للديمقراطية هي المواصفات الصحيحة؟ ألا يمكن أن تكون مستخلصة من التجربة الأوروبية ومناسبة لها وحدها؟ أو أن تكون جزءاً من الترويج للسياسة الاستعمارية في بلادنا؟ أليس علينا أن نبتكر مواصفات للديمقراطية خاصة ببلادنا، أو أن نستحضر من تاريخنا ما يناسب تقاليدنا كالشورى في دولة الخلافة الإسلامية مثلاً؟
ربما كان الجواب على هذه الأسئلة متضمناً أعلاه في الكلام عن الحضارة الرأسمالية. فمما لا شك فيه أن كل حضارة من الحضارات العالمية تأثرت بما سبقها أو زامنها، وتركت تأثيرها في ما بعدها، في العادات والتقاليد والمعارف والمعتقدات وأساليب العيش والإنتاج. غير أن خصوصية الحضارة الرأسمالية تتمثل في كونها، دون سائر الحضارات الأخرى، حضارة كونية الطابع، وفي كونها قامت في الأساس على اقتصاد السوق، السوق التي لا تحدها حدود وطنية أو قومية أو أممية. ومن الطبيعي أن تكون هذه الحضارة قد نحت منحى التوسع والانتشار الجغرافي الذي اتخذ شكل الاستعمار في جانب منه، لكن مبتغى مشروعها من البداية هو تعميم التجربة في التصنيع وفي العلوم كما في السياسة والتواصل والاعلام، كما في الحروب، مهما كان ثمن ذلك باهظاً، ولو على حساب دماء الشعوب، مثلما حصل مع السكان الأصليين من الهنود الحمر في الولايات المتحدة الأميركية. لقد مضت هذه الحضارة كالسيل الجارف، فوقعت شعوب أوروبا وأميركا، في البداية، ضحايا حروب أهلية داخل القارة، إما بسبب التنافس بين الرأسماليات والقوميات الأوروبية، إما بسبب رفض شعوب أخرى، كالهنود الحمر، الدخول إلى “حلبة الحضارة” (التعبير لماركس). ولم تتوقف القوميات والرأسماليات الكبرى عن خوض حروبها التنافسية إلا بعد أن دفعت، مع شعوب القارات الأخرى، الثمن كبيراً جداً جداً في حربين عالميتين، لكنها استخلصت من تجاربها الدموية درساً في إدارة الأزمات، قوامه أن العنف ليس سبيلاً صالحاً لحل النزاعات، وبديله الديمقراطية والحوار بين المختلفين.
قد يقول قائل إن الرأسمالية لم تعمم الدرس المستخلص على مستعمراتها التي استمرت الحروب تندلع فيها بعد استقلالها. هذا صحيح من دون شك. غير أن الدول الاستعمارية التي سبق لها أن تطاحنت قومياتها استفادت من التجربة وأوقفت لغة العنف فيما بينها. وقد يقال إنها لم تبذل جهداً لتعميم الدميقراطية يوازي جهودها لتعميم نمط الانتاج الرأسمالي، وهو قول صحيح، لكن الحروب استمرت تنشب داخل البلدان التي رفضت الدخول إلى رحاب الحضارة الرأسمالية، إما بالانكفاء والتقوقع على ماضيها كما في مشاريع الأصوليات الاسلامية، إما بالقفز فوق الرأسمالية نحو حضارة جديدة بشر بها الفكر الاشتراكي وفرضت نفسها على الساحة الدولية على امتداد القرن العشرين، إما بإقامة توليفة سياسية جمعت فيها أسوأ ما في الرأسمالية، الاستثمار الجشع، وأسوأ ما في الأنظمة الاشتراكية والإسلامية، الاستبداد. في أنظمة الممانعة هذه تعصف حروب أهلية نعتقد أنها لن تتوقف، على ما تستشرفه فرضيتنا،) النصف الأول من استشرافنا كان صحيحاً، وقد قدمنا الأدلة في كتاب، هل الربيع العربي ثورة) إلا إذا استبدلت أنظمة الاستبداد القائمة فيها بأنظمة قوامها الدستور والقوانين وتداول السلطة. هذا ما بينته تجارب الانتقال إلى الديمقراطية في البلدان الاشتراكية سابقاً، وفي كل بلدان أميركا اللاتينية وإفريقيا، وكذلك في بدايات تجارب الربيع العربي.
معايير آلان تورين ليست أوروبية إذن، بل هي معايير الحضارة الرأسمالية، الكونية الطابع، بعجرها وبجرها، أي بكل ما فيها من علوم ومعارف ورفاهية ووفرة وصناعة وإعلام وتواصل وتنافس وحشي بين الرساميل، وبأنظمة سياسية اختارت آخر نسخة من الديمقراطية كآلية لتنظيم، التنوع والاختلاف والصراع داخل بلدانها. فماذا ستكون النتيجة لو طبقت هذه المعايير على بلداننا؟
يمكن القول، براحة ضمير علمي، إن أياً من هذه المعايير المذكورة أعلاه لا يحظى بالحد الأدنى من الاحترام في بلادنا، بل إن الأنظمة على اختلافها وأحزاب الله أيضاً تطبق نقيض مضامينها بالتمام والكمال. فهي تسعى إلى تفجير الاختلافات بدل أن تنظمها وأن تؤمن لها ظروفاً ملائمة لتفاعلها وتعايشها. فوق ذلك، هي لا تحتمل أي شكل من أشكال التنوع السياسي والإيديولوجي والديني والطائفي والعرقي، بل تعمل، من موقع عدم الاعتراف بالآخر، على قهر الأقليات أو التخلص منها في الحروب الأهلية، على غرار ما حصل في لبنان و سوريا والعراق ومصر والسودان. وهي تميل إلى إقامة توتاليتاريات حزبية وأنظمة تسلطية و”مقاومات طوائفية تعسّس بين الحرية والتحرر”. وهي تعمل على نشر ثقافة معادية للديمقراطية، قوامها تحويل الخصومات إلى عداوات، وتخوين الآخر وإلغاؤه بالقتل أو السجن أو النفي، وهو ما يحفل به تاريخ الاستبداد الحديث، مع القائمة الطويلة الممتدة من تروتسكي إلى صهري صدام حسين المغدورين ورفاق حافظ الأسد الذين ماتوا في سجونهم المؤبدة، وسائر ضحايا الاغتيال من مفكرين، منهم مهدي عامل، الذي شكلت صداقتي معه منعطفاً في حياتي الثقافية والسياسية، كما أحدث اغتياله منعطفاً في منهج قراءتي الأحداث وكتابتي عنها وعنه؛ إلى سياسيين منهم كمال جنبلاط ورفيق الحريري وجورج حاوي، الذين قضوا ضحية رأيهم المختلف وتجرؤهم على صاحب السلطان، إلى عديدين سواهم في كل بلدان الممانعة، وما أكثر الأسماء.
فصل من مقدمة كتاب ، أحزاب الله.

المصدر :

http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=597688