في نقد مصطلح الدولة عند مهدي عامل
ربما كانت دلالة هذا المصطلح(الدولة) هي الأكثر التباساً( بين المصطلحات المتعلقة بموضوعنا *) لا لأنه مترجم عن لغة أجنبية، بل لأن من استخدموه شوّشوا معناه حين لم يميزوا بوضوح لا بين السلطة والدولة، ولا بين المصطلحات الأخرى ذات العلاقة. ففي الفرنسية كما في الإنكليزية، هناك تمييز واضح بين Etat, pouvoir d’Etat, Autorites publiques, Autorite, .Regime, systeme, State, State Power, Public Authorities, Authority, .Regime, System, إلا أن الممارسة السياسية رسخت في الوعي الشعبي نوعا من التطابق أو التجانس أو الترادف بين مصطلحات في علم السياسة ليست في الأصل متطابقة ولا متجانسة ولا مترادفة.
“أول ما ينبغي أن يتسلح به العالم الاسلامي لتحقيق النهضة هو الدولة العصرية” هذا ما عمل بهديه محمد علي باشا وبايات تونس والمتأخرون من سلاطين الدولة العثمانية، برأي كمال عبد اللطيف (مفاهيم ملتبسة في الفكر العربي المعاصر، دار الطليعة، بيروت، 1992، ص19). غير أن رياح السياسيين مضت بغير ما تشتهي لغة النهضة المأمولة، بحيث بدا أن الدولة في العالم العربي شيء والدولة العصرية شيء آخر.
يقول عبد الله العروي في كتابه، مفهوم الدولة(المركز الثقافي العربي، بيروت والدار البيضاء، ط10، 2014): ” … كل دولة مكوّنة إذن من مسلحين وجباة وقضاة، وفوق هؤلاء جماعة تقوم بربط الاتصال فيما بينهم، ويوجد فوق الجميع السلطان( أي صاحب السلطة العليا الحاكم المتفرد بالكلمة). هذا هو هيكل كل دولة، حديثة كانت أم قديمة، نراه بسيطاً واضحاً في أثينا، ونجده هو هو في الدولة الحديثة عندما نتجاوز التعقيدات والزخارف المتراكمة مع مرور الأيام” ( ص81). فما هي هذه التعقيدات والزخارف المتراكمة؟
أن يكون الحاكم هو الله كما في الحضارات الريعية، أو أن تجعله حضارة العصور الاقطاعية ظله على الأرض أو خليفته في الأرض ، أو أن يصير ممثلاً للشعب في الحضارة الرأسمالية، فهذا يعني أن الفوارق ليست مجرد زخارف وتعقيدات، بل هي تغييرات جوهرية في بنية النظام وفي آليات عمله. فما هي هذه التغييرات التي طرأت على الدولة في صيغتها الحديثة والمعاصرة؟
يعرض العروي ثلاثة نماذج نظرية عن الدولة الحديثة، “الدولة الهيغلية الناتجة عن فصل المصلحة العامة عن المصلحة الخاصة، والدولة التاريخية الماركسية الناتجة عن نشأة الملكية الخاصة، والدولة الحديثة الفيبرية( نسبة إلى ماكس فيبر) المبنية على عملية العقلنة”(م.ن. ص116). هذا على الصعيد النظري الفلسفي. أما على الصعيد العملي، فالذي أنشأ الدولة الحديثة وبنى أولى مؤسساتها هو نابليون. فهو من أرسى أسس القوانين، وأولها ((Code Napoleon. “والكل يعلم، على ما يقول العروي، أن نابليون هو منظم التعليم الثانوي والعالي في فرنسا، ومؤسس البكالوريا، ومنشئ المدارس العلمية العليا. كان التعليم قبله تحت مسؤولية الكنيسة فجعله تابعاً للدولة، وأدخل عليه نظاماً يشبه النظام العسكري ووجهه وجهة علمية تقنية” (م.ن.ص94). هذه الدولة الحديثة تختلف عن سابقاتها، إذن، بالقانون الذي يساوي بين الأفراد ولا يعترف بانتماءاتهم التي تنال من معنى المواطنة ومن الولاء للدولة، كالانتماء إلى الملة أو العشيرة أو الطائفة أو إلى مذهب من المذاهب الدينية، إذ “لا يمكن التفكير في الدولة الديمقراطية الحديثة، إذن، إلا بالتلازم مع التسليم بمركزية الفرد في هذه الدولة”( عبدالإله بلقزيز، الدولة والمجتمع، جدليات التوحد والانقسام في الاجتماع العربي المعاصر، منتدي المعارف، بيروت، ط2، 2015، ص35)
من ناحية أخرى تتميز الدولة الحديثة عن سابقاتها باعتماد الديمقراطية آلية للحكم ولحل النزاعات. فهي تستند إلى مبدأ المساواة بين المواطنين أمام القانون. وهي، وإن تعرضت للتشويه بعد إدخالها في لائحة المصطلحات الملتبسة، وحصر التعبير عنها في الانتخابات والاقتراع العام، غير أن أساسها الجوهري هو الاعتراف بالآخر وبالتنوع و بحق الاختلاف، وبالتالي فهي نقيض ما كانت تتصف به أنظمة الاستبداد السابقة على الحضارة الرأسمالية. وهي تستند إلى مبادئ حقوق الإنسان التي نصت عليها الشرعة والإعلان العالمي، وعلى رأسها الحرية بكل أنواعها، أي التعبير والتفكير والضمير والملكية والزواج، الخ.
“ربما كانت الدولة أعظم اختراع انساني في التاريخ، على ما يقول بلقزيز، إذ لولا الدولة لكانت الحياة الاجتماعية جحيماً لا يطاق…. فقد لا يعرف قيمة الدولة إلا من عاش تجربة غيابها في المجتمعات المنغمسة في حروب أهلية”( م.ن.ص28). هذا ينطبق على الدولة مطلقاً، وعلى الدولة الحديثة خصوصاً، لأن الحروب الأهلية في صورتها المعاصرة لم تظهر إلا في غياب الدولة المعاصرة، فيما كانت الصراعات الداخلية في الدول القديمة تتخذ شكل حروب بين القبائل والعشائر، أو شكل مكائد وتصفيات بين أهل الحكم، إلى أن تمكنت الحضارة الرأسمالية من اكتشاف السلاح الناري وكل مشتقاته من المتفجرات والعبوات الناسفة والصواريخ الموجهة، فتبدلت أساليب القتل والقتال وصارت أكثر فتكاً وأكثر قدرة على التدمير، وصارت شظايا العنف تطال المجتمع والدولة بعد أن كانت دائرتها أقل اتساعاً.
بيد أن مصطلح الدولة ذهب ضحية التباس مع مصطلح السلطة. فالدولة كيان معنوي، أو شخصية معنوية، أو بتعبير بلقزيز، “نصاب تمثيلي مجرد ومحايد وهي تطابق الأمة وتعبر عن كيانيتها السياسية والاجتماعية، أما سلطتها فمحطّ منافسة سياسية بين الفئات والجماعات والأحزاب: تتداولها وتتغير نخبها وسياساتها ، لكن الدولة تستمر للجميع ويستمر ولاء الجميع لها. هذه حقيقة مستقرة في أذهان الناس في المجتمعات التي قامت فيها دولة حديثة” (م.ن. ص27). كما إن مصطلح الدولة الحديثة والمعاصرة يرتبط ارتباطاً عضوياً بمصطلح الوطن، لأن الدولة هي التي تجسد سيادة الشعب على أرضه وعلى حدوده من خلال سيادة القانون، ولهذا يصبح المساس بها مساسأ بالوطن، ويتحول التعرض لها إلى تهديد للوحدة الوطنية، والذي يدفع ثمن اغتيالها هو الوطن، فانهيارها يعني انهياره وتفككها يعني تفككه وتدميرها يعني تدميره، وهذا ما أثبتته تجارب الحروب الأهلية الممتدة في طول الوطن العربي وعرضه.
يعيد بلقزيز الخلط بين الدولة والسلطة إلى أسباب شتى، “أولها وأهمها الفقر المعرفي وضعف الصلة بمصادر الفكر الانساني… ومن بينها مصادر الفكر العربي الإسلامي الوسيط المتعلقة بالموضوع، وهو أمر ينطبق بالتبعة على مسائل الحرية والمواطنة والمجتمع المدني”(ص32-33). وقد سبق لعبد الله العروي أن طرح فرضية الفقر المعرفي، عندما لاحظ أن مسألة الدولة لم تدرس جدياً على الصعيد النظري وأن التفكير في مشاكل الدولة شيء وتقديم نظرية عن الدولة شيء ثان( العروي، ص14). ثم أعاد الدكتور عمرو حمزاوي تأكيد الفكرة ذاتها حين تحدث عن “القصور المعرفي والمفاهيمي البادي اليوم على دراسة السياسة في الوطن العربي”( أزمة الدولة في الوطن العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بحوث ندوة فكرية، بيروت، 2011، ص91). من جانبنا، نميل إلى الاعتقاد بأن الفروقات الدقيقة بين معاني المصطلحات المتفرعة عن المصطلح الأساسي والتي تشير إلى الأساليب والأدوات التي تستخدمها الدولة في ممارسة نفوذها، مثل مصطلح ((Pouvoir d,Etat بالفرنسية، ومعناه سلطة الدولة، أو Appareil d,Etat ومعناه جهاز الدولة، وAutorites بما هي سلطات تشريعية وتنفيذية وقضائية، وAutorites publiques أي السلطات العامة المدنية والعسكرية، قد تعرضت، بسوء نية من أصحاب النفوذ والسلطة في بلداننا، إلى عملية دمج لتصير الدولة والسلطة والأجهزة شيئاً واحداً، وحصل الخلط بينها وبين مشتقات أخرى من شجرة العائلة، مثل النظام والمنظومة والسلطات العامة، وذلك تسويغاً وتسهيلاً لقيام أنظمة استبدادية غير ديمقراطية عن طريق إزالة الفصل بين السلطات باعتبارها كلها بعضاً من الدولة. وبهذا يكون مصطلح الدولة قد أفرغ من مضمونه المعاصر ليستعيد دلالته السلطانية بأبهى صورها.
أدى هذا الخلط المفاهيمي إلى معضلة جعلت قيام الدولة الحديثة في عالمنا العربي أكثر صعوبة، لأنه يحوّل الدولة إلى “مجرد سلطة سياسية، ويجعلها مجرد امتداد تلقائي للمجتمعي في الحيز السياسي، أي متماهية مع المجتمع الأهلي في حقائق وجودها”. وحين تصير الدولة مجرد سلطة تصبح أداة في يد فريق اجتماعي ونخبة سياسية ضيقة، فتفقد شرعيتها الديمقراطية والشعبية فتلجأ إلى القوة والعنف والاستبداد. من ناحية أخرى، لم يقتصر الخلط المفاهيمي على أهل السلطة بل تعداها إلى المعارضات الساعية إلى الحد من وظائف الدولة أو إلى الدفع بالمطالب الاجتماعية إلى الحد الذي يؤدي إلى إضعاف الدولة لا إلى إضعاف السلطة( راجع بلقزيز، ص83-85)
نظرة سريعة على طبيعة الأنظمة السياسية في العالم العربي من المحيط إلى الخليج تؤكد أن جيل الاستقلال الأول تدرب، عندما استلم مقاليد الحكم من الاستعمار أو من الانتداب، على بناء دولة حديثة، لكنه تواجه بإحدى عقبتين أو بكليهما معاً، الأولى أنه حمل معه الحنين إلى تقاليد الحكم السابقة على الرأسمالية، والثانية أن الانقلابات العسكرية لم تعطه الفرصة لاستكمال التجربة، حتى كاد لبنان أن يكون البلد الوحيد داخل هذه الأمة الذي نعم بنظام يحمل بعضاً من ملامح الديمقراطية، كالانتخابات الدورية للمجلس النيابي ولرئاسة الجمهورية. لم يكن العالم العربي وحيداً في هذا المجال، فبعد أن كانت التجربة الديمقراطية محصورة داخل حدود البلدان الرأسمالية الاستعمارية الكبرى التي خاضت الحربين العالميتين في النصف الأول من القرن العشرين، أي في أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأميركية، توسعت رقعتها في النصف الثاني من القرن العشرين إلى أوروبا الشرقية وأميركا اللاتينية وإفريقيا.غير أن أرجاء الأمة الاسلامية والأمة العربية من المحيط إلى الخليج، كادت تكون الوحيدة على الكرة الأرضية التي ظلت تخيم عليها أنظمة الاستبداد. فما هو تفسير ذلك؟
التفسير الاقتصادي أعاد السبب إلى عجز الرأسمالية المحلية عن بناء “أنظمة متمحورة على الذات” (نظرية سمير أمين عن التطور اللامتكافئ بين مركز الرأسمالية وأطرافها) أو عجزها عن فك التبعية كما في وثائق الأحزاب الشيوعية (نظرية مهدي عامل عن نمط الإنتاج الكولونيالي). في هذا المجال يشكل كتاب فوزي منصور، خروج العرب من التاريخ، محاولة جادة لتفسير الفشل في انتقال العالم العربي من الاقتصاد الخراجي، أي اقتصاد الحضارة الاقطاعية الزراعي، إلى الاقتصاد الرأسمالي، ما يعني، في نظره، أن البرجوازية، بصفتها الطبقة المعنية ببناء الدولة الرأسمالية، لم تكن هي التي تولت مهمة بناء الدولة الحديثة، تماماً مثلما لم توكل إلى الطبقة العاملة مسؤولة بناء الاشتراكية في بعض الدول العربية التي رفعت هذا الشعار من ضمن أولوياتها.
الدكتور هيثم غالب الناهي اختار منهج التفسير السياسي فحصر الأسباب بالعوامل الخارجية. ففي كتابه، الدولة وخفايا إخفاق مأسستها في المنطقة العربية(مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2016) خصّص الكاتب فصلاً، هو الأول قبل المقدمة، لعرض “خلاصة الكتاب”، حمّل فيها الاستعمار المسؤولية عن الفشل العربي في بناء الدولة الليبرالية، ما يجعلنا نميل إلى الاعتقاد بانتماء الكاتب إلى إحدى تفرعات منظومة الفكر القومي، رغم كونه نهل من معين التجربة الرأسمالية وحصّل تعليمه فيها واختار العيش في ربوعها والتنعم بخيراتها المادية والمعنوية. فكيف ينظر الناهي من خلال منظومته الفكرية إلى علاقة “الغرب” بقضية بناء الدولة؟
يرى الناهي أن “هيكلة الدولة مرت بحالات عديدة”(ص8) وكان يقصد بالحالات تطور المفاهيم والمصطلحات استناداً إلى “قراءة المجتمع من الناحية السوسيولوجية والنفسية”(ص8)، ومن خلال “الكم الفكري… والكنز المعرفي خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر… و بروز ماركس عام 1848 …الذي طرح ضرورة مساهمة الطبقة العاملة في قيادة الدولة”(ص9)، وصولاً إلى “الحرب العالمية الأولى التي انتهت بالاستعمار…” ثم إلى “ثمانينيات القرن العشرين وسبعينياته ، وأفول نجم الدولة الليبرالية الحديثة في المنطقة العربية واستبدالها بدكتاتوريات عسكرية تعسفية(ص11)… سمح لها الغرب أن تأخذ مكانها لتعمل على تقوقع المجتمع … وحرص على استمرارها لفترات طويلة… ونجحت الفضائيات وبثها الطائفي والعرقي في تفتيت المجتمع العربي وحرمانه من مأسسة الدولة …” (ص10-21)
يشكو النص من لغته المليئة بأخطاء في النحو وتركيب الجملة. ربما يكون مؤلفه قد وضعه باللغة الانكليزية ثم قام بترجمته بنفسه، ولم تبذل دار النشر جهداً لمراجعته. أما في المضمون فمن المؤسف أن يكون الكتاب قد صدر بطبعته الأولى عام 2016 أي بعد أربعة عقود على صدور كتاب عبدالله العروي، “مفهوم الدولة”، وبعد عقد على صدور كتاب عبد الإله بلقزيز، “الدولة والمجتمع، جدليات التوحيد والانقسام في الاجتماع العربي المعاصر”، وبعد صدور عشرات المؤلفات والأبحاث والمقالات، خصوصاً الكتاب الصادر عن دار النشر ذاتها وعن الموضوع ذاته، وفيه وقائع ندوة عقدت في بيروت، تحت عنوان ” أزمة الدولة في الوطن العربي”. فضلاً عن مؤلفات كثيرة صدرت بأقلام مفكرين وكتّاب كبار، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر، برهان غليون، ابراهيم سعد الدين، إيليا حريق، أحمد طربين، عزيز العظمة، هشام شرابي، خلدون النقيب، وغيرهم.
لماذا وقع اختيارنا على كتاب الناهي ما دامت المكتبة العربية زاخرة بأسماء هؤلاء الباحثين؟ السبب الأساسي هو أنه الأحدث عهداً بين المنشورات المتعلقة بقضية الدولة، وكنا نأمل أن يرشدنا إلى مسار التطور وحجم التقدم الذي أنجزته الكتابة في هذا الحقل من البحوث ، مفترضين، من جهة، أنه استند إلى المراجع العربية وأضاف إليها وانطلق منها ليستكمل مهمة البحث في قضية الدولة، ومفترضين، من جهة أخرى، أن الإقامة في بلد غربي والحياة العلمية والأكاديمية فيه، قد تجعلان الكتابة في قضايا الأمة العربية أكثر موضوعية وأقل تأثراً بالروح “الكفاحية”. غير أن الكتاب أصابنا بخيبة أمل لكثرة ما فيه من ثغرات في منهج البحث وفي استعراض الوقائع، من بينها إهمال جهود السابقين، واعتماد قراءة مغلوطة للتاريخ العربي ولرسم حدود الدول والأوطان فيه، فضلاً عن أن الكتاب يكرّر السردية الكفاحية ذاتها التي روّجت لها أنظمة الحكم والأصوليات القومية واليسارية والدينية.
المصطلحات أدوات معرفية، لكنها ليست هي المعرفة. وبتعبير آخر، الدولة شيء والكلام عن الدولة شيء آخر. هذا يحيلنا أيضاً إلى ما كتبه عبدالله العروي وأكده عبدالإله بلقزيز عن الفارق الكبير بين الكتابة عن الدولة وكتابة نظرية عن الدولة، أو إلى التمييز، الذي يشير إليه محمد الوقيدي، بين الرأي والحقيقة العلمية، معتبراً أن الرأي ضد العلم. من ناحية ثانية، أشار الناهي إلى “كنوز” القرنين السادس عشر والسابع عشر، وربما كان يقصد بها كتابات جون لوك وتوماس هوبز وجان جاك روسو، لكن تلك الكنوز لم تعالج موضوع الدولة بقدر ما ركزت على العقد الاجتماعي بين الحاكم والرعية وعلى الحرية كحق من حقوق الأفراد، وعبرت عن إرهاصات الكتابة عن دولة لم تكن قد ظهرت بعد، دولة يعتبر نابليون بونابارت هو من بنى مدماكها الأول في أواخر القرن الثامن عشر، بعد الثورة الفرنسية. من ناحية ثالثة، يقول الناهي إن الحرب العالمية الأولى “انتهت بالاستعمار”، والحقيقة أن الاستعمار بدأ في أواخر القرن الخامس عشر، وبالتحديد مع اكتشاف أميركا في العام 1492 واكتشاف رأس الرجاء الصالح عام 1497، وأن الحرب الأولى شكلت بداية النهاية للاستعمار، للصيغة الأولى التي ظهر فيها، صيغة الاحتلال المباشر، لتبدأ الحضارة الرأسمالية رحلة بحثها عن صيغ جديدة للسيطرة على العالم وعلى الطبيعة وعلى أعماق المحيطات وأعالي الفضاء.
أما القول بأفول نجم الليبراليات العربية في ثمانينات القرن العشرين وسبعيناته فهو قول يجافي حقيقة الوقائع التاريخية. ذلك أن المحاولات الليبرالية الأولى هي تلك التي أشرف على تنفيذها “الاستعمار” الذي عينته عصبة الأمم وأسمته انتداباً، ولم يتم تعميمها على كل بلدان العالم العربي، وسرعان ما انطوت صفحتها مع أول انقلاب عسكري أطاح بمقومات الدولة الدستورية في العراق عام 1936، ثم في سوريا عام 1949، إلى قائمة الانقلابات التي سبق ذكرها أعلاه، والتي استعجلت القضاء على التجربة الطرية العود، مستبقة ولادة الفضائيات ووسائل التواصل، ولم تنتظر سبعينات القرن وثمانيناته، ولا انتظرت إذناً من “الغرب”. أما ماركس فلم يقترح أن تكون الطبقة العاملة شريكاً في قيادة الدولة بل أن تتولى إدارة الدولة الاشتراكية كاملة غير منقوصة على حساب البرجوازية ودولتها الرأسمالية.
من ناحية أخرى، الدولة سابقة على الحضارة الرأسمالية، لكنها في الرأسمالية غيرها في الحضارات السابقة، بل يمكن القول إن صيغتها الرأسمالية أحدثت قطيعة بنيوية مع سالفاتها. فهي محصلة تحولات اقتصادية ومعرفية وسياسية جذرية من نمط الإنتاج الزراعي إلى النمط الصناعي، ومن علم الغيب إلى العلم الوضعي ومن حكم السلالات إلى حكم الشعب، ومن أهم تلك التحولات الفكرية والفلسفية أن محورية الكون انتقلت من الله إلى الإنسان، وأن مصطلح الحرية صار محدداً بدقة، وبات يعني حرية الإنسان الفرد، بالمعنى الديكارتي للكلمة، حرية التفكير، حرية العقل، التي اكتسبت مدلولات جديدة في السياسة شملت حرية التعبير والمعتقد وصولاً إلى حرية الضمير.
غير أن بعض المثقفين المعاصرين لم يؤمنوا بفكرة القطيعة، وظلوا يعتقدون أن الحرية كما الديمقراطية كما المواطنة، هي مصطلحات ذات منشأ سابق على الرأسمالية، وأن “الفكر الإسلامي توقف عند حقوق الأفراد، مسلمين وغير مسلمين…فظلت (تلك الحقوق) مصونة، مع أن فكرة المواطنة لم تكن واضحة ولا كانت فكرة الدولة القومية بقوامها القانوني والسياسي موجودة” ( عدنان السيد حسين، أزمة الدولة في الوطن العربي، م.س. ص47). ربما لم ينتبه الكاتب إلى أن فكرة القطيعة تجسدت أول ما تجسدت في إقصاء المؤسسة الدينية، الكنيسة، عن التدخل في شؤون الدولة، فباتت الدولة شأناً بشرياً محضاً بعيداً عن أي مقدس ديني.
في غياب “القطيعة” عن فكر المتأسلم تزداد المفاهيم والمصطلحات التباساً، ولاسيما حين يتوزع بين الإقرار بأن” الدولة الحديثة في طبيعتها هي دولة مدنية، أي أنها ليست دولة دينية مقدسة” والرغبة في أن يكون للمقدس مكان في صياغة مشروع الدولة، وذلك خشية ” التنكر للدين والاتجاه نحو مفهوم إلحادي”(م.ن. ص55). ومع تأكيد الباحث على أنه “لا يوجد تصور إسلامي حول فكرة الدولة … ولا يوجد تصور علمي لمؤسسات الدولة ولا للسلطات التي تحكمها” إلا أنه يصر على الحفاظ على حيز للدين والشريعة في مقاربة المسائل المتعلقة بالدولة، ومن هذا المنطلق يرى أن من المفيد دراسة التراث الإنساني، لكن “على ضوء الحضارة الإسلامية”، وأن على “الدولة والسلطة عامة والحكومة والحاكم… أن يحتكموا إلى القانون العام غير المخالف لأحكام الشريعة” وأن تطبيق العدالة يحتاج إلى قانون وقضاة ملتزمين بشرع الله وبالقواعد الوضعية”، وأن “الدولة المدنية تقوى وكذلك المجتمع المدني… بقدر ما ينسجم القانون أو يعكس جوهر الشريعة”، وأن “الحركات الإسلامية مدعوة إلى الارتقاء بإنسانية الإنسان ودائماً على هدي الشريعة والثقافة العربية الأصيلة”(م.ن.ص55-64)
تحت عنوان “وافدة، متغربة، ولكنها باقية: تناقضات الدولة العربية القطرية” نشر د. بهجت قرني بحثاً في مجلة المستقبل العربي عام 1987، يتضمن نوعاً آخر من الالتباسات، هي التباسات علاقة الدولة العربية بالغرب. فهو يرى أن الدولة القطرية هي صناعة أوروبية، و”جزء من عملية دولية، ومن توسع المجتمع الدولي أو من تصدع عالمي”. وربما كان يقصد بالتصدع أن الدولة الحديثة جاءت في أعقاب الأمبراطوريات القديمة الرومانية والبيزنطية والصينية والهندية واليونانية ويحدد تاريخ ولادتها بما بعد معاهدة وستفاليا. لم يذكر من بين تلك الأمبراطوريات لا دولة الخلافة العربية ولا السلطنة العثمانية، لكنه أشار إلى أن صراع هذه الأخيرة مع أوروبا كان يمثل صداماً بين ثقافتين سياسيتين متضاربتين، كان من نتائجه أن السلطنة صارت أكثر ميلاً نحو الحضارة الأوروبية، ما دفعها، في البداية، إلى ” مسايرة التحديات والقيام بعملية الاصلاحات الداخلية، في السياسة والتعليم… إلى أن سقط الحاجز الأخير أمام ابتلاع أوروبا للأمبراطورية العثمانية”
يتابع الدكتور بهجت قرني سرديته بالقول إن “اتفاقية سايكس بيكو ونظام الانتداب غرسا بذور التجزئة في الدول العربية” – كأنها كانت موحدة قبل ذلك- و”إن نظام الانتداب لا يختلف كثيراً عن الاستعمار… لأن كلاً منهما وضع مؤسسات الدول القطرية ورسخها على صورة النمط الأوروبي”، الذي أثبت فشله في احتواء الاختلافات الثقافية والدينية، كردي-عربي،اسلامي- مسيحي، عرب- بربر، وكان لبنان “مثالاً صارخاً في السوء بدليل الحرب الأهلية المستعرة منذ أكثر من أثنتي عشرة سنة”. بعد ثلاثين عاماً وجد الكاتب من يؤيده في نعت الدول القطرية بالاصطناعية والنظر إليها كصناعة استعمارية وترجمة لصراعات القوى الدولية، والنظر إلى الاستبداد كظاهرة موروثة عن الاستعمار، (الدكتور مصطفى كامل السيد، أزمة الدولة في الوطن العربي، م.س. ص104)، أو في النظر إلى “البلاد العربية مجزأة إلى دويلات صغيرة أكثر شرعياتها من التقسيم الاستعماري” (عبد الإله بلقزيز، م.ن. ص305)
ليس مبرراً كافياً أن يكون الكاتب قد نشر هذا النص عام 1987 أي قبل ثورة الربيع العربي واندلاع العنف في بلده مصر وفي أنحاء الأمة العربية كلها من المحيط إلى الخليج بعد حادثة بوعزيزي في تونس أواخر عام 2010 ، وليس مبرراً أبداً استنتاجه ” أن عدد الدول الاصطناعية قد تزايد بعد 1945″، أولاً لأن الدول الاصطناعية التي يقصدها هي حصرا لبنان وسوريا، البلدين اللذين كانا يتألفان قبل الحرب العالمية الأولى من مجموعة من الولايات التابعة للسلطنة العثمانية: بيروت، طرابلس، صيدا، دمشق، حمص، حلب، الموصل. أما الدولة الاصطناعية الوحيدة فهي الدولة الصهيونية التي تندرج في سياق مختلف من البحث. وثانياً لأن رسم حدود الدول الحديثة كان بمثابة ولادة قيصرية عانت منها أوروبا قبل العالم العربي، ولم يكن ذلك افتعالاً لوقائع غير موجودة، بل تكريساً لمعطيات تاريخية استند إليها ميثاق عصبة الأمم في نص يذكره القرني في دراسته، ويتعلق ب” شعوب ليست قادرة بعد على الوقوف على قدمها، ويؤلف رفاههم وتطويرهم أمانة مقدسة في عنق الحضارة، وبالتالي ينبغي أن يعهد إرشاد مثل هذه الشعوب إلى أمم متقدمة … بصفتها منتدبة نيابة عن العصبة”.
العوامل التي لعبت دوراً حاسماً في قيام الدولة القطرية في العالم العربي لا تنعت بأنها خارجية أو غربية أو أوروبية أو مسيحية، بل إن هويتها المميزة تتمثل في كونها حضارة رأسمالية كان العالم العربي على موعد مع الانتقال إليها انتقالاً عصياً عرقلته عوامل داخلية، على غرار ما حصل في أوروبا في مرحلة التوسع الأفقي للرأسمالية، وعوامل خارجية عندما قررت الدول الرأسمالية الصاعدة منع قيام قوة كبرى في مصر بديلاً عن سلطنة كانت تتهاوى أمام قوة الهجوم الحضاري الرأسمالي، وعملت على رسم حدود النهضة العربية بما يؤمن مصالح الرأسمالية في المواصلات والتعليم والصناعة والزراعة ( نموذج إصلاحات محمد علي باشا في مصر و خير الدين التونسي في تونس والمعنيين والشهابيين والإرساليات في جبل لبنان)، من غير أن يسمح لها ( للنهضة) بأن تعرقل عبور المستعمرين إلى مستعمراتهم في الشرق. ( راجع، أعلاه، الكلام عن الرأسمالية والاستعمار)
فضلاً عن ذلك، إن تحميل التنوع بكل أنواعه مسؤولية تفكك المجتمعات العربية واندلاع الحروب الأهلية فيها لا يعكس حقيقة الواقع، ذلك أن ” عدد الدول في العالم لم يبلغ بعد 200 دولة، وأن قلة من هذه الدول تستطيع الادعاء بامتلاك تجانس إثني أو نقاء قومي” (فالح عبد الجبار، أزمة الدولة في الوطن العربي، م.ن.ص278) غير أن الحروب الأهلية لم تنشب في البلدان الأكثر تنوعاً كالهند أو الولايات المتحدة ، بل في البلدان المحكومة بالأنظمة الأكثر استبداداً، والتي سدت فيها أبواب الانتقال إلى الدولة الحديثة من بابها السياسي، أي من باب الديمقراطية والدستور والقانون والمؤسسات.
الاختلاف على تاريخ ولادة الدولة وعلى تعريفها وهويتها يشكل واحداً من أسباب الالتباس حول معنى الدولة. فمنهم من يعيد ولادتها إلى غابر الأزمان، أي إلى الحضارات القديمة كاليونانية والاغريقية والبابلية، وإلى شريعة حمورابي والقانون الروماني، أو إلى الأحدث منها كالعربية، ومنهم من لم يعثر لها بعد على تعريف واضح، متردداً بين “سبعة احتمالات لمفهوم الدولة ، وثماني عشرة نظرية مختلفة عن الدولة، و145تعريفاً منفصلاً للدولة” (بهجت قرني، م.س.) قد يكون التعريف الدقيق واحداً من هذه الاحتمالات والنظريات والتعريفات، لكن وضعه ضمن هذه المروحة الواسعة لا يضفي ضبابية على المفهوم وحده بل على الدولة ذاتها، وهو ما يفسر كيف أن الدولة في كل بلدان العالم العربي احتفظت بكثير من مميزات الدولة ما قبل الرأسمالية، وعلى وجه الخصوص الوراثة والاستبداد و” السلطة طريق إلى الثروة” بحسب تعبير سمير أمين، أي أعلى نسبة من الفساد في العالم.
في الندوة المشار إليها أعلاه التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية ونشر أعمالها في كتاب بعنوان، أزمة الدولة في الوطن العربي، قدم فالح عبد الجبار بحثاً معمقاً حدد فيه بدقة مفهوم الدولة ودلالته قائلاً بوضوح إن الدولة المعاصرة ظاهرة حديثة تنتمي إلى العصر الصناعي ولا سابق لها قبله… وهي اصطناع بشري… أي أنها لا تنمو على الأشجار ولا تنتمي إلى حقل الطبيعة بل إلى حقل المجتمع”(م.س.ص272). كان فالح عبد الجبار قد نشر قبل ذلك بحثاً عن الدولة في كتاب “ما بعد ماركس” (دار الفارابي، بيروت،2010) ركز فيه على ما تشكو منه الأدبيات الماركسية من نقص فادح في الكتابة عن الدولة، ورأى مع باحثين آخرين، أن الدولة المعاصرة التي تأسست مع الثورة الرأسمالية هي تلك التي وضع هيغل أسسها الفلسفية وماكس فيبر أسسها السياسية، انطلاقاً من تجربة الثورة الفرنسية والنسخ المتعددة من الدولة التي أقيمت، بعد ذلك، على أنقاض الملكية.
يكتسب بحث عبد الجبار أهميته من تأكيده على أن الدولة الحديثة هي نتاج العصر الصناعي، ما يعني، بتعبيرنا نحن، أنها نتاج الحضارة الرأسمالية، وهذا استنتاج يختلف اختلافاً نوعياً عن نعتها بإنها نتاج أوروبي أو مسيحي أو استعماري أو علماني أو مادي أو إلحادي. ذلك أن هذه النعوت، على اختلافها، تجعل من الدولة الحديثة ظاهرة معادية وعدوانية، وتظهرها على شكل كائن غريب فرضه الاستعمار على المنطقة من خارج تاريخها وتقاليدها وقيمها الدينية والاجتماعية والسياسية والثقافية. والحقيقة هي أن الحضارة الرأسمالية قدمت للبشرية، في طور توسعها الأفقي، من الإغراءات ما يكفي لإدخال أكثر البلدان تخلفاَ إلى “حلبة الحضارة”، بحسب تعبير ماركس. فهي قدمت وفرة في الإنتاج، وإنجازات علمية، وقربت المسافات وعممت المعرفة من خلال المطابع والمدارس، الخ. بحيث باتت كل الكرة الأرضية خارج أوروبا على موعد مع الدخول إلى رحاب تلك الحضارة، بالعنف الرأسمالي الذي بلغ ذروته مع استئصال الهنود الحمر في أميركا، أو بالعنف الطبيعي الذي يرافق أي ثورة من غير سلاح، على غرار ما حصل عند انتقال اليابان من حضارة الساموراي الإقطاعية إلى الحضارة الرأسمالية التي ولدت في الغرب الأوروبي وأخذت تنتشر في أربع أرجاء الأرض. (لدراسة هذه التجربة، يمكن العودة إلى كتاب ألان بيرفيت عن المعجزة اليابانية. م.س.)
الدولة الحديثة حاجة لكل مجتمع في طور الانتقال إلى الحضارة الجديدة، أي الانتقال ، على الصعيد الاقتصادي، من نمط الانتاج الزراعي إلى نمط الإنتاج الصناعي، أي الرأسمالي، وعلى الصعيد السياسي، من الدولة الوراثية إلى الدولة التي تتشكل فيها السلطة عن طريق الانتخابات الديمقراطية. بهذا المعنى يمكن القول إن العالم العربي باشر الدخول إلى عالم الرأسمالية، منذ بداية احتكاكه بالغرب الأوروبي، خصوصاً عبر تجربتي مصر وجبل لبنان، لكن هذا الدخول اقتصر على المجالين الاقتصادي والثقافي فيما بقيت صيغة الدولة تنتمي إلى عصر الحضارة الزراعية، حيث تخضع الأرض لقانون “الملك لله” ويتولى صاحب السلطة والسلطان إدارة الأملاك “الأميرية” ويشرف على توزيع خيراتها، وكأنها خيراته، بحسب قوانين المحاصصة، التي اعتمدتها كل السلطات في العالم العربي، في الدول السلطانية كما في الجمهوريات الوراثية، رافضة الأسس الجديدة المعتمدة في دولة الحق الهيغلية التي سلكت مساراً من التطور الشائك والصعب من صيغة الثورة الفرنسية حتى صيغة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
أنْ تُنسب فكرة الدولة الحديثة إلى غير أصلها ومصدرها الحقيقيين، أي المجتمع الصناعي، وأن تُسبغ عليها نعوت تشوش هويتها ولا تعبر بدقة عن طبيعتها وخصائصها، هو جزء من الدفاع عن القيم السياسية التي سادت قبل الحضارة الرأسمالية. إنّ النظر إليها كنتاج “أوروبي أو غربي أو مسيحي أو استعماري أو مادي أو إلحادي أو كدولة علمانية أو مدنية”، لا يقول كل الحقيقة، بل هو يخفي المهم منها. ذلك أن الدولة الحديثة نشأت حقاً في الغرب المسيحي، في ظل سيطرة الفلسفات المادية وانتشار التيارات الإلحادية، وأن الاستعمار هو الذي بشر بها وعممها على العالم. غير أن رمي فكرة الدولة بشبهة العدوانية، وتصويرها غريبة عن تاريخنا وجغرافيتنا وعن تراثنا الديني، ومفروضة علينا من الخارج، هو سلاح إيديولوجي في مواجهة هذا “الوافد الأجنبي المعادي”، يستحضر المستطاع “من قوة ومن رباط الخيل” الراسخة جذوره في الفكر الأصولي الديني، ويتمسك بها حد التعصب، فتتوارى الحقيقة الأهم المتمثلة بمنعطف الرأسمالية التاريخي الذي غيّر وجه العالم وأحدث قطيعة حضارية مع ما سبقه، ولاسيما مع الأقرب إليه زمنياً، أي الحضارة العربية الإسلامية.
صحيح أن الدولة الحديثة والحضارة التي انجبتها كانتا بمثابة اعتداء، لكن ليس على الشرق بل على التخلف. ولم يكن التخلف الشرقي هدفها الأول، فقد سبقه إلى رد “العدوان” تخلف أوروبا الأمبراطوريات والممالك والمقاطعات المشرذمة، أوروبا النبلاء والأشراف وحضارة الخراج، القارة التي عانت من حروب الولادة العسيرة للدولة الرأسمالية ما يقارب القرنين من الزمن، وتسببت بحربين عالميتين قبل أن تستقر الدولة فيها على صيغتها المعاصرة.
التيار العلماني في لبنان لم يكن أقل ارتباكاً حيال هذا الوافد الغريب. فقد بدأت ورشة إقامة الدولة الدستورية في المشرق العربي، لبنان وسوريا والعراق، وفي مصر في فترة ما بين الحربين العالميتين( راجع أعلاه ما يتعلق بالاستعمار. ما أن بدأت مرحلة الاستقلال حتى ظهرت الاعتراضات لا على السلطات الحاكمة فحسب، بل وعلى الدولة أيضاً، وكان لبنان الناجي الوحيد من نكبة الانقلابات العسكرية. غير أن القوى التي كانت ترفع راية العلمانية فيه وجدت أن الدولة ليست علمانية ولا ديمقراطية بما فيه الكفاية، وأن النظام السياسي هو نظام طائفي، استناداً إلى أن تركيبة السلطة السياسية فيه تعكس تركيبة المجتمع بتنوعه الطائفي، وقد وصل الأمر بأحد أهم مفكري الحزب الشيوعي اللبناني حد القول ” إن الطوائف ليست طوائف إلا بالدولة –لا بذاتها، كما يوهم الفكر الطائفي- ، والدولة في لبنان هي التي تؤمّن ديمومة الحركة في إعادة إنتاج الطوائف كيانات سياسية هي، بالدولة وحدها، مؤسسسات…. إن منطق الفكر الطائفي يقلب الأشياء نقائضها، فتظهر الدولة طائفية، كأنها نتيجة تعدد الطوائف في المجتمع اللبناني، بينما بها- أعني بالدولة- تتعدد الطوائف في هذا المجتمع، وبها يعاد إنتاجها، من حيث هي كيانات سياسية”( مهدي عامل، في الدولة الطائفية، دار الفارابي، بيروت، 1986؟ ص23)
ييستند مهدي عامل في تحليله هذا إلى الفرضية الماركسية القائلة بالدولة الطبقية، أي إلى التفسير الاقتصادي لظاهرة الدولة، ليبلغ في تحليله المعادلة القائلة بأن البرجوازية الكولونيالية (سنتناول هذا المصطلح بالتفصيل في متن الكتاب) أحلّت الطائفية في دولة البرجوازية محل الدين في الدولة الدينية. من جانبنا نميل إلى الاعتقاد بأن الطائفية ظاهرة موجودة، نتيجة التنوع الديني والطائفي، في بنية المجتمع وفي العادات والتقاليد والثقافة، أي قبل قيام الدولة الحديثة، وبالتحديد في ظل حكم السلطنة العثمانية ونظام الملل، وقد تكون موجودة في النظام السياسي وفي أجهزة الدولة وفي السلطة السياسية، أما الدولة ككيان معنوي رمزي فهي، في لبنان، قائمة على الدستور الذي يساوي بين المواطنين، وبالتالي لا يصح القول إن الطوائف ليست طوائف إلا بالدولة. وربما استقام المعنى لو قلنا إن الطوائف ليست طوائف إلا بالسلطة السياسية، أي بأجهزة الدولة وليس بالدولة، مع الإحالة دوماً إلى ضرورة التمييز بين الدولة وأجهزتها وسلطاتها وبينها وبين النظام.
ربما كان هذا التمييز هو الذي دفع العلمانيين إلى المطالبة بإلغاء الطائفية السياسية، اعتقاداً منهم أن الطائفية في المجتمع ظاهرة طبيعية وهي ليست مرذولة إلا في السياسة، وهذا صحيح. وسرعان ما ظهر أن إلغاء الطائفية من السياسة هو شعار غير قابل للتنفيذ، لأن الطائفية، ببساطة، غير موجودة على الصعيد السياسي إلا في ما يعتقد أنه ” توزيع للسلطات الدستورية، رئاسة الجمهورية والحكومة والمجلس النيابي على الطوائف”. في الحقيقة هناك توزيع للسلطات لكنه ليس توزيعاً على الطوائف بل على مسؤولين ينتمون إلى طوائف، وقد أثبتت التجربة أن الطائفة ليست هي المستفيدة من وجود ممثل لها في السلطة السياسية، بل إن ممثلها هو الذي يتقن توظيف الطائفة لخدمة مصالحه ومصالح حزبه وحاشيته، بالتجييش وشحن الغرائز ضد الآخر المختلف داخل الطائفة ذاتها أو خارجها. ولهذا فإن إلصاق نعت “الطائفي ” بالنظام والدولة يسيء إلى النظام والدولة ككيان رمزي جامع، وهو نعت قد يصح على أصحاب السلطة الممسكين بمقاليد الحكم وأجهزة السلطة باسم الطوائف.
في تفسيرنا لهذه الظاهرة لاحظنا أن النظام اللبناني علماني مدني لا ينتقص من علمانية دستوره البند الذي يوجب عدم حصر المسؤوليات بين أبناء طائفة واحدة، خصوصاً أن معيار الكفاءة كان يجعل المسيحيين، في مرحلة الاستقلال، أوفر حظاً من سواهم لتولي مسؤوليات عامة في الدولة.غير أن الذين تولوا إدارة شؤون الدولة بدل أن يطبقوا الدستور، استحضروا من الحضارة السابقة الأسس التي قام عليها نظام المحاصصة( المغارسة والمساقاة والمرابعة والمخامسة، الخ) وتقاسموا سلطة الدولة وثروتها وإدارتها، كأنها ملك لهم وللورثة من بعدهم، ووظفوا شعار إلغاء الطائفية السياسية فصوروه مطلباً إسلامياً هدفه النيل من صلاحيات رئيس الجمهورية، ليقابله شعار العلمنة الكاملة الذي صوروه مطلباً مسيحياً، ما هيأ لهم المناخ ليجعلوا، عبر الممارسة، انتهاك الدستور والقوانين حاجة لحماية حقوق وهمية للطوائف، وهو ليس في الحقيقة إلا لحماية مصالح مادية لزعماء الطوائف من السياسيين ورجال الدين.
كتب الدكتور عبد الرؤوف سنو في جريدة النهار، بتاريخ 27-12-2014 مقالة ورد فيها النص التالي عن اتفاق الطائف: “لقد أرضى الاتفاق السنّة بسبب تقوية صلاحيات رئيس مجلس الوزراء (السنّي) على حساب صلاحيات رئيس الجمهورية الماروني. صحيح أنهم كانوا قبل حرب لبنان في العام 1975 ينادون بإلغاء الطائفية السياسية لتحسين تمثيلهم في النظام السياسي الممسوك مارونياً، إلا أنهم خشوا بعد الطائف من أن يصبّ إلغاء الطائفية السياسية في مصلحة الشيعة الذين كان حراكهم يتجه صعوداً منذ حرب لبنان للإمساك بالبلاد تحت شعار “ديموقراطية الأكثرية”. وكان الشيعة قبل ظهور “حزب الله” ينادون بدورهم بإلغاء الطائفية السياسية وبمشاركة أكبر في النظام السياسي ورفع الحرمان عنهم”.
ينسب الدكتور سنو الأفعال في النص إلى الجماعة : “ينادون( السنة والشيعة) بإلغاء الطائفية السياسية، يمسكون( الموارنة) بالنظام السياسي، حراكهم (الشيعة) يتجه صعوداً …للإمساك بالبلاد”. لكي يستقيم المعنى علينا أن نعيد صياغة العبارة على الشكل التالي: الذين كانوا ينادون بإلغاء الطائفية السياسية كان يعتمدون على دعم جمهور عريض من السنة والشيعة، في مواجهة رئيس الجمهورية الذي يوظف مخاوف الموارنة من المحيط العربي الاسلامي ومن عودة آليات نظام الملل العثماني. ذلك أن الأحزاب اليسارية، هي الأخرى، عملت على توظيف المشاعر الطائفية بهدف إحداث تغييرات في النظام السياسي، ما جعلها تصنف في خانة اليسار الإسلامي في مواجهة ما كان يسمى اليمين المسيحي.
الكلام عن صراع طائفي كان يقابله داخل صفوف اليسار أيضاً كلام عن صراع طبقي، وآخر عن صراع على القضية القومية، لكن الصراع الحقيقي كان بين مشاريع سياسية مختلفة توظف المشاعر الطائفية والطبقية والقومية والدينية وتجند المؤمنين بها كل لصالح مشروعه، ولم يكن في نية أي منها أن يدافع عن طائفة أو عن مذهب ديني، ولاسيما أن اندلاع الحرب الشيعية الشيعية بين أمل وحزب الله، والحرب المارونية المارونية بين القوات اللبنانية وقائد الجيش، في حينه، ميشال عون، أكد أن الحرب بين الطوائف كما داخل الطوائف لم تكن سوى تعبير عن صراع سياسي للإمساك بناصية السلطة السياسية في لبنان وبناصية القضايا القومية في المنطقة.
فضلاً عن كل ذلك، نتبنى تساؤل مهدي عامل من غير أن نتبنى جوابه، فهو يقول: “لماذا الطوائف في فرنسا أو كندا أو أستراليا أو الاتحاد السوفياتي ليست طوائف، بينما هي، فقط في لبنان، طوائف؟ نجيب بالقول إن الطوائف ليست طوائف إلا بالدولة” (ص.23). أما نحن فنضيف إلى اللائحة بلدين يضمان أكبر تنوع طائفي وديني وإتني في العالم، الهند والولايات المتحدة الأميركية، ونجيب على تساؤل مهدي بعكس ما أجاب: إن الطوائف لا تكون طوائف إلا بغياب الدولة، وهي لا تكون طوائف إلا حين تنجح في تأسيس دويلات داخل الدولة وعلى حساب الدولة.
* النص جزء من مقدمة كتاب ، أحزاب الله، وهي تحت عنوان في منهج القراءة والكتابة
مقالات ذات صلة
نعم انتصرنا
هل يكتب التاريخ الحديث بمصطلحات طائفية؟
جامعة الأمة العربية ومحكمة العدل الشعبية