اخترنا التسمية بصيغة الجمع، مع أن داعش لفظ يجمع الأحرف الأولى لأربع كلمات يتشكل منها اسم التنظيم: دولة، إسلامية، عراق، شام، )الدولة الاسلامية في العراق والشام(، اعتقاداً منا بأن التنظيم الذي نبت فجأة ما بين العراق والشام ليس سوى نسخة جديدة من الأصولية ذاتها الممتدة في كل العالم الاسلامي، على اختلاف مذاهبه، وفي كل ما كان يسمى العالم الثالث، أي العالم الذي لم يدخل إلى الرأسمالية من بابها السياسي، وفي كل الأحزاب اليسارية، ولاسيما الماركسية منها، المتحدرة من التنظيم اللينيني بل الستاليني، الذي تجسدت فيه كل خصائص الاستبداد والعنف وممارسة رفض الآخر، أي النقيض للديمقراطية.
الجيل الأول من الأصولية بدأ بالحركة الوهابية وسائر الحركات التي عاصرتها كالمهدية في السودان والسنوسية في المغرب العربي والكاشانية، وهي تشاركت في النظرة إلى الغرب الحديث بكثير من الارتياب، وصنفته في خانة المعادي للاسلام والمسلمين، واستندت في ذلك إلى مدرستي أبن حنبل وإبن تيمية، وإلى نظرية سياسية تؤمن بمبدأ الحاكمية الإلهية، وبالجهاد في سبيل الله، من خلال حرب دينية تتخذ نموذجاً لها الحروب التي خاضها المسلمون الأوائل عند خروجهم من الجزيرة ونشرهم الدعوة الاسلامية بقوة السيف.
الجيل الثاني من هذا التنظيم الأصولي نشأ في مصر باسم جماعة الاخوان المسلمين، ثم راح يختار أسماء شتى على امتداد العالم العربي، التكفير والهجرة، الجهاد، الحركة الاسلامية لتطبيق الشريعة، أنصار الشريعة، جند الله، أنصار بيت المقدس، أنصار الاسلام، التوحيد والجهاد، التكفير والهجرة، حزب التحرير الاسلامي، حركة الأحباش ، حركة الجهاد الاسلامي في فلسطين، جبهة الانقاذ الاسلامية في الجزائر، جماعة العدل والاحسان في المغرب، وغيرها من الأسماء الكثيرة المتفرعة أو المنشقة.
الجيل الثالث هو جيل “القاعدة” ومشتقاتها والتنظيمات التي استظلت بهذا الاسم في العالمين العربي والاسلامي، وكان تنظيم داعش خاتمة العقد. قبل أن ينشأ الجيل الثالث في صفوف الطائفة السنية كان قد تشكل في صفوف الشيعة في العراق حزب الدعوة وتفرع منه في وقت لاحق حزب الله اللبناني. وفي موازاة ذلك كانت قد نشأت أحزاب شيوعية وقومية تشبه التنظيمات الاسلامية في وجوه وتتمايز عنها في أخرى.
يجمع بين كل هذه التنظيمات الدينية قواسم مشتركة كثيرة، منها الموقف السلبي من الحضارة المعاصرة وتجسيداتها الفكرية والفنية والسياسية ومنبتها “الغربي المسيحي العلماني”، وهو موقف حاول أن يتمثل الدعوة الاسلامية أيام النبي، فوصف العالم المعاصر بجاهلية القرن العشرين، وكفر كل القراءات الجديدة للنص الديني، وتشدد حيال الظاهرات السياسية اليسارية والقومية ودعا إلى استعادة الدولة الدينية، دولة الخلافة، مباشرة بعد انهيار السلطنة العثمانية في الحرب العالمية الأولى وقيام الدولة العلمانية التركية بقيادة أتاتورك ورفع شعار الاسلام هو الحل، والحاكمية لله وحده، واعتمد “الجهاد في سبيل الله” وسيلته العنفية لتحقيق مشروعه السياسي، تمثلاً ب “السلف الصالح” وفتح العالم ونشر الدعوة بالسيف.
( في العام الذي سقطت فيه الخلافة الاسلامية على يد أتاتورك وفي العام التالي، صدر في مصر كتاب الأدب الجاهلي لطه حسين وكتاب الاسلام وأصول الحكم لعلي عبد الرازق. اكتفت السلطة بمنع الكتاب الأول فيما أحيل الشيخ الأزهري، مؤلف الكتاب الثاني على المحاكمة الدينية، وعوقب بحرمانه من المشيخة ولم يُعد الاعتبار إليه إلا بعد أكثر من عقد ونصف من السنين. وبعد عامين على المحاكمة ولد تنظيم حسن البنا، حزب الاخوان المسلمين، الذي أعدم مرشده سيد قطب في عهد عبد الناصر، بعد أن مارس حزبه العنف والاغتيال سبيلا لتحقيق أغراضه السياسية.)
من جهة أخرى تحولت الماركسية اللينينية إلى دين حزبي جديد، إلى عقيدة سلفية يعتمدها كل تنظيم شيوعي ليتماثل مع الأصل. على غرار ما كانت الحركات الدينية تمارسه لتحاكي النسخة الأصلية من الدين متمثلة بالينابيع الأولى للدين، النصوص الخام وسيرة السلف الصالح. اليسار الماركسي انتهج سياسة الثورة والاستيلاء على السلطة بالقوة و”آمن” بدور خلاصي لحزب الطبقة العاملة يشبه دور النبي في شفاعته للمؤمنين، أو دور المهدي المنتظرعند الشيعة وما يوازيه في
الديانات الأخرى، أو دور المسيح الفادي المخلص.أما الأحزاب القومية فتشكلت على صورة مشوهة من النسختين الدينية والماركسية، فلا هي نجحت في استحضار الماضي( البعث) ولا هي أنجزت مشروعها في بناء الاشتراكية العربية، بعد أن صار الشعار جزءا من برنامج ثلاثي، يضم إلى الاشتراكية الوحدة والحرية.
المدارس الأصولية الثلاث وقفت من الحضارة الرأسمالية مواقف متفاوتة( سبق الحديث عنها) لكنها اعتمدت موقفاً واحداً من أحد إنجازاتها، وهو الديمقراطية، إذ هي رفضت الآخر المختلف في الرأي الديني أو السياسي، أو المختلف بالانتماء الإتني أو الثقافي، وكفّرته وأخرجته من صفوف الجماعة.
وجه الشبه الثاني هو توسل العنف وسيلة للاستيلاء على السلطة، ثم القهر والعسف والاستبداد للاستئثار بها. هذا ما فعلته القوى اليسارية مستلهمة التجربة اللينينية، والقوى القومية مستلهمة عنف الثورة البلشفية ودكتاتورية نابليون بونابرت( معظم الحركات القومية استولت على السلطة بانقلاب عسكري، ثم تولى السلطة ضباط من الجيش) وحركات الاسلام السياسي التي جاهرت بإيمانها بالعنف واعتمدته في شعاراتها وفي أسمائها. فضلاً عن أوجه شبه أخرى جعلتنا نتحدث عن الدواعش في صيغة الجمع لا في صيغة المفرد.
السبب الذي جعل تنظيم داعش يتمايز عن سواه من التنظيمات الاسلامية هو نجاحه، بسرعة قياسية، في اقتطاع مساحة واسعة من الأرض أقام عليها دولة، مطلقاٌ عليها إسم الدولة الاسلامية في العراق والشام، ملغياً الحدود المرسومة خلال الحرب العالمية الأولى والمتضمنة في اتفاق سايكس بيكو، بحيث شملت جغرافية الدولة المستحدثة أجزاء واسعة من العراق وأخرى من سوريا. كما تمكنت داعش( سأستخدم ضمير المؤنت للإشارة إلى داعش، ربما جرياً على عادتنا بمخاطبتنا المنظمات الفلسطينية أو لأننا نتعامل معها بصفتها ميليشيا وليست حزباً ) من بسط سيطرتها العسكرية وتأمين مواردها المالية وإدارة شؤون “دولتها” بالحديد والنار والتهجير والإبادة الجماعية والسبي والاسترقاق والاتجار بالنساء، واستخدام كل وسائل العنف التي لا تتسع لها المخيلة.
في اللحظة الاولى لقيامها انشغل المحللون بتفسير الأسباب والعوامل التي سهلت لها اقتطاع أجزاء واسعة من الدولتين العراقية والسورية، كما انشغلوا بالبحث عن هوية القوى التي ساعدتها وعن مصادر تمويلها. أصابع الاتهام طالت الجميع، وبالدرجة الأولى النظام السوري الذي استمر، منذ ما قبل اندلاع الثورة في سوريا، يقدم مساعداته من غير انقطاع للأصولية السنية في العراق العاملة باسم مقاومة الاحتلال الأميركي، ويليه النظام العراقي الذي نخره الفساد ما انعكس على بناء جيش من كرتون سرعان ما تهاوى أمام هجوم داعش. بعضهم رأى أن للقوى الاقليمية مصلحة في قيامها، المملكة السعودية ودول الخليج للمساعدة على إسقاط النظام العراقي الموالي لإيران، وإيران لتبرير تدخلها المباشر في الشأن العراقي وتثبيت سيطرتها الميدانية على الجيش والدولة وتأمين الحشد الشيعي تأييداً لتدخلها، وأميركا لتبرير عودتها إلى العراق لمساعدة الدولة ضد التدخل الإيراني.
بصرف النظر عن دقة هذه التحليلات ومستوى صوابيتها، فقد حددت داعش هدفها من اللحظة الأولى، وهو يقضي بإقامة دولة الخلافة الاسلامية، وأعلنت عن اسم أحد قادتها خليفة، محققة في ذلك حلماً راود الأصولية الاسلامية على الأقل من منتصف عشرينات القرن العشرين، أي من لحظة سقوط دولة الخلافة في اسطنبول أو القسطنطينية أو الآستانة، وبات الأساسي أمام أي مراقب أن يقرأ ملامح مشروع الدولة تلك وبرنامجها.
أول ما يمكن أن يوصف به مشروعها هو أنه إقصائي، أي أنه لا يقبل داخل حدود دولتها إلا من يدين بدينها ويؤمن إيمان قادتها، ومن لا ينطبق عليه ذلك يستحق عقوبة الالغاء بالنفي، ومنهم كثيرون تمكنوا من الهرب قبل أن تدركهم الميليشيات، أو بالقتل، وقد نفذت داعش عقوبات وإبادات جماعية بحق مخالفيها، لتثبت، بما لا يدع مجالاً للشك، أنها لا تستعمل الاسلام كعقيدة بل كإيديولوجية، أي كأية حركة سياسية أخرى تبغي الوصول إلى السلطة وتحقيق أهداف دنيوية وليس أهدافاً دينية. ذلك أن أعداء داعش في أغلبيتهم الساحقة مسلمون أيضاً، على تنوع مذاهبهم وانتماءاتهم الاتنية.
قبل ظهور داعش، ساعد النظام السوري على تنظيم ميليشيات مسلحة من عناصر أسلامية جندها خلال وجودها في السجن، ثم أطلقها في وجه المعارضة السلمية، مستخدماً فزاعة الارهاب المنفلت من عقاله المتجسد بنزعة داعش الاقصائية لتخويف الرأي العام الدولي، ولتصويرها أنها هي التي تشكل الخطر الرئيسي على نظامه وعلى المنطقة، محاولاً إقناع الغرب بالوقوف إلى جانبه ضد الثورة. وقد نجح النظام في ذلك حين أقنع كلا من روسيا وإيران وبعض الدول الدائرة في فلكهما وبعض الدول التي اختارت المواجهة مع الامبريالية، وكان حزب الله من بين تلك القوى الميليشيوية التي جندت عدداً كبيراً من المقاتلين لمساندة النظام السوري.
إذا استعرضنا القوى التي تواجه داعش ذات النزعة الاقصائية “التكفيرية”، نجد أنها قوى تنضوي في تحالف عرف بجبهة الممانعة العربية والدولية، قوى معروفة بنزعتها الاقصائية التكفيرية هي الأخرى. إيران خارجة لتوها من ربيع اعتقل قادته أو فرض عليهم نوع من الإقامة الجبرية، النظام السوري وحزب البعث الحاكم الذي أرسى تقاليد التكفير السياسي من ستينات القرن الماضي بقتل المعارضين أو نفيهم أو سجنهم، النظام العراقي “الشيعي” المؤتمر بأمر إيران، الذي حشد في مواجهة عدوان داعش على الدولة قوى من خارج الدولة أطلق عليها اسم الحشد الشعبي( وهو حشد شيعي) ليحول المعركة من معركة وطنية إلى معركة مذهبية، فضلاً عن حزب الله اللبناني(الشيعي) وبقايا قيادات في الأحزاب الشيوعية. النزعة التكفيرية لدى جميع هؤلاء المناصرين للنظام السوري تضاهي تكفيرية داعش.
مصطلح التكفير يصلح مدخلاً لتبرير التسمية بالجمع (دواعش) وليس بالمفرد، وسبيلاً لرسم معالم المعالجة. ” التكفيري” مصطلح استحضره النظام السوري من التراث السياسي والديني و روّج له في إطار معركته ضد المعارضة، وتلقفه حزب الله لتبرير تدخله في سوريا لصالح النظام، وهو بالمعنى الاصطلاحي للكلمة، من يكفّر الآخرين ،أي يحكم عليهم بأنهم غير مؤمنين ، لأنهم لا يؤمنون بما يؤمن ويتعامل معهم على هذا الأساس ،وبمعناها الاستعمالي هو من يستخدم العنف ضدهم ويحل دمهم ويرى أن ” الجهاد ضدهم باب من أبواب الجنة”. بعد استخدامه في الحقل السياسي اكتسب معنى الخصومة والعداء للرأي الآخر حتى لو لم يكن الأمر يتعلق بالشأن الديني.
التكفير الديني هو، في حد ذاته وبالمعنى الفقهي، كفر، لأن الله ترك الحرية لعباده ” …. فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر”( الكهف 29). ولم يترك لأحد ،حتى لأنبيائه، الحق في المحاسبة في الحياة الدنيا “…إنما أنت مبلّغ ولست عليهم بمسيطر” (الغاشية 22)،.
التكفير ، بالمعنى المستخدم عمليا الذي يروج له المتقاتلون ، هو إذن تكفير سياسي يشهره كل فريق سياسي سلاحا إيديولوجيا في وجه خصومه، بل هو لم يستخدم في التاريخ ، حتى من جانب الفرق الدينية ، إلا في إطار التنافس والصراع على السلطة ، أو في إطار حمايتها من ” خطر ” الرأي الآخر.
السلطة السياسية كفرت سقراط ، والسلطة الكنسية كفرت كوبرنيكوس وحكمت عليه بالحرق حياً، وحكمت على غاليليه بالإعدام لولا تراجعه عن تبني أفكار كوبرنيكوس أمام الجمهور، فخفضت العقوبة إلى الإقامة الجبرية حتى مماته. السلطة السياسية احرقت كتب إبن رشد ورمت ابن حنبل في محنة. الأئمة الشيعة ماتوا قتلا وقبلهم ثلاثة من الخلفاء الراشدين لأن خصومهم السياسيين كانوا يكفرونهم. جمال الدين الأفغاني مات مسموما في الآستانة بسبب أفكاره ، يعني أنهم كفًروه ، كذلك الكواكبي في منفاه الاختياري في مصر. صلاح الدين الأيوبي كان من قلة من عشرات الولاة والقادة الذين لم يموتوا قتلا، لأن من أرسل لاغتياله لم تطعه كفه بحمل الخنجر المسموم.
كل الانقلابات العسكرية وأشكال العنف، في العالم وفي العالم العربي، حصلت بفعل ذريعة التكفير، لأن السلطات لاتؤمن بأفكار الانقلابيين. كل المنفيين والمسجونين والمغتالين في العالم العربي كفّرهم خصومهم قبل أن يعاقبوهم. كفّروهم لا لأنهم جدّفوا على المقدس الديني بل على المقدس السلطوي. ستالين تعقب تروتسكي حتى أميركا اللاتينية ليغتاله، وقتل أستاذه الذي علمه الفلسفة، مكفراً إياه، متهماً إياه بالانتماء إلى المانشيفيك قبل الثورة. كمال جنبلاط وبشير الجميل ورفيق الحريري من ديانات ومذاهب مختلفة في لبنان، ماتوا اغتيالا، والقاتل واحد ( ليس اتهاما أمنيا وقضائيا بل سياسي). لا لأنهم كفروا بالدين أو لأنهم كانوا غير مؤمنين، بل لأنهم كفروا بسياسة صاحب السلطان، أي عارضوها، ولأنهم لم “يؤمنوا” بسياسة الحاكم ولا ببرنامجه ولا بأسلوب قيادته ، أي لأنهم لم يكونوا مطيعين .
التكفير إذن هو نهج كل المتطرفين والمتعصبين والأصوليين في كل الديانات كما في الأحزاب والتيارات السياسية. التكفيري إذن هو الأصولي الذي لا يقبل الرأي الآخر ولا يعترف به، وشعاره ” أنا أو لا أحد”. وهو الذي يعتقد أن رأيه هو وحده الصواب، وكل مخالف يستحق المسح، بلغة الكمبيوتر، والنفي بلغة ماركس وهيغل، والسحل بلغة الثورة العراقية، واللحو والقطاف بلغة الحجاج بن يوسف الثقفي والي البصرة، والتدمير بلغة السيارات المفخخة، والتذويب بالأسيد بلغة الوحدة العربية، وتدمير الأوطان بلغة حزب البعث الأسدي.
كيف يمكن، والحالة هذه، أن يكون أحد التكفيريين على حق والآخر على صواب؟ البغدادي (الخليفة) طلب من “أسود الدولة الاسلامية في العراق والشام، أن اشفوا غليل المؤمنين، ثبوا على الرافضة الحاقدين والنصيرية المجرمين وعلى حزب الشيطان والوافدين من النجف وقم وطهران” فيما كرر حسن نصرالله في أكثر من خطاب نعت التكفيريين “بأنهم نابشو قبور وقاطعو رؤوس، معلناً أنه سيواجه عدوانهم في أي زمان وأي مكان وكيفما كان…” الاقتباسان من موقع مازن العزي الإلكتروني، بتاريخ 2-2-2015). فإذا لم تكن الأسباب دينية أو فقهية فماذا عساها تكون؟
من غير المفيد لهذا البحث الانجرار وراء نقاش فقهي لنحكم لصاحب الحق في قضية التكفير، اعتقاداً منا بأن المسألة لا علاقة لها بالفقه، ويكفينا تأكيداً على ذلك أن نعود إلى البيان التاريخي الذي أصدره الأزهر الشريف بتاريخ الثامن من يناير كانون الثاني 2012، أي بعد مرور عام على الربيع المصري، وسنقتبس منه مقطعاً يتناول قضية التكفير ونضعه بنصه الحرفي. يقول البيان الأزهري:
” كما يترتب أيضًا على احترام حرية الاعتقاد رفض نزعات الإقصاء والتكفير، ورفض التوجهات التي تدين عقائد الآخرين ومحاولات التفتيش في ضمائر المؤمنين بهذه العقائد، بناء على ما استقرَّ من نظم دستورية بل بناء على ما استقر – قبل ذلك – بين علماء المسلمين من أحكام صريحة قاطعة قرّرتها الشريعة السمحاء في الأثر النبوي الشريف : ( هلا شققتَ عن قلبه) والتي قررها إمام أهل المدينة المنورة الإمام مالك والأئمة الأخرون بقوله : ” إذا صدر قول من قائل يحتمل الكفر من مئة وجه ويحتمل الإيمان من وجه واحد، حُمِلَ على الإيمان ولا يجوز حَمْلُه على الكفر ” وقد أعلى أئمة الاجتهاد والتشريع من شأن العقل فى الإسلام، وتركوا لنا قاعدتهم الذهبية التي تقرر أنه : ” إذا تعارض العقل والنقل قُدَّم العقل وأُوِّل النقل ” تغليباً للمصلحة، المعتبرة وإعمالاً لمقاصد الشريعة .”
بعد أقل من عامين على صدور هذا البيان، أصدر الأزهر الشريف، بتاريخ 11ديسمبر 2014 توضيحاً لخطاب مفتي نيجيريا الشيخ ابراهيم صالح الحسيني، وقد أثار التوضيح في حينه ردود فعل صاخبة بسبب امتناع الأزهر عن تكفير داعش. ورد في التوضيح ما يؤكد الموقف المبدئي من هذه المسألة: “أن كل من في المؤتمر من علماء الأمة يعلمون يقيناً أنهم لا يستطيعون أن يحكموا على مؤمن بالكفر مهما بلغت سيئاته… وأن المؤتمر عقد في الأساس لمواجهة فكرة تكفير الآخر وإخراجه من الملة ، مشيراً إلى أنه لو حكمنا بكفرهم (داعش) لصرنا مثلهم ووقعنا في فتنة التكفير”
ليست المرة الأولى التي يتم فيها تناول قضية التكفير في الأزهر الشريف، فقد سبق لشيخ الأزهر أحمد الطيب أن أبدى رفضه أن تحكم بعض الفضائيات بتكفير الشيعة، وأكد أنه “لا فرق بين السني والشيعي، إنما هي عملية استغلال سياسي”، كما سبق للباحث الاسلامي محمد عمارة أن وضع كتاباً عن “فتنة التكفير بين الشيعة والوهابية والصوفية”، وطالب بإصدار فتوى جماعية يشترك فيها كل علماء الأمة، من المذاهب المختلفة ، بتحريم تكفير أي مسلم ووضع خطة طويلة المدى لتهذيب كتب التراث في المذاهب الاسلامية المختلفة وحذف الأحكام التكفيرية الواردة فيها.غير أن هذا الكتاب أثار ضجة حين نشره عام 2006، لأنه أورد نصاً لأبي حامد الغزالي يكفر فيه النصارى واليهود. كأن الشيخ حسن مشيمش أراد أن يحسم تلك الضجة حين أورد على صفحته الالكترونية الفيسبوك، بتاريخ 29 أيلول سبتمبر 2015 آية قرآنية تتناول هذه القضية بالذات وهذا نصها: { وَقَالَتْ الْيَهُودُ لَيْسَتْ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتْ النَّصَارَى لَيْسَتْ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لايَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ }. ما يعني أن قضية التكفير قضية قديمة تتجدد وتستعاد حين تستدعي الظروف السياسية ذلك، وبالتحديد، حين يوظف رجل الدين النصوص في خدمة السياسة، أو بالأحرى حين يقرر رجل الدين أن يتحول إلى رجل سياسي أو أن يتدخل، على الأقل في الشأن السياسي، على غرار ما يفعله البغدادي زعيم داعش أو حسن نصرالله زعيم حزب الله.
تسييس الدين
تدخل رجال الدين في الشأن السياسي قضية طرحت منذ طرحت قضية العلمنة، وفصل سلطة رجال الدين عن سلطة الدولة( وليس فصل الدين عن الدولة) لكن طرحها في ذلك السياق أساء إلى الدين وإلى العلمانية على حد سواء. ذلك أن لرجل الدين، كما لسائر البشر ولسائر المواطنين، أن يتمتع بسائر الحقوق الممنوحة لسواه، ومن بينها حرية العمل السياسي. السياق القديم قدم صورة مقلوبة، يبدو فيها كأن الدولة الحديثة تعادي رجل الدين وتنبذه، فيما يشير واقع الحال إلى أن رجل الدين هو الذي بدأ يعادي الحداثة من أساسها، ويعادي اكتشافاتها العلمية منذ غاليليه، ولا يقيم وزناً لكل مناهج البحث التي وفرت للبشرية شروطاً أفضل لا لفهم العالم( بالميكروسكوب والتلسكوب) فهماً أعمق فحسب، بل حتى لفهم الدين فهماً صحيحاً،( أفتى رجال الدين في بلاد الشام بتحريم المطبعة مع أن أول كتاب صدر بالعربية هو القرآن)، وهو الذي أصر على المضي ضد عجلة التاريخ، زاعماً احتكار الحقيقة، ومساوياً بين إيمانه والإرادة الإلهية، مبرراً لنفسه ممارسة أسوأ أنواع الاستبداد في الرأي.
شعر رجل الدين أن الحداثة العلمية والسياسية تعتدي على موقعه ودوره وسلطته، فلذلك اتخد منها موقفاً سلبياً من اللحظة الأولى، فراح يرشقها بسهامه جاعلاً النص الديني متراساً يختبئ وراءه ويتحصن به، ويحصنه، في الوقت ذاته، من تعدد القراءات التي ما كان لها أن تتعدد لولا أساس سياسي ظهر مع الحضارة الرأسمالية، عنوانه الاعتراف بحق الاختلاف وبالرأي الآخر وبالتعدد والتنوع، ولولا أساس فلسفي عنوانه الحرية وبدايته حرية الفكر، ممثلة بالكوجيتو الديكارتي. تعدد القراءات جعل ” النص في ذاته مجرد احتمال”( فيصل دراج)، ما دفع رجل الدين إلى الاصرار على قراءة أحادية تكفّر ما عداها، فرسم لنفسه خطة هجوم مضاد قوامها قراءة تلوي عنق النص الديني الموجود وتعتمد نصوصاً أخرى غير موثوقة، ومفتاح القراءة فيهما هو الخلط المقصود بين الدين والفكر الديني.
سبق لمفكرين عربيين أن اكتشفا “لعبة” رجال الدين، فكتبا عن الفكر الديني، أي عن التفسير البشري للدين، وتعرضا لهجوم شرس ووجهت إليهما تهمة الإساءة للدين وأحيلا على المحاكمة. صادق جلال العظم خرج من القضاء اللبناني بحكم براءة، فيما أدين نصر حامد أبو زيد وأرغم على مغادرة البلاد ومات في منفاه. الفكر الديني، بما هو وعي عامي للدين، يستند إلى القراءات الشائعة التي يعممها رجال الدين، ناقلين القداسة من النص الى تفسيره الوحيد، بواسطة محتكر القراءة، أي إلى رجل الدين، في عملية تزوير مفضوحة للنصوص وتأويلاتها.
النقاش الفقهي متاهة يهواها رجال الدين حين يغوصون في بحر التأويلات والأحاديث المعنعنة ويستندون إلى تفسيرات مغلوطة، بل مزورة، لبعض الآيات القرآنية، وإلى نصوص مهجورة، يفتعلون لتناقضاتها وتعارضاتها تبريرات خالية من أي منطق. مثل هذا النقاش معهم عقيم لأنهم يحفظون سردية وحيدة معممة عليهم، تقوم على نقل القداسة، عن طريق الإزاحة، من الوحي إلى النبي إلى الأئمة المعصومين والمرجعيات الدينية والفقهاء والقضاة ثم إلى رجل الدين، ومن بعده رواة الحديث وقراء العزاء والمؤذنين والعاملين في تنظيف المساجد وغسل الموتى وحراس المحاكم الشرعية وسائقي سيارات القضاة.
تبدأ السردية بقراءة مغلوطة للأية 59 من سورة الحشر “وما آتاكم به النبي فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا “، فيفسرون لفظتي “آتاكم و نهاكم” على أنهما دعوة للتقيد بكل ما قاله النبي، بما في ذلك من خارج الوحي، متجاهلين أسباب نزول الآية( فيها دعوة للمقاتلين بالالتزام بما يسمح لهم النبي بأخذه من الغنائم في الحرب)، متسلحين بآية أخرى، يأخذون بنصفها الأول (وما ينطق عن الهوى) ويهملون الثاني(…. إن هو إلا وحي يوحى)، ثم يجعلون أنفسهم “ورثة الأنبياء” استنادا إلى حديث غير مسند(العلماء ورثة الأنبياء)، ليدّعوا ، استنادا إليه، أنهم يرثون من النبي علاقة مباشرة بالسماء.
الجزء الثاني من السردية يقوم على تزوير القراءة لآية من القرآن الكريم (الآية رقم 7 من سورة آل عمران) ” هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنّ أم الكتاب وأخر متشابهات ، فأما الذين في قلوبهم زيع فيتّبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنّا به كل من عند ربّنا وما يذّكّر إلا أولوا الألباب” يكتفون بقراءة شطر منها( وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم)، ويعتبرون أنفسهم هم المقصودون برسوخ العلم، ويتجاهلون تتمتها(والراسخون في العلم يقولون آمنّا)، فيقعون في الخطأ مرتين، حين يساوون أنفسهم مع الله في العلم، بتوقفهم عند النصف الأول من الآية، ثم في القراءة الخادعة حين لا يتابعون قراءة النصف الثاني من الآية.
جانب الخطورة في سلوك المعممين وفي تصريحاتهم هو نتيجة منطقية لأقتطاعهم مسحة من القداسة هي ليست من حقهم، إذ إن القداسة هي لله وحده وللكتب المقدسة. حتى الأنبياء لم يجيزوا لأنفسهم ما أجازه رجال الدين. ففي القرآن آيات عديدة تؤكد على أن النبي يتساوى مع سائر المؤمنين في كونه بشرا ولا يمتاز عنهم إلا في الشأن المتعلق بالوحي .
لا نقول جديدا حين نميز بين الدين والفكر الديني، فالكلمة الشهيرة التي توجه بها الإمام علي إلى من رفع المصاحف في معركة صفّين، “إن القرآن لا ينطق بذاته، بل يحتاج إلى رجال”، قصد بها أن القرآن “حمّال أوجه” أي حمال قراءات. ذلك يعني أن الفكر الديني يتأثر بالمستوى الثقافي في المجتمع أو لدى الأفراد، وبالتالي فإن إصرار رجال الدين على التمسك بأكثر القراءات قدماً لا يعني سوى إعادة النص الديني إلى “ما قبل العقل في الإسلام”، بحسب تعبير محمد عابد الجابري، أي إلى المرحلة التي سبقت عصر التدوين وعلم الكلام والفلسفة والنهضة العلمية في العصر العباسي، كما يعني ميلاً لدى رجال الدين إلى مجاراة الفهم العامي للدين بدل الارتقاء به نحو التفسيرات والتأويلات والاجتهادات التي يضعها الفقهاء.
ليس سرا أن عدد المعممين يتناسب طردا مع نمو الجهل والأمية في العالم الإسلامي، وأن العدد الأكبر منهم هم من الراسبين في صفوفهم الدراسية الابتدائية أو المتوسطة (وضاح شرارة، دولة حزب الله)، وأن معظمهم لا يتقنون اللغة العربية، ما يجعل من الصعب عليهم، إن لم يكن من المستحيل أن يفهموا النص القرآني فهما صحيحا، ولذلك يعملون، تغطية لجهلم، على اختزال الدين بمجموعة من الطقوس الجامدة، من بينها طقوس الموت والزواج، أو بمجموعة من التعاليم يفرغونها من محتواها الفلسفي ويخالفون فيها جوهر النص الديني.
وليس سرا أن عدداً من المعممين والناشطين في الحقل الديني لا يكتفون بمنح أنفسهم المراتب والألقاب، كالعلامة والأمير والداعية وغير ذلك من صفات، من غير رقيب ولا حسيب ولا لجنة فاحصة ولا امتحان أهلية، بل يجعلونها وسيلة لتحقيق مآرب ومصالح ومكاسب دنيوية، أو غطاء لارتكابات أخلاقية واجتماعية وسياسية يندى لها الجبين، من بينها التحريض الطائفي والمذهبي الرخيص، فيما لا يتورع بعضهم عن قبول أدوار وضيعة، تغطية على ارتكابات أهل السلطة السياسية، أو تنفيذا لأوامر أجهزتها الأمنية والمخابراتية.
إذا كان تشريع العنف لغايات سياسية في العصر الحديث قد بدأ مع الستالينية، واعتمدته أنظمة سياسية توتاليتارية، إلا أن من قام بتعميمه وتشريعه في بلادنا هي تيارات مارست السياسة باسم الدين وأغلقت باب الاجتهاد وفتحت باب القتل على شبهة الاختلاف ومنعا للتنوع، أسوة بتاريخ القتل الذي كان سائدا في كل المجتمعات القديمة شرقا وغربا .
لم يحصل ذلك بسبب تزوير مقصود لأحداث التاريخ ، بل لأن بعض من تنطحوا للتفسير والتأويل قرأوا الأحداث والنصوص بعيدا عن ثقافة العصر الحديث، ولم يحصلوا، لا من العلوم الدينية ولا من الوضعية، على ما يمكنهم من عصرنة الدين، فلم يعثروا في تراثنا الغني على غير مفردات التكفير والتخوين والردة والقتل يرمون بها كل مخالف لهم بالرأي أو الدين أو العقيدة أو مغاير لهم بالتأويل والتفسير، ولم تكن التجربة الأفغانية أيام حكم طالبان حدثا عابرا في تاريخ الاسلام السياسي، بل هي ساعدت، مع غيرها من التيارات والشخصيات في العالم الاسلامي، على تعميم الموقف العدائي من الفن والتراث ومن انجازات الحضارة الحديثة وحقوق الانسان، ولا سيما الموقف من الحرية والديمقراطية والموقف من حق المرأة في العلم والعمل أسوة بالرجل، وعلى تعميم ظاهرة العنف والاغتيال السياسي والعداء للآخر وخصوصا للغرب ، وصبغ العالم الاسلامي بصبغة الارهاب .
فيما تسعى السلطات المعاصرة إلى إلغاء عقوبة الاعدام أو الحؤول دون تنفيذها أو إلى تضييق حالات تنفيذها ، رغم أن الحكم بالإعدام يصدر باسم الشعب والقانون والعدالة ، نرى بعض من يمنحون أنفسهم ألقابا دينية يسيرون عكس تيار الحضارة الحديثة ، فيقرر شخص منهم بمفرده ، مجيزا لنفسه باسم الدين، إصدار أحكام بالقتل الجماعي والاغتيال. أي دين يرضى بذلك أو يجيزه؟ أية جاهلية هذه ؟
الأدهى من كل ذلك، وبصرف النظر عن النقاش المتعلق بعلاقة الدين بالدولة، أن الأصوليات الدينية أثبتت، خلال توليها السلطة السياسية، أنها فاقت الأصوليات الأخرى القومية واليسارية عسفا وظلما، وهذا ما بينته تجارب أفغانستان والصومال والسودان وغيرها، أو تجارب طالبان والقاعدة وسائر الأحزاب التي صنفت إرهابية، وذلك لأنها بعثت من تحت ركام الماضي نموذجا للحاكم بصفته ممثلا الله على الأرض، بالحاكمية أو بولاية الفقيه، وأنها راحت تدير شؤون البشر، في عصر الإلكترونيات، بعقلية البدو الرحل، بعيدا عن الأنجازات التي حققتها البشرية في علم السياسة، ولا سيما الديمقراطية التي تنطوي، في أحد معانيها، على تأمين أوسع مشاركة للناس في إدارة شؤونهم. كما أنها بعثت من رماد الماضي لغة السحر والخرافة وعقلية الأباطيل التي لا علاقة لها بالعقل الحديث.
هل آن الأوان ليقول الفقهاء الكلمة الفصل ويستأنفوا حركة الاصلاح الديني ، تأويلا واجتهادا، دفاعا عن الدين ، ثم دفاعا عن وحدة أوطان مهددة بجهل الجهلاء واستبداد المستبدين وتسلط المتسلطين على شؤون الناس في دينهم ودنياهم؟
إصلاح ديني أم إصلاح سياسي
نخلص مما سبق إلى أن داعش ظاهرة بالجمع لا بالمفرد، وأن إقامة الدولة الاسلامية في العراق والشام هو تعبير جديد عن مشروع قديم رفعت لواءه كل حركات الاصلاح الديني، الوهابية في الحجاز والمهدية في السودان والسنوسية في المغرب العربي، ولا سيما في ليبيا، وغيرها في اليمن وفي العراق. وقد انقطع سياق هذا المشروع في مرحلة الاستقلال، ونهض بديلاً عنه مشروع قومي كانت الأوطان القطرية منطلقاً له.
لا شك أن بين المشروعين الديني والقومي تباينات كثيرة. قد تكون داعش وكل المشاريع ذات الايديولوجية الدينية أكثر تجسيداً للتخلف الفكري والاجتماعي، وأكثر وحشية في ممارسة العنف ضد الآخر المختلف في الدين أو في العرق أو في اللغة، وضد المرأة، وضد الحضارة الحديثة والعلم وكل أنواع الفنون، غير أن بينهما قاسماً مشتركاً أساسياً على الصعيد السياسي هو الموقف من الدولة الحديثة والديمقراطية.
التجربتان القومية والدينية صالحتان لاستخلاص دروس مفيدة تساعدنا على إعادة تشخيص أمراضنا وعلى وصف العلاج. الدرس الأول هو أن حركات الاصلاح الديني الأولى حصرت برنامجها في إطار الدين، باستثناءات قليلة تعود إلى أفراد كالأفغاني ومحمد عبده، اعتقاداً من رواده بأن أسباب التخلف في عالمنا العربي تعود إلى فهم مغلوط للدين، ولذلك اقتصرت معالجاتهم على برامج تتمحور حول العودة إلى أصول الدين وتخليصه مما علق به من بدع وضلالات وخرافات وأساطير، ولا يتحقق ذلك إلا باستحضار السلف بسيرته وثقافته وقيمه. فكان من الطبيعي أن تؤسس حركة الاصلاح الديني لأصوليات(العودة إلى الأصول) وسلفيات( العودة إلى السلف)، وكان من الطبيعي أيضاً، أمام تعدد الأصول والأسلاف والمدارس والمذاهب الفقهية، أن تتعدد حركات الاصلاح الديني.
أما البرامج التي تجاوزت الشأن الديني إلى سواه فقد كانت محدودة جداً. السنوسية، وإلى حد ما المهدية، أضافت إلى برنامجها الديني صيغة جديدة لإنتاج الثروة وتوزيعها، يمكن تشبييه بالتعاونيات في الاقتصاد الحديث، من غير أن يكون لمنجزات الحضارة الحديثة في العلم والصناعة أي دور في عملية الاصلاح تلك. فلم تشمل تلك البرامج أي إصلاح زراعي أو تربوي أو ثقافي، ربما لأن مصدره “غربي مسيحي مادي”، على ما كانت تنعت به الحضارة الوافدة من أوروبا، والتي لم يعتمدها سوى محمد علي باش في مصر في القرن التاسع عشر.
الدرس الثاني هو أن الجيل النهضوي الثاني الذي بدأ نشاطه مبعثراً، منذ أواخر القرن التاسع عشر ومناهضة الاستعمار الانكليزي في مصر، ثم تعمم في كل العالم العربي خلال مرحلة الاستقلال، واستمر حتى بوعزيزي، أخفق هو الآخر في معالجة أمراض التخلف، مع أنه تجاوز برامج الجيل الأول نحو إصلاح اقتصادي وثقافي، وحقق قفزات في مجالات التنمية والتربية وتعميم التعليم والجامعات.
إلا أن إخفاق الجيلين يعود إلى سبب مشترك، وهو أياً منهما لم يلج الاصلاح من بابه السياسي، ووقف موقفاً عدائياً من الديمقراطية والدولة الحديثة، وحافظ على الصيغة القديمة لدولة الوراثة. ذلك أن الفارق الأساسي بين نوعي الدولة هو وجود عنصر جديد في الدولة الحديثة لم يكن موجوداً في القديمة. هذا العنصر هو الشعب. في الأنظمة الحديثة الشعب هو مصدر السلطات، ولا تقوم الدولة ولا الأوطان إلا بأركان ثلاثة أولها الشعب، ثانيها الأرض، ثالثها السيادة الوطنية، أي سيادة الشعب على أرضه. الجيلان، بأصولهما الدينية والقومية واليسارية، تعاملا مع الشعوب على أنها رعايا، مع تمايز القيادة اليسارية التي حكمت نوعين من الرعايا، رعية حزبية وأخرى شعبية، وعملا على تعزيز انتماءاتها الدينية والقبلية والعشائرية، على حساب الروابط المدنية التي تصنع الأوطان، وفي هذه الحالة يكون صاحب السلطة والسلطان هو الراعي. راع ورعية، فبماذا إذن تبنى الأوطان؟
من ناحية أخرى، تناول كل من الفكر القومي والفكر الديني قضية الماضي والتراث بمنهج الثنائيات المغلوطة (التعبير لمحمد عابد الجابري)، مثل التراث والحداثة، الأصالة والمعاصرة، الماضي والحاضر، فبدا للكثيرين منهم أن تكريم الماضي هو السبيل لبناء المستقبل، وتكريمه يقضي بالعودة إليه وإحيائه، أو على الأقل إحياء ما أسماه بعضهم “الجانب المضيء”، فالتقى الطرفان على الاهتمام به، كل على طريقته، فتسمى حزب البعث بهذه التسمية انطلاقاً من منهج الرؤيا ذاك، وكانا على موعد مع اليسار الماركسي الذي يعتقد أن الجديد لا يمكن أن يولد إلا بموت القديم، وأن نقد الماضي يبدأ بنقد الدين، فتضافرت الجهود الفكرية من أجل إعادة قراءة التراث، ولاسيما الديني، وتولى هذه المهمة مفكرون كبار من المشرق والمغرب، من بينهم حسين مروة والطيب تيزيني ومحمد عابد الجابري ومحمد أركون وسواهم، وكان الجزء المضمر من همهم هو الاصلاح الديني.
لا محاولات العودة إلى الأصول، ولا قراءة الأصول قراءة نقدية، تمكنتا من تحقيق إصلاح ديني كالذي حصل في مجتمعات أخرى ومع أديان أخرى. قد تفيدنا التجربة الأوروبية في تفسير النجاح الذي تحقق على يد البروتستانتية في الشمال الأوروبي وتعممت نتائجه على سائر أنحاء العالم المسيحي.
الملاحظة الأساسية التي تحكم نظرتنا إلى الاصلاح هي أن الصراع داخل الكنيسة لم ينته بغالب ومغلوب بالمعنى الفقهي واللاهوتي للكلمة. فقد ظلت ساحة الصراع محصورة داخل أوروبا، بين شمالها الإصلاحي وجنوبها المحافظ، بين الكنيسة اللوثرية وتلك المتفرعة منها من جهة، وكنيسة روما من جهة أخرى، ولم تكتب نهاية المعركة الدموية الطويلة بين الطرفين إلا بالحبر السياسي، وكان النصر المعنوي فيها من نصيب حركة الاصلاح البروتستانتي، لكن الذي حقق النصر هو نابليون بونابرت الذي عقد مساومة مع بابا روما تقضي بأن تتخلى الكنيسة عن اهتماماتها الدنيوية لسلطات الدولة الحديثة الناشئة على أن تتولى الأخيرة حماية الكنيسة وحرية الإيمان والمعتقد وممارسة الطقوس.
الملاحظة الثانية هي أن حركة التجديد الديني نجحت في توسيع رقعة انشارها في المقاطعات والبلدان التي وقف حكامها من الأمراء إلى جانب اللوثرية، وفشلت في الجنوب حيث كان نفوذ البابوية ممتداً بين إيطاليا ومدريد. والثالثة هي أن الثورة الفرنسية لم تحسم الصراع لصالح تيار فقهي ضد تيار آخر، فقد ظلت فرنسا على ما كانت عليه، يدين معظم سكانها للكاثوليكية لا للبروتستانتية، ما يؤكد أن مضمون الاصلاح الديني ليس دينياً.
الملاحظة الرابعة هي أن بلدان العالم الأخرى التي تدين بالمسيحية لم تشهد حروباً مماثلة لتلك التي حصلت في قلب القارة الأوربية، ولا هي احتاجت إلى نقل الصراع إلى أراضيها وإلى انقسام المؤمنين بين كنيستين. فقد حصل الاصلاح الديني في كل مكان، من غير صراع وانقسام ومذاهب وتيارات، وانحصر مضمونه في أمر واحد هو الفصل التام والكامل بين سلطة الكنيسة وسلطة الدولة، والتزام الكنيسة حقها في الاشراف على التربية الروحية للبشر، بحماية مباشرة من سلطات الدولة الحديثة، من غير أن يؤثر ذلك سلباً أو إيجاباً على أعداد المؤمنين ولا على انتشار الكنائس ولا على حجم الاستقبالات الجماهيرية للحبر الأعظم في العالم.
لا الاصلاح الديني ولا أشكال الصراع ولا طبيعة الحل انتقلت إلى بلادنا في صورها السليمة والصحيحة. فقد اختفى من الصورة الشكل الأساسي للصراع بين طرفين دينيين، لتحل محله نتائج الصراع. من ناحية أخرى، لم تكن البروتستانتية طرفا في حل النزاع الديني بين الكاثوليكية والبروتستانتية، أو النزاع التاريخي بين الجنوب والشمال في أوروبا، لترسو المحصلة على ما بدا أنه هزيمة الكنيسة أمام الحاكم المدني( وهو بالمناسبة لم يكن مدنياً بل عسكري، نابليون )، وقد صورها المحافظون في بلادنا على أنها هزيمة للدين، فكراً وقيماً وطقوساً وعبادات ولاهوتاً وناسوتاً، أمام العلم الحديث.
تصوير الأمور على غير حقيقتها يتحمل مسؤوليتها رجال الدين والجهل، إذ صارت العلمانية في قاموسهم مرادفاً للالحاد، وصارت الدولة الحديثة، دولة القانون الوضعي، تشكل عدواناً على الشريعة، وأنظمة الحكم الديمقراطية عدواناً على الحاكمية الإلهية. وهكذا تكون الأمور قد تعقدت وصار من المحتم أن تؤول الاشكالية المغلوطة إلى معالجات مغلوطة، وأن تتورط بلداننا في حروب ونزاعات لا تفضي إلا إلى المزيد من الحروب والنزاعات، خصوصاً إذا كان أطراف النزاع من طبيعة واحدة، تماماً كما هي الحال في الحرب الدائرة بين داعش وخصومها، الحرب التي تفرض على شعوب المنطقة أن تختار بين استبدادين، لا بين النهضة والتخلف ولا بين التراث والحداثة، ولا بين القديم والجديد، ولا بين الاشتراكية والرأسمالية.
تحقق الاصلاح الديني إذن لا بغلبة فريق على آخر بل بموافقة الكنيسة على قبول الآخر، بقبولها التعدد والتنوع؛ لا بغلبة تأويل على تأويل واجتهاد على اجتهاد، بل بتعايش المختلفين على التأويل والاجتهاد. إنه حل من طبيعة سياسية فرضته التحولات التي حصلت بفعل الثورة الفرنسية، ولا سيما بعد أن كبدت الحروب الدينية أوروبا كثيرا من الخسائر البشرية ومن عدم الاستقرار، من غير طائل. الاصلاح الديني أتى إذن من السياسة: توسيع الأطار الكنسي ليتسع لأكثر من كنيسة ومذهب وتيار، وحصر دور الكنيسة وصلاحياتها في التربية الروحية للمؤمنين، وإخراجها من بطن السياسة.
أزمة الاصلاح الديني الاسلامي في العالم العربي، كما الأزمات الأخرى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، تنبع من التشخيص المغلوط، المبني على نظرية المؤامرة. فقد أجمعت الأصوليات على تحميل المسؤولية للرأسمالية والاستعمار والصهيونية، حتى باتت هذه الكلمات الثلاث بمثابة “اللازمة” في مطلع كل خطاب تخويني، وخارطة طريق لاعتقال أهل الرأي المختلف من المعارضة السياسية والفكرية والدينية . صار العدو الخارجي شماعة تعلق عليها كل مفاسد الحاكم، من نهب المال العام إلى انتهاك الدستور، في حال وجوده، إلى سوء استخدام السلطة والنفوذ، وأرسيت تقاليد ثقافية وفكرية وسياسية شوهت المعاني وحرفت القيم.
برامج الأصوليات الدينية تكاد أن تكون واحدة في كل البلدان وواحدة على اختلاف المراحل . من الوهابية والسنوسية والمهدية وسواها حتى الحركات الإسلامية المعاصرة : الإسلام هو الحل . وحورب برنامج الشيخ محمد عبده القائل إن باب النهضة هو المدرسة، وأفتى علماء الشام بتحريم المطبعة، على ما ورد في “كاتب السلطان” لخالد زيادة . المدرسة والمطبعة من نتاج غرب قيل فيه إنه المادي المسيحي الملحد الاستعماري، إذن من نتاج العدو الخارجي.
وبرامج الماركسيين واحدة: الاشتراكية هي الحل، وترجمتها إلغاء الملكية الخاصة لوسائل الانتاج وفك التبعية عن الاستعمار أو الاستقلال الاقتصادي، أي بمحاربة الرأسمالية بصفتها عدواً خارجياً يتطلب ابتكار أحدث الصيغ للانكماش على الذات .
وبرامج القوميين واحدة : وحدة حرية اشتراكية، ثالوث مبرراته للبناء واهية أمام مبرراته لمحاربة الخارج. وباسمه انتهكت الحريات وقامت الانقلابات وتم القضاء على بذور الديمقراطية الفتية في مصر وسوريا والعراق . كل ذلك باسم محاربة الاستعمار وأعوانه من الرجعية المحلية . فوق ذلك، لم تقف “المآثر” عند حد الاستخدام المسيئ لتلك الشعارات، بل تعدته إلى الإمعان في تفتيت الوحدة القومية ووحدة الأوطان كل على حدة، فانتقلت بلداننا من العالم الثالث إلى الرابع أو الخامس، ولم يبق على الكرة الأرضية أنظمة وراثية غير الأنظمة العربية.
مع هذه الانتفاضات العربية من المحيط إلى الخليج تتأكد فكرة المؤامرة ورسوخها في عقل الحاكم، إذ ما من حركة اعتراضية قامت إلا وكانت، في نظره، من فعل فاعل خارجي، وفي رسوخ نهج الحروب والمواجهات، إذ إن أحب أساليب المعالجة على قلبه هو العنف، حتى لو أدى ذلك إلى حروب أهلية أو إلى تفتيت الوحدة الوطنية أو إلى مجازر جماعية .
هنالك ظاهرة أخرى بينتها تلك الانتفاضات هي انهيار البنى الحزبية القديمة، إما بغيابها الكامل عن الساحة، أو بوقوفها في الصفوف الخلفية والتحاقها المتأخر بركب الحركات الاعتراضية أما الأحزاب المستعصية على النقد فما زالت موجودة من حيث الشكل لكنها في طريقها إلى الانهيار بعد انتقال المبادرة إلى قوى جديدة من الفيسبوك واليسار الإلكتروني، وارتباكها حين تطرح قضية العلاقة بالخارج، ولا سيما حين يكون هذا الخارج “استعماريا ورأسماليا أو من صفوف الشيطان الأكبر”، كما هي الحال في الأزمة الليبية، حيث لم يكن سهلا على الأحزاب ” الثورية والتقدمية ” بنسختها القديمة، الوقوف في الوقت ذاته مع الثورة الليبية ومع المساعدات الدولية للثورة .
ظاهرة ثالثة بالغة الأهمية في تلك الانتفاضات تمثلت في كونها قدمت الدليل القاطع على أن أسباب تخلفنا كامنة في الداخل، وأن الخارج قد يكون محفزا على التقدم أوقد يكون معيقا، وذلك بحسب طبيعة القوى الداخلية وطبيعة برامجها، وعلى أن أحد أهم أسباب هذا التخلف هو الاستبداد الذي كان يمارس على شعوبنا العربية بألف شكل وشكل؛ بالالتفاف على الدساتير في حال وجودها، أو بإلغائها وفرض قوانين الطوارئ، باسم مواجهة العدو الخارجي، (قانون الطوارئ عمره عشرات السنين في مصر وسوريا)؛ وبإلغاء حق الانتخاب، حيثما تنص الدساتير على هذا الحق، ذلك أنه حتى في البلدان التي تحصل فيها الانتخابات في العالم العربي كان يتم اختيار الحاكم بالوارثة أو بالتعيين أو بضمان الفوز المسبق؛ وبحكم الحزب الواحد وإلغاء كل صيغ الاختلاف والتنوع والتعدد أو بتحويل هذين التنوع والتعدد إلى عوامل تفتيت وطني وأدوات حروب أهلية؛ وبكم الأفواه وتقييد حرية الإعلام والرأي والمعتقد، الخ، الخ. ولذلك كله اقتصرت برامج الثورات كلها على شعار واحد : الشعب يريد تغيير النظام، وكان المقصود في ذلك القضاء على الاستبداد.
فصل من كتاب هل الربيع العربي ثورة،منشورات ضفاف، بيروت، 2015
مقالات ذات صلة
جامعة الأمة العربية ومحكمة العدل الشعبية
نقول لحزب الله ما اعتدنا على قوله
الإذعان بعد فوات الأوان