“تفكيك الشيفرة” يحيل إلى دلالات من بينها أن حزب الله لغز وأن الدخول إلى خفاياه أمر معقد لا يعرفه إلا الراسخون في علم تفكيك الشيفرات. ومن بينها أن حزب الله ظاهرة “أمنية” لا يكتشف خلاياه النائمة إلا أجهزة من جنسها. على أنه لا هذه الدلالة ولا تلك قد تكونان صالحتين لمقاربة المسألة، لأن الأولى تفترض أن حزب الله ينتمي إلى عالم المسائل العلمية الرياضية، فيما تختزله الثانية في صورة تنظيم مهمته الوحيدة ممارسة العنف المسلح، ويقوم نشاطه على العمل السري، بكل ما ينطوي عليه ذلك من نية للاعتداء على الأفراد أو التآمر على الدولة والعمل على الحلول محلها بالوسائل العنفية أي بالقتل أو السحل أو الإبادة أو الاغتيال أو الانقلاب العسكري، وهي مصطلحات استخدمتها الأصوليات الدينية والقومية واليسارية في بلادنا على امتداد القرن الماضي.
ومع أنني لست مناصراً لحزب الله ولا لأي حزب يعمل على النيل من سلطة الدولة وسيادتها وينتهك القانون، لكنني آت من لبنان، البلد الذي جربت فيه الأحزاب، كل الأحزاب، العنف على مدى عقود، البلد الوحيد الذي كانت تمارس فيه الديمقراطية بحدها الأدنى، لكنه البلد الوحيد الذي تمكن من تحرير أرضه وقهر العدو الاسرائيلي وأخرجه ذليلاً بقوة السلاح، وكان للأحزاب جميعها فيه، ومنها حزب الله، دور في تحقيق هذا الإنجاز الوطني والقومي الباهر، مثلما كانت له حصته الوافرة في استخدام العنف، في تجربة فريدة لم تتكرر في أي بقعة من بقاع العالم العربي، لأنها تجربة مركبة، ولا يصح أن تكون الأولوية في تناولها من غير الزاوية السياسية.
في ظل نظام ديمقراطي (نسبياً)، شهدت التجربة اللبنانية استخدام العنف المسلح، بعضه لخدمة قضية غير فئوية وغير حزبية، قضية وطنية هي تحرير الأرض من الاحتلال. وبعضه الآخر في عمليات أمنية حزبية وعمليات قتل واغتيالات، وفي مواجهة أجهزة الدولة بغية تقويضها واستبدالها بنماذج أخرى من الدولة، كالدولة القومية، دولة الوحدة العربية، أو الدولة الاشتراكية، الدولة الاسلامية والوطن القومي المسيحي. ولم يكن حزب الله هو الذي افتتح حفلة الجنون اللبنانية هذه ولا كان هو سببها، إذ سبقه إلى هذه المغامرة تحالف ضم الأحزاب والمنظمات الفلسطينية المسلحة وأحزاباً لبنانية ذات توجهات يسارية أو قومية أو إسلامية.
تركت هذه التجربة، بسبب فرادتها، التباساً في معنى العنف*، وانتشرت في الوعي الشعبي، لدى الأغلبية من الشعب اللبناني، صورة بهية وإيجابية عن السلاح، فغدا “زينة الرجال” بحسب تعبير رجل الدين المعتدل موسى الصدر، مثلما غدا في لغة نزار قباني وصوت أم كلثوم بمثابة الهوية الوطنية والقومية “هويتي بندقيتي”، في ظل ما كان يسمى التخاذل العربي أمام الغطرسة الاسرائيلية.
وقد تكرس هذا المعنى بعد أن اجتاح الجيش الاسرائيلي بيروت وأرغم على الخروج منها بقوة البندقية، ثم أُرغم على الانسحاب من القسم الأكبر من الأراضي التي احتلها تحت ضربات المقاومة الوطنية اللبنانية، ثم على الانسحاب الكامل في وقت لاحق بعد تراجع دور المقاومة الوطنية، وبعد أن استأثر حزب الله بهذا الدور طيلة العقد الأخير من الاحتلال، ما جعله يبدو، في نظر مواطني الجنوب اللبناني، الطرف الوحيد الذي وفر لهم مستوى من الأمن على الحدود مع فلسطين المحتلة لم ينعموا به منذ النكبة، مع أن عمره لم يكن قد تجاوز العشرين عاماً، ما بين تأسيسه في عام 1982، بإشراف إيراني مباشر غداة الاجتياح، وتحرير التراب اللبناني في عام 2000.
بعيداً عن البحث في تفسير أسباب هذه الظاهرة، نكتفي هنا بالإشارة إلى أن توزيع السلاح على المواطنين جعلهم يتجرأون على الدولة وأجهزتها، ووفر لهم تدفقاً مالياً غزيراً على لبنان لتمويل الحرب، مترافقاً مع تقديمات اجتماعية ومساعدات عينية على المسلحين وأهاليهم، وخصوصاً على منطقة الجنوب ذات الغالبية الشيعية منذ بداية الحرب الأهلية، فيما وظفت منطقة البقاع، وهي الأخرى ذات غالبية شيعية، استخدام السلاح لحماية الخارجين عن القانون والهاربين من وجه العدالة ومرتكبي أعمال الخطف للابتزاز المالي، مع ما في هذه الوسائل من مصادر للثروة غير المشروعة عن طريق الاتجار بالممنوعات وفرض الخوات. وقد استفاد حزب الله من هذا المناخ بعد تأسيسه وعززه بالمزيد من التقديمات بتمويل إيراني مباشر ومعلن.
من ناحية أخرى، يحيل عنوان الندوة “تفكيك الشيفرة” إلى الظن بأن تحليل هذه الظاهرة الحديثة العهد يحتاج إلى منهج حديث. ومع أن حزب الله مولود حديث العهد بين الأحزاب، إلا أنه نسخة مستحدثة بعد الثورة الإيرانية بل مستنسخة من سلالة أصوليات متحدرة من عصر النهضة، تبلورت صيغها وأشكالها خلال القرن الماضي، في أحزاب وحركات سياسية، دينية وقومية ويسارية. (وفي تفصيل ذلك سأصدر خلال هذا العام كتاباً يحمل عنوان ” أحزاب الله” تقوم فرضيته على الاعتقاد بأن جميع الأحزاب الفاعلة في العالم العربي تشبه حزب الله وأن حزب الله يشبهها، رغم الاختلافات الإيديولوجية العميقة والاختلافات السياسبة بينها.)
نستبعد البحث الأمني إذن، ونستهل تفكيك الشيفرة بالسؤال: ما هو مشروع حزب الله وكيف نحسبه من سلالة الأصوليات النهضوية فيما يتحدد تاريخ ولادته بالثمانينات من القرن العشرين، وعلى وجه الدقة غداة الاجتياح الاسرائيلي لبيروت عام 1982، فيما تعود جذور الأصوليات الأولى إلى أكثر من قرن، إي إلى بداية حركة الاصلاح الديني، وتعود ولادة الأحزاب الأصولية الأخرى إلى بداية القرن العشرين ؟ وجوابنا يستند إلى العناصر التالية :
1- البند الأول في مشروعه هو إقامة دولته على حساب الدولة القائمة.
2- دولته المنشودة هي دولة الولي الفقيه الدينية. وهو اعتقاد تروج له المؤسسة الدينية الإيرانية لتسوغ لمرشد الثورة الإيرانية القيام بدور الإمام الثاني عشر الذي ينتظر الشيعة عودته منذ أكثر من ألف عام.
3- هو يريد أن يحقق ذلك بقوة السلاح.
4- هو يريد أن يحكم وحده ويلغي الأخر المختلف بالقضاء عليه فكرياً وسياسياً وجسدياً ويمنع كل أشكال التنوع والتعدد.
غير أن مشروعاً 1- يطمح إلى تدمير دولة قائمة 2- واستبدالها بدولة دينية، 3- ويتوسل طريق العنف لتحقيق هدفه، 4- ويحتكر السلطة ويلغي التنوع، ليس مشروع حزب الله وحده، بل تشاركه فيه كل “أحزاب الله” أي كل الأصوليات، الدينية منها والقومية واليسارية.
الأحزاب الدينية توافقت على شعار “الاسلام هو الحل” بعد أن ألغى مصطفى أتاتورك الخلافة غداة انهيار السلطنة العثمانية، لكنها اختلفت وتصارعت فيما بينها على مضمون الشعار، على أيّ إسلام هو الحل، هل إسلام القرآن أم إسلام الحديث والصحابة والسلف الصالح، وإن حصل اتفاق على أن القرآن هو المرجع، فإن تباينات كثيرة ظهرت في تفسير آياته وتأويلها. في ظل إجماع على تكفير الآخر الذي لا يعتمد المنهج ذاته في التفكير والتفسير والتأويل والاجتهاد الفقهي ( أي عدم قبول التنوع)
لم تكن الظروف مساعدة لأحزاب الاسلام السياسي، فقد فشلت في استعادة الخلافة وعجزت عن استلام السلطة منذ بداية تأسيسها في مصر على يد حسن البنا في نهاية العشرينات من القرن العشرين وحتى انتخاب محمد مرسي في مصر في أعقاب أحداث الربيع العربي. غير أنها، حين أحكمت السيطرة الإيديولوجية على منظمات المجتمع المدني النقابية في معظم البلدان العربية ( في مصر خاصة) والبلديات(في الأردن والجزائر)، وتمكنت من الفوز بالانتخابات النيابية في الجزائر بالوسائل الديمقراطية، اختزلت الاسلام بقضيتي الخمرة والمرأة، ومارست العنف بحق الرأي المختلف وأعلنت من غير مواربة رغبتها بتوسل الديمقراطية للوصول إلى السلطة ثم للاستئثار بها وإلغاء كل أشكال التنوع والتعدد.
إيران هي الدولة الوحيدة (باستثناء السودان المنسوخ نظامه بتصرف عن التجربة الإيرانية : إيديولوجية دينية وحاكم عسكري) التي تمكنت فيها الحركة الاسلامية بقيادة المعممين من استلام السلطة وحققت الحلم الذي راود مخيلة أحزاب الاسلام السياسي، الحلم بإقامة الدولة الاسلامية على أنقاض الدولة القائمة، وشكلت حافزاً أمام الحركات المماثلة في بلدان العالم العربي والعالم الاسلامي، فقدمت القيادة الإيرانية الدعم لها عملاً بمبدأ تصدير الثورة وساعدتها على تشكيل أحزاب تابعة لها من بينها حزب الله اللبناني.
ولئن كانت الأصوليات الدينية قد نجحت في إقامة دولتها في بلد واحد هو إيران، فإن الأحزاب القومية تمكنت، عن طريق الانقلابات العسكرية، من تدمير الدولة في معظم البلدان العربية. بعد الاستقلال، دشن حسني الزعيم المرحلة بأول انقلاب في سوريا عام 1949،( سبقه انقلاب أيام الانتداب في العراق بقيادة بكر صدقي)، تلاه انقلابان آخران في العام ذاته، قام بهما كل من سامي الحناوي وأديب الشيشكلي، وبعدها انقلابات متتالية في الأعوام 51 و54 و61 و66 وآخرها الحركة التصحيحية بقيادة حافظ الأسد عام 70. غير أن الانقلابات الأكثر دموية حدثت في العراق، أولها انقلاب عبد الكريم قاسم عام 58 وبعده سلسلة انقلابات قام بها حزب البعث وانتهت بانقلاب أحمد حسن البكر68، ووصول صدام حسين على رأس الدولة عام 69. في البلدان الأخرى في مصر عام 52 بقيادة عبد الناصر، القذافي في ليبيا 69، بومدين في الجزائر 65، علي عبد الله صالح في اليمن78. السودان شهد محاولات عديدة كان أهمها انقلاب النميري في 69 وانقلاب عمر البشير 89. ولم ينج أي بلد عربي من جحيم الانقلابات، أو المحاولات الفاشلة أو المكتومة.
ذريعة مشتركة في كل هذه الانقلابات هي القضية القومية بعناوينها المتعددة، تحرير فلسطين والوحدة العربية والاشتراكية ومحاربة الاستعمار. وخارطة طريق واحدة، الاستيلاء على أجهزة الدولة بعد البيان رقم واحد، واعتقال القيادة السابقة أو نفيها أو قتلها واعتماد نظام الحزب الواحد على الطريقة الشيوعية، أي إلغاء الآخر بكل الوسائل المتاحة، ثم تحالف مع المعسكر الاشتراكي وعلى رأسه الاتحاد السوفياتي. هذا ما قامت به انقلابات سوريا والعراق ومصر والسودان واليمن وليبيا والجزائر، عندما اغتصبت السلطة بقوة السلاح وحاولت بناء الدولة الاشتراكية على أنقاض الدول القائمة، لكن أنظمتها انهارت إما مع انهيار الاتحاد السوفياتي في تسعينات القرن الماضي إما مع اندلاع أحداث الربيع العربي في بداية القرن.
قراءة مغلوطة للتاريخ
أزمة هذه الأحزاب الأصولية مع مجتمعاتها ومع المجتمع الدولي ناجمة عن موقف مغلوط من التاريخ ومن الغرب ومن الحضارة الناشئة في أوروبا، وهي أزمة ولدت مع الأصوليات التي وقفت موقفاً واحداً من الرأسمالية لكن بتعبيرات مختلفة. تبدوالعودة إلى عبدالله العروي في كتابه: مفهوم الدولة ، مهمة ومفيدة في هذا المجال، حيث يقول عن الموقف من الحضارة الوافدة: “لم تمثل السلفية والوطنية إلا وجهين لحركة واحدة”(ص.188)
1- الموقف المغلوط من الرأسمالية:
أخطأت الأصوليات في تحديد هوية الرأسمالية وفي تحليل آليات عملها وتطورها وفي طريقة التعامل معها كمخلوق جديد في تاريخ البشرية. فقد شكلت الرأسمالية، في نظر الأحزاب الدينية، “عدواناً” صريحاً على الأديان فقلصت دورها في البداية ثم أزاحتها عن مسرح التاريخ، مستخدمة في هذا العدوان سلاحاً جديداً إسمه “الدولة الحديثة” التي نقلت إدارة المجتمع والشأن العام من داخل الكنيسة إلى البرلمانات، ومن الملكيات المكلّلة ببركة رجال الدين، إلى الجمهوريات المكللة بتاج الديمقراطية وحكم الشعب. كما شكلت، في نظر الأحزاب القومية، عدواناً لا على التاريخ فحسب بل على الحاضر أيضاً، بنزعتها التوسعية(التطور الأفقي للرأسمالية) التي تجسدت، في مراحلها الأولى، بالاستعمار المباشر. أما الأحزاب الماركسية فقد رأت فيها عدواناً على المستقبل، لأن الاشتراكية، في نظرها، هي مستقبل البشرية الوحيد. ولهذا التقت الأحزاب الأصولية كلها على موقف موحد من الرأسمالية، فرفضت الصيغة السياسية للرأسمالية، أي الدولة الحديثة، واختارت، للتهرب منها، ذرائع تفضي إلى قيام أنظمة استبدادية. الأحزاب الدينية طالبت بعودة الخلافة، والأحزاب القومية اعتمدت الأنظمة العسكرية والانقلابات وحكم ضباط الجيش، والشيوعية تبنّت نظرية الحزب الطليعي، ثم ترجمتها على الصعيد العملي بتفرد الحزب بالسلطة وإقامة الأنظمة التوتاليتارية.
اللغة الكفاحية لدى “أحزاب الله” لم تر في الرأسمالية سوى الوجوه السلبية. فهي استغلال الانسان للانسان في نظر الشيوعيين، وهي الاستعمار أو مطامع الغرب في نظر القوميين، وهي خليط من هذا وذاك مضافاً إليهما، في نظر الاسلاميين، كل التهم الممكنة المتعلقة بالفكر المادي في مواجهة الروحانيات، أو بالمسيحية مقابل الإسلام أو بالعلمنة الملحدة مقابل الايمان، أو بالاستكبار العالمي ضد المستضعفين في الأرض. من لينين وقوله إن الامبريالية أعلى مراحل الرأسمالية حتى الخميني ونعته الولايات المتحدة الأميركية ب “الشيطان الأكبر” استمرت الأصوليات القومية والدينية واليسارية تبني استراتيجياتها الكفاحية انطلاقاً من تفسير أحادي لمدلول المصطلح، ما جعل مسارها الكفاحي محفوفاً بمخاطر المشي عكس إرادة التاريخ، كما أن قراءتها المغلوطة لتاريخ نشوء الرأسمالية وآليات عملها دفعت قطار الأصوليات إلى خارج سكة التاريخ.
غير أن للبحث العلمي رأياً آخر. ومن أسف أن يكون تاريخنا الحديث قد كتب على أيدي السياسيين لا على أيدي العلماء. البحث العلمي رأى في الرأسمالية ثورة. فؤاد مرسي تحدث عن رأسمالية الثورة الصناعية وعن رأسمالية الثورة العلمية (الرأسمالية تجدد نفسها، منشورات عالم المعرفة، الكويت، 1990)، وكرر كلامه عن “مزايا” الرأسمالية في أكثر من مكان في كتابه، قائلاً عنها أنها “تولت، بفضل الثورة العلمية والتكنولوجية التي قادتها، تطوير القوى المنتجة بنجاح” (ص177)، ويقول في مكان آخر، ” إن الثورة العلمية والتكنولوجية هي وريثة كل ذلك التقدم الذي حدث في مجال تطوير قوى الانتاج على أيدي الرأسمالية” (ص22)، و “لا يمكن فهم الرأسمالية المعاصرة دون فهم الثورة العلمية والتكنولوجية الراهنة”(ص19).
أُشبع تاريخ نشوء الرأسمالية ارتباطاً بالثورة الصناعية درساً، وقد أشرنا إلى ذلك بنوع من التفصيل في كتابنا، هل الربيع العربي ثورة(منشورات ضفاف،بيروت،2015). في البداية كانت صناعة النسيج والآلات والسفن البخارية، والانتقال من الصناعة اليدوية إلى الصناعة الآلية، والتقدم في علوم الكيمياء والفيزياء وتطوير وسائل الاتصال من القطار إلى السيارة والطائرة والهاتف والتلغراف إلى وسائل التواصل الحديثة عبر الانترنت، الخ ألخ. بحيث يمكن القول إن الثورة الصناعية الأولى أدت إلى ظهور المجتمع الرأسمالي، كما يمكن قراءة هذه المعادلة بطريقة أخرى والقول بأن نمطاً جديداً من الانتاج تزامن مع ثورة علمية ليكوّنا معاً حضارة جديدة اسمها الحضارة الرأسمالية.
مع الثورة الصناعية أصبحت البشرية “قادرة على مضاعفة الناس والبضائع والخدمات” (ص80 من مجلد عصر الثورة، للباحث إريك هوبزباوم، الجزء الأول من ثلاثية من 2000 صفحة تحكي عن نشوء الرأسمالية في أوروبا، صدر عن المنظمة العربية للترجمة، توزيع مركز دراسات الوحدة العربية. تتضمن هذه المجلدات استعراضاً لتطور الرأسمالية، من مرحلتها الأولى، عصر الثورة، الممتد بين عامي 1789 و1848، والثانية، عصر رأس المال بين عامي 1848 و1870، أي “المرحلة التي صار فيها العالم رأسمالياً”(ص68)، والثالثة، عصر الإمبراطورية، الممتد حتى الحرب العالمية الأولى 1914)، وهي تنطوي على أهمية استثنائية بالنسبة إلى بحثنا هذا، لأنها تتضمن استعراضاً مسهباً للظروف التي أضافت على مزايا الثورة الرأسمالية وفضائلها الكثيرة سلبيتين اثنتين، الامبريالية والاستعمار. غير أن اللافت في موقف الأحزاب الأصولية، أحزاب الله، إشاحتها النظر عن المزايا وتركيزها على ما يمكن تصنيفه في خانة المثالب والبشائع الرأسمالية.
ورد في البيان الشيوعي لكارل ماركس وفريدريك إنغلز أن “من نتائج التحسين السريع لأدوات الانتاج كلها، عبر وسائل الاتصالات المسهلة بصورة هائلة، أن البرجوازية تجر الجميع، حتى الأمم الأكثر بربرية، إلى حلبة الحضارة…” ما يعني أن الرأسمالية، في نظر ماركس، هي بالدرجة الأولى “حلبة حضارة”. كما أكد البيان في أكثر من مكان على أن الرأسمالية شكلت ثورة تقدمية بكل ما تعنيه الكلمة، لأنها قضت على نمط الانتاج القديم ودفعت البشرية إلى عصر الوفرة والبحبوحة والاكتشافات العلمية. هذا الميل إلى التغيير والتقدم والثورة تلازم مع نزوع إلى التوسع، لأن الاقتصاد الجديد هو اقتصاد السلعة، اقتصاد السوق، فكان لا بد من توسيع إطار السوق، بعد أن ضاقت الأسواق المحلية على تصريف منتجات المعامل والمصانع. ربما يكون نزوع الرأسمالية إلى التوسع هو الذي جعلها “تجر الجميع … إلى حلبة الحضارة”، وذلك استجابة لمصالح تجارية بالدرجة الأولى، وبالتالي فلا بد من أن يكون المستفيد من عملية التوسع وصاحب المصلحة فيها هم منتجو السلع، أي أصحاب المصانع في البلدان التي كانت سباقة إلى الرأسمالية، فضلاً عن حاجة هؤلاء لمواد أولية للتصنيع.
النزوع إلى التوسع هو، إذن، جزء من آليات عمل النظام الرأسمالي. بتعبير آخر، لا رأسمالية من غير نزوع إلى التوسع. لقد انصبت جهود ماركس على كشف الآليات الخاصة بانتقال الحضارة من الإقطاعية إلى الرأسمالية، واستشرف زوال الرأسمالية بفعل العوامل ذاتها التي دفعت السابقة إلى الزوال، أي بفعل الصراع الطبقي الذي يدخل في مرحلته الثورية عندما تغدو علاقات الانتاج عاملاً معيقاً لتطور القوى المنتجة. تم تصنيف الكشف عن الآليات في باب البحث العلمي، أما الاستشراف ففي باب الإيديولوجيا، أو على الأقل هكذا استخدمته الأحزاب المكافحة المنافحة للرأسمالية، فاستبدلت مصطلحاً علمياً (نزعة توسعية) بمصطلح سياسي، بل أخلاقي( نزعة عدوانية)
الرأسمالية، باللغة الماركسية، حضارة قبل أن تكون نمط إنتاج. لأنها ثقافة وطريقة عيش ومنظومة قيم، تجسدت فيها علاقات جديدة بين البشر، وتولدت من رحمها روابط اجتماعية مبنية على فلسفة الحرية، حرية الانسان الفرد، التي شكلت الأساس الفلسفي للديمقراطية على الصعيد السياسي. ولأن “أنماط الانتاج لا تموت بالذبحة القلبية” (جورج لابيكا، نحو تجديد الفكر الاشتراكي، بحوث ومناقشات مهداة إلى مهدي عامل في الذكرى العاشرة لاغتياله، منشورات الفارابي، 1997، ص495) و، بالتأكيد، لا تموت اغتيالاً، لا برصاصة ولا بطعنة خنجر ولا بعبوة ناسفة، فإن الأصوليات وضعت نفسها في مواجهة مع الرأسمالية من موقع الجهل بقوانينها وبقوانين التاريخ، فكان لا بد من أن تخسر المعركة.
ما هي قوانين التاريخ هذه؟ وما هي آليات عملها؟ وهل للبشر قدرة على التأثير فيها او على تغيير مسارها؟ ابن خلدون تحدث عن مسار وخط بياني يشبه حياة البشر، تولد الحضارات، بموجبه، وتنمو وتبلغ قمة شبابها، ثم تشيخ وتهرم، ثم تموت. تلك كانت حالة الحضارات السابقة ذات التاريخ المكتوب، الفرعونية والبابلية والكنعانية واليونانية والرومانية والفارسية وسواها، فتحيا واحدة على حساب الأخرى، وربما تولد واحدة من رحم الأخرى. أما الماركسيون فتحدثوا عن خمس حقبات حضارية تبدأ بالمشاعية البدائية وتنتهي بالشيوعية مروراً بالاقطاعية والرأسمالية والاشتراكية. استلهمت “أحزاب الله” نظرية ابن خلدون عن تعاقب الحضارات، ونظرية “الحتمية التاريخية” المشتقة من المدرسة الماركسية، فتخيلت الرأسمالية عدواً يعيش آخر أيامه وخاضت حروبها “المقدسة” ضدها، بغية استبدالها وإزاحتها تعسفاً عن مجرى التاريخ.
الحقيقة التي أجمع عليها البحث العلمي هي أن تمرحل التاريخ مرتبط بتطور قدرات البشر على السيطرة على الطبيعة، أي بتطور العقل البشري وأدوات العمل ووسائل الانتاج. ماركس تحدث عن بنية فوقية وبنية تحتية، وقال إن هذه الأخيرة هي العامل المحدِّد. وأشبعت هذه الفكرة بحثاً واجتهادات وتفسيرات. المتشددون أحاطوا دور الاقتصاد بهالة من القداسة، وآخرون كانوا أكثر مرونة (ماكس فيبر، جورج لوكاش، محمد عابد الجابري). فؤاد مرسي رأى أن تاريخ البشرية مر في ” ثلاثة عصور اقترنت بثلاث ثورات: ثورة العصر الحجري … والثورة الصناعية التي أدت إلى ظهور المجتمع الرأسمالي… والثورة العلمية والتكنولوجية الراهنة” (م.ن. ص15-16). سمير أمين رأى أن لكل بنية اقتصادية بنية إيديولوجية توازيها وتتزامن معها (نحو نظرية للثقافة، معهد الانماء العربي، بيروت، 1989)
استناداً إلى هذه الاجتهادات التي تناولت علاقة البنية الفوقية بالبنية التحتية، الايديولوجيا بالاقتصاد، اقترحنا في كتاب “هل الربيع العربي ثورة؟” تصنيف الحضارات في ثلاثة أجيال، الأول هو جيل الاقتصاد الريعي والعقل الاسطوري الذي انتهى في آخر أيام الفراعنة في مصر، وفيه تعايشت أو تعاقبت مجموعة من الحضارات كالفينيقية والبابلية والكنعانية واليونانية والفرعونية، الثاني هو جيل الحضارة الاقطاعية، أي الاقتصاد الزراعي والعقل الغيبي، أو (الأديان السماوية وغير السماوية)، ومن بينها الحضارة الاسلامية وحضارات الشرق في الهند والصين. أما الجيل الثالث فهو الحضارة الرأسمالية والعقل العلمي. تميز الجيلان الأولان بتعدد الحضارات المتجاورة أو المتزامنة أو المتعاقبة، فيما تميزت الرأسمالية بنزوعها إلى الكونية، فكان أول إنجازاتها، بعد الآلة والصناعة، ربط العالم بشبكة من الاتصالات في البحر والبر وعبر الأثير، فكانت شبكة المواصلات النهرية والبحرية وسكة الحديد والسيارة والطيارة والهاتف والتلغراف والفاكس والراديو والتلفاز وصولا إلى الثورة التكنولوجية والثورة الرقمية وعالم الميديا ووسائل التواصل الالكترونية. في الجيل الأول كان الله، الإله، يتجسد في الحاكم، في الجيل الثاني صار الحاكم يمثل الله( ممثل الله على الأرض)، أما في الرأسمالية فالحاكم يمثل، أو يفترض أن يمثل الشعب.
غير أن تنوع الإجابات التي قدمها المفكرون والفقهاء لم تمنع “أحزاب الله” من الاجماع على مواجهة الحضارة الرأسمالية، لا بصفتها حضارة، بل غرباً وامبريالية واستعماراً، أي بأسماء ذات دلالة سياسية وعدائية وصراعية، مستبعدة الدخول فيها والمشاركة في انتشارها وتوسعها الأفقي.
هل كان يمكن أن يتبدل مسار الحداثة العربية لو تعاملت الأصوليات مع الرأسمالية كحضارة لا كوافد غريب؟ كمنافس لا كعدو؟ إننا نميل إلى الإجابة بنعم، استناداً إلى بدايات التجربة النهضوية ممثلة بجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وخير الدين التونسي ومحمد علي باشا والتجربة في جبل لبنان. واستناداً أيضاً إلى التجربة اليابانية التي بدأت حضارتها الاقطاعية احتكاكها بالرأسمالية بعد نصف قرن من حملة نابليون بونابرت على مصر، لكنها تمكنت، قبل مصر والعالم العربي، من أنجاز دخولها في الحضارة الجديدة.
التجربة اليابانية انتهت بنجاج منقطع النظير، لأن الأمبراطور موتسوهيتو، الذي عرف بالميجي، أو الحاكم المستنير هو الذي قاد حركة الاصلاح، فقلص نفوذ الساموراي(الاقطاعيين) وجردهم من امتيازاتهم، وقام بثورة حقيقية في نظام التعليم، واستعان بتجربة الغرب الرأسمالية وأرسل البعثات العلمية إلى كل من فرنسا وألمانيا وبريطانيا. كان من أولى نتائج تلك النهضة زوال الأمية في اليابان في أقل من نصف قرن، بين 1850 و 1896 (المعجزة في الاقتصاد،آلان بيرفيت، ترجمة بسام الحجار، دار النهار للنشر، بيروت،1997). أما في العالم العربي فقد أجهضت حركة الاصلاح لأن السلطات السياسية تخلت عن مهمتها في رعاية النهضة، فلم تلعب السلطنة دور مساعداً لإنجاج تجربة خير الدين التونسي، ولا تمكنت بعثة محمد علي باشا العلمية إلى فرنسا من متابعة استثمار علومها بعد نفي رائدها رفاعة رافع الطهطاوي ووفاته في السودان، فيما سارت حركة الاصلاح الديني القهقرى من الأفغاني إلى تلميذه محمد عبده إلى تلميذه رشيد رضا، ثم إلى حسن البنا وحركة الإخوان المسلمين.
أول المتغيرات التي أدخلتها الحضارة الرأسمالية على نمط العيش السابق استند إلى الاستثمار في العلم. المدرسة ثم الجامعة، وترسيمة عمر مختلفة تنتهي بالتخصص العالي في فرع من فروع المعرفة، وإن لم يكن في العلم فاستثمار في أي مجال تجاري أو صناعي. الاستثمار مصطلح رأسمالي بدأ منذ أن ألغيت المقايضة وظهرت النقود والبورصة وعالم البنوك. وما كان ذلك ليحصل لولا تكثيف وسائل الاتصال والتواصل والاكتشافات العلمية، التي شكلت أفضل الحوافز والسبل لانتشار الحضارة الرأسمالية وتوسعها الأفقي والعامودي.
الرأسمالية ليست، إذن، مجرد “نمط إنتاج”، وليست سلطة سياسية فحسب، أي أنها ليست مما يمكن تبديله بقرار، ولا هي مما يمكن “القضاء عليه” تحقيقاً لرغبة أو لحلم. بل هي حضارة ونمط عيش وثقافة وعادات وتقاليد، ويقاس عمرها، كما باقي الحضارات، بالقرون، وربما فاقت سواها لأنها أكثر قدرة على تجاوز أزماتها الكثيرة، وأهمها اثنتان خطيرتان، الأولى في الثلاثينات من القرن العشرين، والثانية في بداية القرن الحادي والعشرين، وأكثر قدرة على “تجديد نفسها” (فؤاد مرسي. م.س.)، وهي، بهذا المعنى، لا يمكن أن تكون “خصماً” أو عدواً أو طرفاً في نزاع، بل هي إطار تنشب فيه، بالتناسب مع تطور البنى السياسية والثقافية في المجتمع، أشكال متعددة من الصراعات والنزاعات تؤدي إلى إحداث تبدلات وتغيرات بطيئة، وتفضي، في نهاية المطاف، أي عندما يحين أجل هذه الحضارة، إلى تغيير جذري، لا في بنية السلطة وحدها، بل في كل البنى الاقتصادية والسياسية والثقافية التابعة لها.
بين أن تكون الرأسمالية خصماً، أو أن تكون إطاراً ينتازع الخصوم، في داخله، على السلطة وعلى القيمة الزائدة وعلى ملكية وسائل الانتاج وعلى التفاوت الطبقي وعلى حقوق الانسان، فارق شاسع. ذلك أن الحضارة الرأسمالية لم تكن الحضارة الوحيدة التي يمارس فيه القوي بماله أو بسلطته استبداده بالضعيف، ولا هي الوحيدة التي يتم فيها استغلال الانسان للانسان. قبلها، بحسب ماركس، في البيان الشيوعي ” تاريخ كل مجتمع، إلى يومنا هذا، لم يكن سوى تاريخ نضال بين الطبقات. فالحر والعبد والنبيل والعامي والسيد الاقطاعي والقن، والمعلم والصانع، أي بالاختصار، المضطهدون والمضطهدون، كانوا في تعارض دائم ، وكانت بينهم حرب مستمرة تارة ظاهرة وتارة مستترة ، حرب كانت تنتهي دائما إما بانقلاب ثوري يشمل المجتمع بأسره وإما بانهيار الطبقتين المتصارعتين معاً” ( مختارات ماركس وانغلز الجزء الأول، ص.49-50). وبالتالي، إذا كان التوصيف الماركسي صحيحاً، وهو صحيح، فإن الحرب التي خاضتها “أحزاب الله” الأصولية ضد الرأسمالية كانت نوعاً من التعامل الطفولي مع قوانين التاريخ و حتمياته وطفراته، لأنها لم تكن تناضل لإحداث تغيير داخل الرأسمالية بل كافحت من خارجها أو في سبيل الخروج منها، متحدية قوانين التاريخ، وكان التاريخ هو الأقوى.
الرأسمالية عدوان على التخلف
نشب الصراع بين القديم الاقطاعي والجديد الرأسمالي، أول مرة، داخل أوروبا، قبل أن ينتقل إلى خارجها. هناك كانت تولد الرأسمالية من أرحام الاكتشافات العلمية والجغرافية والفلكية، ومن وسائل الانتاج المبتكرة. لم يبدأ بين مستعمر(بكسر الميم) ومستعمر(بفتح الميم)، بل بين نمطين من العلم، الوضعي والغيبي؛ وبين نمطين من التفكير ونمطين من العيش ونمطين من المُلْكية، بين الموسوعات ومختبر الحياة، بين كوبرنيكوس وغاليليه من جهة والعقل الكنسي من جهة أخرى، بين إقطاعي يملك الأرض وما عليها ومن عليها وبرجوازي يملك وسائل الانتاج الجديدة. من الطبيعي أن يتخذ الصراع والتوسع شكل العدوان. الطرف المعتدي صاحب مشروع جديد يحمل في طياته انقلاباً جذرياً على كل منظومة القيم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية التي كانت سائدة في الحضارة الاقطاعية، وقد بدأ “عدوانه” ضد أوروبا لا ضد سواها، عندما حاولت فرنسا تصدير الثورة بالقوة، من خلال حملات نابليون العسكرية التي توقفت على أبواب موسكو، قبل أن تقرر أوروبا هزيمته ونفيه إلى جزيرة هيلانة، وقبل أن يتمدد العدوان إلى خارج القارة.
أفضت الحروب داخل القارة إلى نتائج حاسمة. بين 1794 و1815، تمكنت فرنسا من الحفاظ على الثورة، وتوسيع رقعة نفوذها، باحتلالها الأراضي المنخفضة وأقليم الراين وأجزاء من إسبانيا وسويسرا وسافوي، ثم كل إيطاليا. غير أن نابليون الذي كاد يحتل أوروبا، هزم مرتين، الأولى حين أرغم على سحب قواته من الشرق بعد صمود عكا وتدخل بريطانيا وقطعها خطوط الامداد عن جيشه، والثانية حين اجتمعت الدول الأوروبية على مواجهته وفرضت عليه الإقامة في المنفى على أرض الجزيرة البريطانية الواقعة في المحيط الأطلسي بين أفريقيا والبرازيل. أما النتيجة الأهم فهي أن بذور الثورة الرأسمالية التي زرعت داخل أوروبا الأنوار والموسوعات والمطبعة والمكوك، أي أوروبا قبل ترسيم الحدود بين كياناتها، لم تعد محصورة، على الصعيد السياسي، في فرنسا الثورة وشعاراتها الثلاثة، الحرية والإخاء والمساواة، بل بدت حروب نابليون بمثابة القمة من جبل جليد ثورة مزدوجة عمت كل أنحاء أوروبا، وجهها الأول التحرر من الهيمنة الفرنسية ومن أية هيمنة أوروبية أخرى على شعوب القارة، ووجهها الثاني الانتقال إلى الحضارة الرأسمالية.
أعيد رسم خارطة الكيانات القائمة، مع المحافظة على توازن القوى بين الدول الخمس الكبرى التي برزت خلال مرحلة الحروب، روسيا وبريطانيا وفرنسا والنمسا وبروسيا. حصل ذلك انطلاقاً من النموذج الحديث للدولة الذي جسدته دولة الثورة الفرنسية وقانون نابليونCode Napoleon، وهي الدولة القومية التي “تطورت على مدى عدة قرون، في منطقة متماسكة الأراضي، موصولة الأطراف، ذات حدود واضحة المعالم، تحكمها سلطة واحدة ذات سيادة، وفق نسق واحد في المجالات الإدارية والقانونية”(إريك هوبزباوم، م.س.ص183). في إطار إعادة رسم الخارطة، انتقلت السيطرة على النرويج من الدانمارك إلى السويد، وتوحدت هولندا وبلجيكا، بعد أن كانت خاضعة لمملكة النمسا، ودخلت تحت السيطرة الروسية فنلندا وجزء كبير من بولندا وعدد من المقاطعات الإيطالية، ونالت اليونان استقلالها بدعم روسي بريطاني وتحولت إلى مملكة يحكمها أحد الأمراء الألمان. (راجع هوبزباوم، عصر الثورة، الفصل الخامس، وعنوانه السلام. ص.203)
تمكّن نموذج الثورة الفرنسية من القضاء على الكثير من الكيانات التي كانت معروفة في ظل الحضارة الاقطاعية، واختفت الدول-المدن، وتقلص عدد الأقاليم التابعة للأمبراطورية الرومانية المقدسة، وباتت فرنسا تحكم القسم الأكبر من ألمانيا، إضافة إلى بلجيكا وهولندا ومعظم إيطاليا وإسبانيا، وجزءاً كبيراً من بولونيا، حيث كان يلغى الاقطاع وتطبق القوانين الفرنسية، وبدت الكيانات الأوروبية كلها غير محصنة ضد أفكار الثورة الفرنسية، التي نشرت أفكاراً جديدة حول الحرية والدولة والكنيسة والسلطة، أفكاراً ألغت الاعتقاد الشائع بين الناس في تلك المرحلة، الذي ينظر إلى الملوك على أنهم آلهة الأرض المطوّبون من الكنيسة.
“العدوان” الرأسمالي، بشعاراته الثلاثة، حرية إخاء مساواة، وبتطبيقاته السياسية النابليونية، يمم شطر القارة الأوربية وملحقاتها أو مستعمراتها في القارة الأميركية، واتخذ شكل الثورة على ما هو قائم، طلباً للحرية بالدرجة الأولى أو للعدالة أو لكليهما. لكن الثورة لم تكن واحدة في منطلقاتها ولا في أدواتها. فقد كان ” الهدف الأسمى لجميع الدول التي واجهت فرنسا هو الحؤول دون اندلاع ثورة ثانية على غرارها” (هوبزباوم، عصر الثورة، ص.220). اندلعت الموجة الأولى من الثورة في “إسبانيا (1820) ونابولي (1820)، واليونان (1821)… وفي أمريكا اللاتينية التي تحررت من السيطرة الاسبانية، وانفصلت البرازيل عن البرتغال في حدود العام 1822. أما الموجة الثانية فقد تركت آثارها على جميع أنحاء أوروبا وعلى قارة أميركا الشمالية، “فنالت بلجيكا استقلالها عن هولندا (1830)، وأثيرت قلاقل في عدة أجزاء من ألمانيا وإيطاليا، كما بدأت في إسبانيا والبرتغال فترة من الحرب الأهلية بين الليبراليين ورجال الكنسية، وانفجر بركان بريطانيا الداخلي في إيرلندا (1829). (م.ن.ص220-222)
الموجة الثالثة “بدت كأنها ربيع الشعوب في القارة الأوربية، فتحول السخط من حركة تململ إلى ثورة، والتقت حركات المعارضة في جبهة مشتركة ضد الملكية المطلقة والكنيسة والأرستقراطية” (م.ن. ص224-226)، وقد أخمدت جميع الثورات وحالات التمرد في ألمانيا وإيطاليا المدعومة من النمسا وبولندا، كما أجهضت حركة التمرد في روسيا، ونشبت حرب أهلية في سويسرا عام 1847.
موجة رابعة من الحروب الأوروبية وحركات التمرد نشبت في مرحلة تشكل الدول واستقلالها في أوروبا. قال هوبزباوم عن عقد الستينات من القرن التاسع عشر بأنه “العقد الدموي” وأعاد السبب إلى “التوسع الرأسمالي الذي ضاعف التوترات في عالم ما وراء البحار” (م.ن.ص149 من المجلد الثاني). لقد شهد القرن التاسع عشر إعادة رسم الخارطة الأوروبية وزوال دول وولادة أخرى.
باستثناء بريطانيا الواقعة خارج اليابسة الأوروبية، كانت تتوزع الجغرافيا الأوروبية بين خمس أمبراطوريات أو ممالك، مملكة إسبانيا، مملكة فرنسا، مملكة هابسبيرغ، الأمبراطورية الروسية والسلطنة العثمانية. بعد الثورة الفرنسية وانتشار الرأسمالية، توحدت المدن-الدول الإيطالية التي كانت تتوزع السيطرة عليها الممالك الثلاث المحيطة بها، وقاد عملية التوحيد غاريبالدي على صعيد السلطة وكافور على الصعيد الشعبي. كما توحدت المقاطعات الجرمانية بقيادة بسمارك، واستقلت المجر عن مملكة هابسبورغ بمساعدة عسكرية روسية، وتشيكيا عن مملكة النمسا، كما استقلت اليونان وبلغاريا عن السلطنة العثمانية، وتحولت بعض المناطق من مقاطعات إلى دول، مثل رومانيا التي تشكلت من اثنتين من المقاطعات التي كانت تحت السيطرة التركية، أو بولندا التي كانت السيطرة عليها محل تنازع بين بروسيا وروسيا، أو سويسرا وبلجيكا اللتين تضم كل منهما أكثر من قومية.
يصف هوبزباوم الحالة في أوروبا خلال تلك الفترة قائلاً: ” برزت مملكة إيطالية موحدة بين عامي 1858 و1870، وألمانيا موحدة بين 1862و1871، ما أدى، بالتزامن، إلى انهيار أمبراطورية نابليون الثانية وكومونة باريس 1870-1871 واقتطاع النمسا من ألمانيا وإعادة هيكلتها بصورة موسعة. ومجمل القول إن “الدول” الأوروبية كلها، عدا بريطانيا، تغيرت تغيراً جوهريا، وتغيرت رقعتها وأراضيها أحيانا، بين عامي 1856 و1871، وأسست دولة جديدة اندرجت في عدادها بعد قليل وهي إيطاليا”( م.ن.ص148)
كل هذا وسواه حصل بعد الثورة الفرنسية، الثورة التي أعلنت قيام الرأسمالية كنظام سياسي. غير أن حروباً عديدة أخرى ومراحل دموية مرت بها شعوب أوروبا، قبل الثورة الفرنسية، وبالتحديد منذ بدأت الحضارة الرأسمالية تبزغ في نمط الانتاج كما في نمط التفكير، إذ إن تاريخ أوروبا كما أميركا كان تاريخ حروب طاحنة طيلة القرنين السادس عشر والسابع عشر، حروب بين جيلين حضاريين، الرأسمالية ضد الاقطاعية في اوروبا، والرأسمالية ضد ما قبل الاقطاعية في أميركا، حيث ارتكب ممثلو الحضارة الرأسمالية في أميركا الشمالية مجازر وعمليات إبادة بحق سكان البلاد الأصليين، أهل البداوة من الهنود الحمر. أما أوروبا، ولاسيما سويسرا وفرنسا وألمانيا والنمسا وبوهيميا وهولندا وإنكلترا وسكوتلندا وإيرلندا والدنمارك، فقد شهدت، على امتداد قرن ونصف القرن، حروباً عرفت بالحروب الدينية و منيت بمجازر من نوع آخر، كان من بين نماذجها دفن الناس أحياء في مرحلة محاكم التفتيش الاسبانية.
أكبر تلك الحروب “التحضيرية” هي حروب الأساطيل بين مملكة إسبانيا و السلطنة العثمانية، على حلبة البحر الأبيض المتوسط، خلال مرحلة طويلة من القرنين السادس عشر والسابع عشر. المملكة كانت تهاجم بقوة الحضارة الجديدة بعد اكتشاف أميركا ورأس الرجاء الصالح. والسلطنة كانت هي الأخرى، تهاجم بقوة الحضارة القديمة، لتوسع حدودها وتحتل نصف مساحة أوروبا، ولم يتوقف الزحف العثماني على اليابسة، إلا بعد أن أذعنت مملكة النمسا التي تحكمها السلالة الملكية الاسبانية نفسها، سلالة هابسبورغ، ووافقت على أن تدفع للسلطنة الأتاوة السنوية، أو ما يشبه الجزية، مقابل عدم توغل الجيش الانكشاري إلى ما بعد حدود النمسا – المجر. أما الحروب الكبرى فقد دارت رحاها على سطح مياه المتوسط، وامتدت في الشرق حتى جزيرة جاوا.
حروب أوروبا مع السلطنة اتخذت، في البداية، من جانب السلطنة شكل الغزو التقليدي، للسيطرة وللحصول على الغنائم، فيما بدا، في ظاهره صراعاً بين الاسلام القادم من الشرق بقيادة السلطنة العثمانية والمسيحية الغربية بقيادة إسبانيا والدولة البابوية. توسلت الأمبراطورية العثمانية حروب الغزو واعتمدت عليها كمصدر من مصادر الثروة، فيما كانت أوروبا تخوض حروبها داخل القارة باسم الدفاع عن الكنيسة في مواجهة حركة الاصلاح الديني أو في مواجهة الاجتياح الاسلامي. غير أن حروبها خارج القارة، في الشرق كما وراء الأطلسي، فكانت دفاعاً عن النسخة الأولى من الرأسمالية، أي الرأسمالية التجارية، وأهمها المعارك على تجارة البهار( حرب البهار). تلك كانت الحروب التوسعية الأولى التي خاضتها الحضارة الجديدة.
في مرحلة لاحقة، لم يعد يكفي الرأسمالية البحث عن أسواق جديدة فحسب، بل صارت تحتاج أيضا إلى مصادر للمواد الأولية، ولذلك عمدت إلى احتلال أفريقيا بأكملها ومناطق وبلدان أخرى، وإقامة قواعد عسكرية ونقاط ارتكاز لحماية طرق المواصلات البحرية، على رأس الرجاء الصالح في جنوب أفريقيا، ثم في عدن على طرف الجزيرة العربية، وصولاً إلى الهند والصين. ثم شقت قناة السويس في القرن التاسع عشر وإزيل الفاصل البري بين البحرين الأبيض والأحمر،اختزالاً للمسافات بين أوروبا والشرق وتفادياً للالتفاف حول أفريقيا ورأس الرجاء الصالح.
خاضت الحضارة الجديدة إذن ثلاثة أنواع من الحروب، صراعات على السيطرة بين القوميات الأوروبية، وتنافساً على الاستثمار الرأسمالي خارج القارة، واستباقاً للثورات وحركات التمرد الداخلية بحرب خارج الحدود القومية. ولم توقف أوروبا الرأسمالية مسيرة هذا التاريخ الدموي إلا بعد حربين عالميتين مدمرتين ذهب ضحيتهما عشرات الملايين من الضحايا. ربما كانت النتائج الكارثية لتينك الحربين هي التي أقنعت الدول الرأسمالية المتحاربة بالتوقف عن توسل الحرب سبيلاً لحل قضايا الخلاف والتنافس فيما بينها. غير أن أهم ما في نتائجهما هو إعلان نهاية مرحلة الاستعمار المباشر في العالم، إذ شهدت السنوات والعقود القليلة اللاحقة حصول الكيانات السياسية القديمة كالهند والصين ومصر أو المستحدثة كباكستان وبنغلادش والمملكة العربية السعودية وسائر بلدان العالم العربي على استقلالها وإقامة دولة في كل منها. وقد حصل ذلك إما بنضال سلمي، نسبياً، كما مع غاندي الهند، أو مسلح كما مع الثورة الجزائرية، فيما تأجلت نهاية الحكم العنصري في جنوب إفريقيا عقوداً أخرى، ولم يبق من تركة الاستعمار القديم إلا الاحتلال الصهيوني لفلسطين والصراع على ملكية بعض الجزر، كالمالوين التي تتنازع السيطرة عليها بريطانيا والأرجنتين، أو سبتة وملليلة بين المغرب وإسبانيا.
لئن كانت الدول الرأسمالية قد اقتنعت بمخاطر الحروب، بل بعدم جدواها في حل المشكلات فيما بينها، فهي تمكنت من تجديد تفوقها على مناطق الحضارات السابقة، باستخدامها وسائل جديدة ومبتكرة للسيطرة على الطبيعة، واقتطاعها الحصة الأكبر من الأرباح في استثماراتها داخل المستعمرات. أما البلدان التي نالت استقلالها أو انتزعته فقد خضعت لقسمة عمل جديدة، أطلق عليها الماركسي سمير أمين مصطلح التطور اللامتكافئ بين المركز الرأسمالي والأطراف المتخلفة، واقتضت هذه القسمة وضع الأطراف على سكة التطور الرأسمالي، ولا سيما في مجالي التعليم والمواصلات، وذلك لتوفير أفضل شروط الحماية لمصالح المركز وأفضل الظروف المناسبة لاستثماراته التجارية والصناعية.
هذا العرض لحروب الرأسمالية هو لإثبات حقيقتين اثنتين. الأولى هي أن الرأسمالية لم تخض حروبها، في المرحلة الأولى، لا ضد الشرق ولا ضد الاسلام، بل ضد الحضارات السابقة عليها، أي أن النزاع لم ينشب بين شرق وغرب أو بين ديانة اسلامية وأخرى مسيحية، بل بين حضارة ناشئة وأخرى بلغت حدودها التاريخية، والدليل على ذلك هو أن حروبها الأولى التي استمرت أكثر من ثلاثة قرون اندلعت داخل القارة الأوروبية وانحصرت بين أبناء الديانة المسيحية ، وأن حربيها الأخيرتين العالميتين، اللتين انفجرتا على مساحة العالم، تتحمل أمبراطوريات القارة ودولها القومية وحدها المسؤولية عن تفجيرهما. ولهذا يصبح أكثر جدوى وأكثر عقلانية النظر إلى العنف المرافق لقيام الرأسمالية بوصفه ثمناً فرض على البشرية أن تدفعه لكي تنتقل من الحضارة السابقة على الرأسمالية إلى الحضارة الرأسمالية، والنظر إليه، بالتالي، لا بعين “التحرر الوطني” من الاستعمار، بل بعين التحرر من التخلف.
هل الاستعمار عدو ؟
الاستعمار شكّل، كما الدولة، حاجة للرأسمالية في تطورها الأفقي، أي جزءاً من تكوينها البنيوي، مثلما شكلت نهاية الاستعمار المباشر عن طريق الاحتلال حاجة لها في تطورها العمودي. لكنها لم تدخل إلى هذا الخيار طوعاً بل أرغمت عليه غداة الحرب العالمية الثانية ووقوف الاتحاد السوفياتي إلى جانب البلدان المستعمرة في مواجهة النظام الرأسمالي العالمي، واحتدام الصراع بين الثنائية القطبية. غير أن هذا الصراع انتهى بانهيار الاتحاد السوفياتي ودخول الرأسمالية في نسختها الثالثة أي العولمة والاستعمار الاقتصادي، لا بالاحتلال المباشر بل بسيطرة الاقتصاد الأقوى على الاقتصاد الأضعف، أو المركز على الأطراف، بحسب تعبير سمير أمين، أو بسيطرة النمط الرأسمالي في بلدان الشمال، والاقتصاد الكولونيالي، بحسب تعبير مهدي عامل، في الجنوب وبلدان العالم الثالث النامية أو ما كان يصنف كمستعمرات سابقة.
أما الدولة فقد عملت الرأسمالية على بنائها على أسس الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان. بيد أن تلك الأسس لم تترسخ في العلاقات بين الدول الرأسمالية الكبرى أو داخل كل منها إلا بعد الحرب العالمية الثانية. وهي لم تكن تجد حرجاً في انتهاكها، حين يحتاج الأمر، وهذا ما حصل مراراً، ولاسيما في مرحلة العولمة، حين تخلت عن آليات عمل الدولة في إدارة الشأن العام ، وتخلت كذلك عن الأسس والمبادئ التي قامت عليها، مطلقة العنان للاقتصاد للحلول محل الدولة في إدارة شؤون الكرة الأرضية. غير أن ذلك كلّف البشرية ويكلّفها أثماناً وتضحيات أضخم من تلك التي دفعتها في المراحل الأولى من قيام الرأسمالية.
لم يطأ الاستعمارأرض الجزء الآسيوي من العالم العربي إلا في أواخر القرن التاسع عشر وبداية العشرين، مكتفياً في البداية بنقاط ارتكاز بحرية على الطريق الموصلة إلى مستعمراته في الشرق، ثم بوجود عسكري مباشر عند نهاية القرن، كانت حصة بريطانيا من ذلك احتلال جزيرة برسم على مدخل البحر الأحمر عام 1799، عدن 1839، السودان 1898 الصومال 1884،العراق 1914، الكويت 1916؛ وحصة فرنسا فترة انتداب على لبنان وسوريا بين الحربين العالميتين. وظل الجزء الأكبر من منطقة الجزيرة العربية خارج الخارطة الاستعمارية وخارج النفوذ العثماني على حد سواء، باستثناء عقد من سني التعاون بين محمد علي باشا والسلطنة.
شهد الجزء الأفريقي من العالم العربي استعماراً صريحاً واضحاً في الجزائر التي احتلتها فرنسا عام 1830، واستمرت سيطرتها إلى ما بعد منتصف القرن العشرين(1962). كما احتلت تونس بعد خمسين عاماً(1881) ولم تخرج منها إلا في العام 1956؛ فيما اكتفت بفرض نظام الحماية على المغرب في بداية القرن العشرين. أما ليبيا، وكذلك الحبشة( أثيوبيا)، فكانت محط أطماع إيطاليا، والتوقيت بداية القرن العشرين. السودان خضع للنفوذ الانكليزي في العام 1898، والصومال في العام 1904. أما مصر فللاستعمار فيها قصة أخرى.
عام 1898 هو عام حملة نابليون بونابرت على مصر. خرج منها في 1801، ليترك فيها نسخة مصرية من “نابليون” جسّدها جندي في الجيش العثماني من أصول ألبانية هو محمد علي باشا، الذي حكم وسلالته مصر حتى عام 1952. كان أمراً لافتاً أن تقفز الأطماع الاستعمارية البريطانية فوق مصر ومنطقة الشرق الأوسط كله لتصوّب بعيداً على الشرق الأقصى والصين والهند الصينية، غير أنها، من ناحية أخرى، لم تكن مطمئنة لمطامع فرنسا، ولذلك ساهمت في إنهاء الحملة الفرنسية وإخراج جيش نابليون والحلول محله، وحين فشلت حملتها هي الأخرى اكتفت بالعمل على تحييد مصر وتأمين طريق المواصلات عبرها من الشرق وإليه. ومن المفيد ذكره هنا أن التجارة مع الشرق، قبل شق القناة، كانت تمر عبر البحر الأحمر ثم تنقل البضائع داخل البر المصري إلى موانئ المتوسط . وقد ازدادت مخاوفها من تعاظم الدور الفرنسي بعد شق قناة السويس، بعد أن منحت الشركة الفرنسية برئاسة دولسبس امتياز الحفر والتشغيل لمدة 99 عاماً، ولذلك تحيّنت الفرصة لتكون شريكاً في هذا المشروع، وتمكنت من تحقيق ذلك بشرائها حصة مصر من تشغيل القناة، مقابل تسديد الديون المترتبة على الحكومة المصرية، ثم باحتلال مصر في العام 1881، بعد ثورة قادها أحمد عرابي تحت شعار سيادة الدولة المصرية على أراضيها، وخصوصاً سيادتها على قناة السويس. بعد حوالي أربعين عاماً نالت مصر استقلالها في ظل حكم السلالة الخديوية ذاتها المتحدرة من محمد علي باشا. وفي العام 1952، انتهى حكم السلالة بانقلاب عسكري أبعد الملك فاروق إلى المنفى. وفي العام 1956 عدوان جديد على مصر الهدف المباشر منه هو تأمين الممر المائي الستراتيجي، قناة السويس، للتجارة مع الشرق.
علاقة الاستعمار بالمنطقة العربية تختلف عنها بسائر المناطق والبلدان المستعمرة في شرق آسيا وإفريقيا السوداء والقارة الأميركية. فهي دامت قروناً في تلك المناطق، من بداية القرن السادس عشر حتى منتصف التاسع عشر في أميركا، وحتى منتصف القرن العشرين في آسيا وإفريقيا، في حين ظل الجزء الآسيوي من العالم العربي في منأى عن الاستعمار المباشر، وكذلك معظم الجزء الإفريقي، باستثناء الجزائر ومصر وتونس، حتى بدايات القرن العشرين وانفجار الحرب العالمية الأولى، التي كان من نتائجها توزيع تركة الرجل المريض، وإخضاع الولايات العثمانية إلى نظام حماية أو نظام انتداب، بقرار دولي من عصبة الأمم.
هذا الاستثناء للمنطقة العربية يعود، كما ذكرنا أعلاه، إلى طبيعة الصراع الذي استمر محتدما مع السلطنة العثمانية طيلة قرن بكامله من الزمن، وتوقف جزئياً على البر عند حدود النمسا، التي وافقت على دفع أتاوة سنوية، مقابل امتناع السلطنة عن شن هجمات باتجاه فيينا، وفي البحر بعد معركة الأساطيل في “ليبانتا” على الساحل الغربي لليونان في العام 1571، التي انتهت بهزيمة الاسطول التركي، وبترسيم حدود افتراضية لتقاسم النفوذ، قضت بجعل البحر المتوسط منطقة آمنة نسبياً لطرق المواصلات، وباتفاقية غير معلنة بعدم الاعتداء لم يلتزم بها أي من الطرفين التزاماً كاملاً، إذ كان الاسطول التركي يعاود نشاطه الحربي في الإغارة مستفرداً بسواحل المدن- الدول الإيطالية، مثلما كان الاسطول الاسباني الأرمادا يشن غاراته على السواحل الشمالية لبلدان المغرب العربي كلما أرخت السلطنة قبضتها على البحر، ولاسيما حين تنشغل بحروبها لناحية الشرق مع الدولة الفارسية، أو لناحية الشمال مع روسيا القيصرية في منطقة القرم.
مع حلول القرن التاسع عشر انتقلت راية التوسع الرأسمالي- الاستعماري من الجزيرة الإيبيرية (إسبانيا والبرتغال) إلى فرنسا وبريطانيا، اللتين، بالرغم من أن النزوع الرأسمالي لا تحده حدود ولا تقف في وجهه عوائق، في البر والبحر ولاحقاً في الفضاء وأعماق المحيطات، وبالرغم من أن انتشار مستعمراتهما قد توزع من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، ركزت الأولى منهما في البداية على أفريقيا وسعت إلى تأمين ممرات مائية وبرية ونقاط ارتكاز لها على الشاطئ الجنوبي للمتوسط، فيما ركزت الثانية اهتمامها على الشرق، ولاسيما بعد الثورة الأميركية، مع ما يتطلبه ذلك من تأمين طرق المواصلات. وقد تزامنت هذه المطامع مع ارتخاء القبضة العثمانية على أراضي السلطنة، بعد صعود نجم محمد علي باشا في مصر ومحاولات قامت بها دولة المعنيين في جبل لبنان لبناء علاقات مباشرة مع الحضارة الجديدة في أوروبا (علاقات مع توسكانا والبندقية). في ظل هذه الظروف ولهذه الأهداف بالتحديد، تمكنت فرنسا من احتلال الجزائر وفرضت سيطرتها في وقت لاحق على تونس، كما تمكنت بريطانيا من تعزيز نفوذها داخل مصر.
“في الفترة بين عامي 1876و1915 كان ربع مساحة المعمورة قد وزع أو أعيد توزيعه كمستعمرات”. بهذه العبارة يؤكد لنا هوبزباوم في مجلده الثالث أن عصر الأمبراطورية الممتد بين 1876 و1915 هو العصر الذهبي للاستعمار، أي أنه بلغ ذروته، أو حدوده التاريخية بالتعبير الماركسي، مع الحرب العالمية الأولى. من جهة أخرى، تؤكد لنا وقائع التاريخ الحديث، أن النظام الاستعماري برمته بدأ بالتفكك ثم بالانهيار مع الحرب العالمية الثانية. وإذا أخذنا بالاعتبار أن العالم العربي من المحيط إلى الخليج(باستثناء مصر وتونس والجزائر) كان لا يزال، حتى بداية الحرب العالمية الأولى، جزءاً من تركة الرجل المريض (الولايات التابعة للسلطنة العثمانية في بلاد الشام والعراق والجزيرة العربية وما تبقى خارج الاستثناء في إفريقيا الشمالية)، يكون من المنطقي الاستنتاج أن بلدان العالم العربي، (ما عدا الاستثناءات الثلاثة) لم تكن، حتى نهاية العصر الذهبي للاستعمار، في عداد قائمة الدول التابعة للتاج البريطاني ولا تلك التابعة لاحقاً للكومنولث، ولا جزءاً من قائمة المستعمرات الفرنسية، وإن صار بعضها، فيما بعد، محسوباً على مجموعة الدول الناطقة بالفرنسية.
يجمع المؤرخون على أن الاستعمار بدأ بتوزيع تركة الرجل المريض عند نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين، إلى أن جاءت الحرب العالمية الأولى فتوزعت الولايات والكيانات العربية بين الحلفاء ودول المحور، وراحت كل منها تؤيد وتناصر من يساعدها على إقامة دول مستقلة عن السلطنة العثمانية، فيما أيد البعض منها ألمانيا، حليفة السلطنة، إما انتصاراً لدولة الخلافة، إما أملاً في أن تساعد، في حال انتصارها، على منح الاستقلال للكيانات التي تمركزت فيها قوات الحلفاء.
في اعتقادنا أن هذا الاستعراض يفيد في فهم موقف “أحزاب الله” من مصطلح الاستعمار، ولاسيما أن هذه الأحزاب تأسست في الفترة التي دخل فيها الاستعمار في أزمته وبدأ يشهد بداية نهايته. الأحزاب الشيوعية العربية تأسست في العشرينات من القرن العشرين، تنظيم الإخوان المسلمين في مصر عام 1928، السوري القومي الاجتماعي 1932، حزب البعث العربي الاشتراكي 1947، أما حزب الله اللبناني فقد تأسس عام 1982.
وضعت “أحزاب الله” الاستعمار في رأس لائحة الأعداء التي تضم الأمبريالية والقوى الرجعية باعتبارها من “عملاء” الاستعمار، ثم الصهيونية في مرحلة لاحقة بعد اغتصاب فلسطين، باعتبارها دولة عنصرية زرعها الاستعمار. ورفعت شعارات الحرية والاشتراكية والعدالة الاجتماعية ووحدة الأمة العربية أو الأمة الإسلامية. واللافت أن الموقف العملي من الاستعمار لم يكن مطابقاً للموقف النظري والمبدئي. فقد كان حزب الإخوان في مصر على علاقة بالدول الغربية، ولاسيما بريطانيا وأميركا، طمعاً منه بنيل الدعم ضد الأنظمة القائمة، وطمعاً منها باستخدامه في مواجهة المد الشيوعي، كما أن الأحزاب القومية ركزت هجومها اللفظي على الاستعمار واقتصر عداؤها له على تحالف غير وطيد مع الاتحاد السوفياتي.
تصوّرت “أحزاب الله” أو صوّرت لشعوبها أن مصدر المخاطر التي تهددها هو، في نظر الأصوليات الاسلامية، “عدوان” غربي مسيحي على الشرق الاسلامي، أو عدوان استعماري في نظر الأحزاب القومية، أو امبريالي في نظر الأحزاب الماركسية واليسارية المرتبطة بجبهة البلدان الاشتراكية. ولهذا فإننا نميل إلى الظن بأن الأحزاب الأصولية استخدمت شعار محاربة الاستعمار لتستفيد من خطاب الثورة السوفياتية التي استقطبت مؤيديها حين طالبت بحق تقرير المصير للشعوب والدول ولتبعد الأنظار عن الخطر الحقيقي الذي كان يهدد بلدان العالم الثالث، خطر التخلف عن ركب الحضارة الرأسمالية. ولذلك يمكن القول إن شعار العداء للاستعمار جاء تلبية لاستبعاد الخطر الداخلي المتمثل بالتخلف عن ركب الحضارة الرأسمالية، ولاسيما أن هذا الشعار طرح فيما كان الاستعمار القديم في طريقه إلى الزوال. وبالرغم من أن أشكال الاستثمار الرأسمالي والهيمنة على العالم قد تبدلت، إلا أن أحزاب الله أصرت على مواجهة “العدوان” الخارجي لتسوغ هيمنتها وطريقة إدارتها الاستبدادية لشؤون بلدانها، تحت شعار التحرر الوطني من الاستعمار.
وقد يتحول هذا الظن إلى يقين حين نستعرض ثلاثة نماذج من التحرر الوطني، الجزائر التي احتلتها فرنسا ما يقارب قرناً ونصف القرن، مصر التي خضعت للاحتلال الانكليزي أربعة عقود، لبنان سوريا والعراق، البلدان التي تحولت من ولايات تابعة للسلطنة العثمانية إلى بلدان مستقلة بعد خضوعها، خلال عقدين من الزمن، للانتداب الفرنسي الانكليزي، بقرار ومباركة من عصبة الأمم.
نالت الجزائر استقلالها، عام 1962، بعد نضال مسلح دفعت ثمنه غالياً فسمّيت ببلد المليون شهيد. ثم توالى على الحكم فيها قادة من جبهة التحرير الجزائرية، تعاقبوا على السلطة فيها، عن طريق الانقلابات العسكرية، وأنهوا ثلاثة عقود من الاستقلال بحرب أهلية تنافست فيها الأصولية الدينية والأصولية المتحدرة من حركة التحرر الوطني ضد الاستعمار على إلغاء الحياة الديمقراطية والمجاهرة باعتماد نظام استبدادي، حديث على الطريقة السوفياتية أو قديم على الطريقة السلفية.
عام 1922، بعد سنوات ثلاث لا تخلو من العنف، وافقت المملكة المتحدة على إعلان استقلال مصر وإنهاء نظام الحماية وقيام نظام دستوري، واستمرت السلالة الخديوية المتحدرة من محمد علي باشا في حكم مصر وتحويله إلى نظام ملكي، إلى أن ألغى مصطفى أتاتورك الخلافة، فقام من يطالب بتنصيب الملك فؤاد خليفة. غير أن معركة التنصيب الفاشلة لم تنته من دون ضحايا، إذ تمّ عزل علي عبد الرازق من الأزهر بعد صدور كتابه عن الإسلام ونظام الحكم، ومنع من الصدور كتاب طه حسين عن الشعر الجاهلي، وتأسس بعد سنوات قليلة حزب الإخوان المسلمين بقيادة حسن البنّا، ليبدأ الإسلام السياسي مشواره المسالم في البداية والدموي في وقت لاحق. بعد موت الملك فؤاد اعتلى ابنه فاروق العرش عام 1936، إلى أن خلعه انقلاب عسكري قام به فريق من ضباط الجيش بقيادة جمال عبد الناصر في العام 1952.
في الحقيقة، يمكن القول إن مصر بدأت الدخول في الحضارة الرأسمالية منذ الأيام الأولى لحكم محمد علي باشا، لكنها دخلت من البابين الاقتصادي والثقافي وبقي الباب السياسي شبه موصد، إلا من بعض مظاهر من التمثيل السياسي هي أقرب إلى نظام الشورى منها إلى الديمقراطية، ثم أدخلت تحسينات عليه في عهد الخديوي اسماعيل، وأيام الاستعمار البريطاني، وصولاً إلى إعلان الدستور عام 1923، واستمرت هذه التقاليد الديمقراطية، على علاتها، حتى ثورة تموز يوليو، التي استبدلت التعددية بنظام الحزب الواحد مع مندرجاته كلها، ولاسيما الدور المتزايد للجيش في الحياة السياسية والانضمام إلى حركة التحرر الوطني العربية في مواجهة الاستعمار، تحت شعارات الوحدة والحرية والاشتراكية.
تجربة لبنان وسوريا والعراق كانت حديثة العهد بالمقارنة مع تجربة مصر. فقد خضعت هذه المنطقة ببلدانها الثلاثة لنظام الانتداب من غير المرور في المرحلة الاستعمارية، وكانت هذه الفترة القصيرة، التي لم تدم أكثر من ثلاثة عقود، فترة تمرين على دخول هذه البلدان في عصر الحداثة، ولاسيما في مجال بناء الدولة، انتهت بإعلان استقلالها التام كدول ذات سيادة تمثلت في الجامعة العربية وفي منظمة الأمم المتحدة. بعد سنوات على الاستقلال بدأت الانقلابات العسكرية، عام 1949 في سوريا وعام 1958 في العراق، التي ألغت التعددية والحد الأدنى من الحياة الديمقراطية واختارت الانخراط في حركة التحرر الوطني من الاستعمار، من غير أن تجد استعماراً تحاربه، بقيادة حزب البعث العربي الاشتراكي في كل من سوريا والعراق، تحت شعارات الوحدة والحرية والاشتراكية، فيما نجا لبنان من انقلاب عسكري فاشل خطط له الحزب السوري القومي الاجتماعي عام 1961.
غير أن الحربين العالميتين الأولى والثانية لم تمرّا من غير نتائج مأساوية على المنطقة العربية، إذ تمكنت الصهيونية العالمية، بالتعاون مع الانتداب الإنكليزي، من إقامة دولة لليهود على جزء من أرض فلسطين على حساب الشعب الفلسطيني الذي تشرد قسم كبير من سكانه في البلدان المحيطة بفلسطين وفي أربع أرجاء الأرض. أما الأكثر مأساوية فهو أن القوى والدول والأحزاب المنضوية في حركة التحرر الوطني العربية تذرعت بالقضية الفلسطينية وبعجز الأنظمة العربية الناشئة عن مواجهة المشروع الصهيوني، فعملت على ترسيخ سياسة الاستبداد ضد شعوبها، وعلى تحويل بلدانها إلى جمهوريات وراثية، ما جعل الشعوب تعلن ثورة الربيع العربي، وتنتفض، عند بداية القرن الحادي والعشرين، في عدد من الدول ضد حكامها، رافعة شعارات التحرر من الاستبداد بدل شعار التحرر من الاستعمار.
العامل الخارجي هو المسؤول دائما، في نظر أنظمة الاستبداد وأحزابه، عن تخلف الأمة العربية، ولهذا شكل المشروع الصهيوني في فلسطين فرصة لا تعوض للتصويب عليه، بصفته عدواً خارجياً، وعلى من قدم له الدعم، فكان الاستعمار مادة دسمة استخدمتها الأنظمة والأحزاب لتحميله مسؤولية ضياع فلسطين وتسليمها للصهيونية تحت رعاية الانتداب الانكليزي، ولتحميل اتفاقية سايكس بيكو مسؤولية إقامة كيانات “مصطنعة”. مع أن تلك الكيانات كانت قبل الانتداب مجموعة من الولايات التابعة للسلطنة العثمانية، فقد كان من الطبيعي أن ترسم الحضارة الرأسمالية خرائط المنطقة بالطريقة ذاتها التي رسمت فيها خرائط بلدان أوروبا(راجع ما ورد أعلاه عن هذا الموضوع). وربما يكون كارثياً أن تكون أحزاب الاستبداد رفضت سايكس بيكو وترسيم حدود الدول ونادت بوحدة الأمة أو بوحدة بلاد الشام ثم فشلت في الحفاظ على وحدة الأقطار التي سيطرت عليها. ربما لأنها سيطرت عليها بقوة الأحكام العرفية والسجون والمشانق، أي بالاستبداد.
هل يمكن القول بعد هذا العرض لتاريخ المصطلح أن “أحزاب الله”، التي رفعت شعار التحرر من الاستعمار لم تجهز نفسها لمقاتلة “العدو خارجي”، وأنها، بدل أن تقاتل الاستعمار المزعوم، تفرغت لتنظيم الحروب الأهلية داخل كل بلد من بلدان الأمة، وللحؤول دون دخول بلدانها في رحاب الحضارة الرأسمالية من بابها السياسي، أي من باب الدولة الحديثة، دولة القانون والمؤسسات والكفاءة وتكافؤ الفرص؟ ويكتسب هذا التساؤل مشروعيته حين نأخذ بالاعتبار أن تلك الأحزاب، في المشرق العربي، وضعت نفسها في مواجهة مع استعمار غير موجود، فدخلت في معركة افتراضية، أما المعركة الحقيقية مع الصهيونية فقد احتلت رقماً ثانوياً في قائمة الأولويات بعد معارك الاحتفاظ بالسلطة لفترات قياسية. أما الحزب الشيوعي في الجزائر فقد كانت أولويته مرضاة رفاقه الفرنسيين، وفي المقابل استفاقت الأصولية الدينية بعد ثلاثة عقود على تحرير الجزائر لتنافس على السلطة بعيداً عن أعين الاستعمار، وفي مصر لم تنقطع العلاقات الودية بين الأصولية الاسلامية والقوى الاستعمارية، فيما حلّ الحزب الشيوعي المصري نفسه تطبيقاً لنظريات سوفياتية عن الثورة والعداء للاستعمار.
سبيل المعالجة
1- إن انطلقنا من أن حزب الله نتاج مؤامرة إيرانية على العروبة نقع في الخطأ ذاته الذي ترتكبه قوى الاستبداد الأصولية، أي قراءة التاريخ انطلاقاً من نظرية المؤامرة، وهذا يعني تحميل العوامل الخارجية المسؤولية عمّا يحل بنا من ويلات، وهو أسلوبها( الأصوليات) في تسليط الضوء على خطر خارجي لتأبيد سياستها الاستبدادية في الداخل. لا شك أن لإيران دوراً أساسياً في إنشاء حزب الله وتمويله وتسليحه والإشراف عليه وتكليفه بمهام في لبنان وخارج لبنان(تفاصيل عن ذلك في النصوص الملحقة). لكن نجاحها في تحقيق هدفها مرتبط بأمرين، الأول هو أن تعداد الوجود الشيعي في لبنان يقارب ثلث عدد السكان، الثلث الثاني من أهل السّنّة والثالث من المسيحيين. والثاني هو أن النظام السوري، بأجهزته الأمنية، هو الذي طوّع قادة الطائفة الشيعية، وهو الذي سهل سبل العبور الإيراني إلى لبنان. يعني ذلك أنه لولا العامل الداخلي لما أمكن للعامل الخارجي أن يفعل فعله. هذا ما تؤكده التجربة في البحرين وفي اليمن، أو في سواهما من البلدان العربية أو الاسلامية.
2- حزب(أحزاب) الله ليس ظاهرة عابرة ولا هي غريبة عن مجتمعاتنا، فهو جزء عضوي من تكوين أوطاننا. حزب الله اللبناني هو حزب لبناني، وحزب الله العراقي هو حزب عراقي. وإن حاولت إيران أو سعت إلى إعطاء ثورتها طابعاً أممياً وإلى تصديرها إلى العالم القريب والبعيد، فإن مسؤوليتها عن أخطاء الأحزاب التي تدور في فلكها تتمثل في كونها قدمت النموذج ووفرت الامكانات المالية واللوجستية وعززت الروح المذهبية، وروجت لأسطورة الغيبتين الكبرى والصغرى وأحيت أسطورة الظهور، إلا أن المسؤولية الأولى تبقى على عاتق الأحزاب ذاتها. ذلك أن المشكلة متجذرة في عدم إيمان أحزاب الله الأصولية بأوطانها ككيانات نهائية، ولذلك لم يترسخ في ثقافتها مفهوم المواطنة والسيادة الوطنية، فالمصطلح في لغة الأحزاب القومية هو الأمة العربية أو الوطن العربي وليس الأوطان، وفي لغة الأحزاب الدينية هو الأمة الاسلامية أو أمة الولي الفقيه، وفي لغة اليسار الماركسي هو الأممية الاشتراكية. وقد تناول هذه المشكلة أحد رجال الدين الشيعة المتنورين، الشيخ محمد مهدي شمس الدين، في نص جميل نشر بعد وفاته تحت عنوان، الوصايا، يطلب فيه من الشيعة حيث يعيشون أن يكونوا مواطنين في أوطانهم وألا يغلبوا انتماءهم المذهبي على انتمائهم الوطني، أي أن يكونوا في لبنان لبنانيين أولاً، وفي البحرين بحرينيين أولاً وفي العراق عراقيين أولاً.
3- لا تتم معالجة حزب(أحزاب) الله بإلغائه. لأن سياسة الإلغاء بالقتل أو النفي أو السجن هي الأسلوب الذي أرست تقاليده قوى الاستبداد والأصوليات على أنواعها ضد خصومها. وهو أسلوب مآله الحرب الأهلية وتقويض الدولة
4- صحيح أن حزب الله حديث الولادة لكنه من سلالة “أحزاب الله” الراسخة في ثقافتنا وفي تاريخنا، ولا يمكن إن نقلب صفحة قرن بكامله، بل قرون، من التربية على الأصولية، بقرار أمني ولا بقرار سياسي، أو أن نطوي تلك الصفحة بين ليلة وضحاها، بل يحتاج الأمر إلى إعادة تأهيل جيل أو جيلين على الأقل ممن تربوا على المعتقدات وأهملوا المعرفة، وانحازوا إلى علم الغيب ضد المختبر واختاروا النص وأهملوا الاجتهاد. ولا يتم ذلك إلا بإخراج الدين من بطن السياسة. من غير أن نستعيد نقاشات عقيمة وصراعات وهمية بين الثنائيات المغلوطة: العلمانية والدين، الدين والدولة، التراث والحداثة، الأصالة والمعاصرة. ها هي البابوية في روما بألف خير، صار يحج إليها زعماء العالم للتبرك والتشاور، لكن، بعد أن أخرجت نفسها أو أخرجت عنوة من بطن السياسة، أي من التدخل في شؤون العلاقة بين المواطن والدولة.
5- يقوى حزب الله “أحزاب الله” كلما ضعفت الدولة ويضعف كلما قويت. لقد توفرت لحزب الله اللبناني ظروف ملائمة جداً، فبعد أن افتتحت اتفاقية القاهرة التشريع لسلاح المنظمات الفلسطينية خارج سلاح الدولة وعلى حساب سيادتها، استحصل النظام السوري على توكيل عربي شرّع بموجبه السلاح للأحزاب اللبنانية ثم حصل على توكيل دولي للإمساك بالورقة الفلسطينية وبالوضع اللبناني فاستخدمه في استنهاض الأحزاب المسلحة على حساب الدولة والقانون والمؤسسات. لقد تكررت هذه التجربة في كل من لبنان والأردن،( سلاح خارج الدولة) فما هو الدرس المستفاد؟ بين اتفاقية القاهرة ومجارز أيلول، إما الدولة إما الحرب الأهلية. وقد بات علينا أن نستنتج أيهما كان أكثر كلفة على الوطن؟ وجود الدولة أم عدمه؟ قوة الدولة أم ضعفها؟ الاستقواء بالدولة أم الاستقواء عليها؟
ربما كان مفيداً، في هذا المجال، أن نضيء على نقطة مهمة في تطور حزب الله اللبناني. فهو نشأ في خضم المعركة بعد دخول الجيش الاسرائيلي إلى العاصمة بيروت، يوم لم تكن تفوت أجهزة الأمن السورية شاردة ولا واردة. وهو تحوّل إلى قوة عسكرية فاعلة لا بفضل العامل الديني أو المذهبي ولا بفعل المعتقد الإثني عشري المنتظر عودة المهدي، بل هو استقوى بالأجهزة الأمنية السورية وقرارها، يوم حلت محل أجهزة الدولة اللبنانية. فهي التي كانت تحجب عنه السلاح إن خرج عن طاعتها، وهي التي لم تتردد في ارتكابها بحقه مجزرة ذهب ضحيتها خمسون من مقاتليه في “ثكنة فتح الله” في العاصمة، وهي التي أخرجته من بيروت وضاحيتها الجنوبية، ثم من الجنوب اللبناني كله عام 1987-1988 وحاصرته وحصرته في غابة صغيرة اسمها” مليتا”، شمال مدينة النبطية، في معركة شاركت فيها كل الميليشيات اللبنانية الموالية لسوريا، وكان شعارها: الجنوب اللبناني عربي وليس فارسياً، في إشارة إلى أن الأولوية في لبنان هي للدور السوري لا للدور الإيراني، الذي، مهما تضخّم، لن يحظى بالشرعية إلا بقرار من النظام السوري. ولم يفرج عن حزب الله ولم يسمح له بالخروج من تلك الغابة إلا حين أقر بأن عليه، حتى لو كان موالياً لإيران، أن يُخضع كل نشاطه اللبناني لقرار جهاز الأمن السوري.
المرحلة الثانية من حياة حزب الله بدأت بعد إبرام اتفاق الطائفٍ وبعد أن انهار الاتحاد السوفياتي وحلت إيران محله حليفاً لسوريا ومصدراً للتمويل والتسليح. عندذاك أفرج النظام السوري عنه، مرغماً إياه، بالاتفاق مع إيران، على التخلي، ولو شكلاً، عن مشروعه الديني، دولة الولي الفقيه الإسلامية، والدخول في بنية الدولة اللبنانية. في تلك المرحلة الذهبية احتكر حزب الله أعمال المقاومة بعد تراجع المقاومات الأخرى والقضاء عليها، فحظيت عملياته ضد جيش الاحتلال بدعم واحتضان شعبيين وبدعم رسمي من حكومة رفيق الحريري، آنذاك، الذي قام بجولة على مراكز القرار الدولي واستصدر في نيسان 1996 اعترافاً دولياً بأن مقاومة الاحتلال هي حق مشروع للشعب اللبناني لتحرير أرضه، وقد ترجم الاعتراف باتفاقية وقّعت عليها إسرائيل، بعد مجزرة قانا، تقضي بالتزام الطرفين، إسرائيل والمقاومة، بعدم التعرض للمدنيين. حتى في هذه المسألة كان النظام السوري صاحب القرار الفصل في الموافقة أو عدمها على أية اتفاقية.
نقطة أخرى قد تكون أكثر أهمية، وهي أنه لا حزب الله ولا النظام السوري كانا سعيدين بالانسحاب الاسرائيلي من كل الأراضي اللبنانية المحتلة عام 2000، وكانا يعبران عن انزعاجهما بتكرار اتهامهما الجيش اللبناني بعدم جهوزيته وعم قدرته على حفظ الأمن في المناطق التي سينسحب منها الجيش الاسرائيلي، ما يؤكد حاجتهما الدائمة إلى عدو خارجي، وحاجتهما، مع بعض سوء الظن، إلى بقاء الاحتلال ولو على قطعة من الأرض، على طريقة النظام السوري في إرجائه ترميم مدينة القنيطرة وإبقائها مهدّمة بذريعة إبقاء الصراع حياً مع عدو خارجي، ولتبرير احتفاظ الميليشيات بسلاحها في لبنان على حساب الدولة اللبنانية. لقد تأكدت هذه الحقيقة الواقعة بسلسلة الذرائع التي ساقها حزب الله على التوالي، ليبرر تمسكه بالسلاح، بعد انسحاب الجيش الاسرائيلي، في البداية من أجل تحرير مزارع شبعا، ثم للمطالبة بالقرى السبع، ثم للدفاع عن المياه الجوفية التي قد تعمل إسرائيل على سحبها بالآبار، وصولاً إلى حاجته إلى السلاح دفاعاً عن السلاح حين اجتاح بيروت في السابع من أيار عام 2007. وبعد تورطه في الحرب الأهلية في سوريا ساق سلسلة أخرى من التبريرات انتهت بالمجاهرة بولائه لدولة الولي الفقيه، مرفقة بمنشورات تحكي عن علامات الظهور، أي ظهور المهدي في الحجاز، وهو ما قد يفسر تورطه والتورط الإيراني المباشر في الحرب الأهلية اليمنية.
نعم. الدولة هي الحل. يبقى السؤال: أية دولة؟ طبعاً هي ليست الدولة الدينية، ولا الدولة القومية، ولا الدولة الاشتراكية. إنها الدولة التي ولدت مع الحضارة الرأسمالية وتعددت تسمياتها. هي الدولة المدنية أو العلمانية أو دولة الحق أو الدولة – الأمة. تعدد التسميات كان مدخلاً إلى صراعات لبنانية اتخذت شكلاً طائفياً في البداية ومذهبياً في المرحلة الأخيرة، مع تصاعد قوة حزب الله في لبنان. والحقيقة أن القوى السياسية وظفت التنوع الطائفي واستخدمته سلاحاً لحماية مصالحها ولتكريس صيغة مبتكرة من أنظمة الاستبداد مغلفة بديمقراطية مزيفة وانتخابات يتم فيها اختيار الحاكم بالتعيين لا بصناديق الاقتراع. دليلنا على ذلك أن البلدين الأكثر تعدداً وتنوعاً دينياً وإتنياً ولغوياً في العالم هما الهند والولايات المتحدة الأميركية، لكن التنوع فيهما مضبوط بالقانون والدولة، بينما هو مصدر صراعات وحروب أهلية في البلدان التي لا يحترم فيها القانون، رمز سيادة الدولة.
العالم كله دخل في الحضارة الرأسمالية بأشكال شتى من باب الاقتصاد أو من باب الثقافة. الباب السياسي ما زال موصداً في عالمنا العربي. الحل هو في الدخول إلى الحضارة الرأسمالية من بابها السياسي، من باب الدولة. الدولة هي الحل. بديلاً عن التسميات المتنازع على معانيها ومدلولاتها، الدولة هي دولة القانون والمؤسسات وتداول السلطة. دولة الكفاءة وتكافؤ الفرص. ولا يهم المواطن عندئذ من يكون الرئيس والوزير والمدير العام. وسيادة الدولة ليست سوى سيادة القانون على حدودها وداخل حدودها. ولا سيادة للدولة بوجود ميليشيات مسلحة تنتهك القانون والحدود.
وجود الدولة الحديثة مرتبط بوجود الوطن. مفهومان أو مصطلحان يعود ميلادهما إلى ما بعد الثورة الفرنسية بقليل، يوم تكونت خارطة الأوطان في أوروبا، ثم جاءت الرأسمالية لترسم خرائط الأوطان في العالم العربي في فترة الاستقلال، أي في أعقاب الحرب العالمية الثانية. الأصوليات على أنواعها، أي أحزاب الله، لم توافق على وجود أوطان أو أقطار عربية، فنادت الأحزاب القومية بالأمة العربية والوطن العربي الواحد بدل الأوطان، والأحزاب الدينية بالأمة الإسلامية واليسارية بالأممية. فيما لم توافق أصوليات أخرى على فكرة الدولة الحديثة، وبدل أن ترسي دعائم دولة القانون والمؤسسات، أقامت الدولة الأمنية وأعلنت الأحكام العرفية واستخدم بعضها الصراع العربي الاسرائيلي ذريعة لإلغاء الديمقراطية وقمع الحريات وتحويل الجمهوريات الحديثة إلى جمهوريات وراثية ، خصوصاً في البلدان التي انفجرت فيها انتفاضات الربيع العربي.
من يبني الدولة؟ استناداً إلى التجارب الدموية التي عصفت ببعض البلدان العربية، يمكن القول إن العالم العربي يحتاج إلى تحصين الوحدة الوطنية في كل بلد من بلدانه، لأن أول ما تستهدفه الأصوليات وأحزاب الله هو زعزعة هذه الوحدة التي لا سبيل إلى تحصينها بغير سيادة الدولة أي سيادة القانون. وقد بات من المؤكد أن الاستبداد أكثر كلفة من التغيير السلمي الديمقراطي، لأن مآله الحروب الأهلية. فإذا كانت الثورة على القديم أمراً تحتمه ضرورات التاريخ والتطور، فإن الحكومات المتنورة مطالبة بالعمل إدخال بلدان العالم العربي إلى رحاب الحضارة الرأسمالية من الباب السياسي، من باب الدولة والدستور والقوانين والإدارة الحكيمة والشفافية وحماية حقوق الأنسان الفرد في التعبير والتفكير والمعتقد، الخ … ومن خلال التأسيس لوعي جديد وقراءة جديدة لتاريخنا، ومن خلال الاستثمار في حقل العلم وتعزيز التعليم الجامعي ومراكز الأبحاث والاستفادة من منجزات العلوم الوضعية. لعل ذلك يشكل أقصر الطرق لتفادي العنف والثورات الشعبية المسلحة.
يبقى السؤال الأساسي: ما علاقة الدين بالأصوليات؟
ربما أكون قد قدمت نصف إجابة عن السؤال من خلال فرضيتي التي حاولت إثباتها في هذا النص، وفي جميع كتاباتي السابقة، وهي الفرضية التي جمعت فيها كل الأصوليات الدينية والقومية واليسارية تحت مسمى واحد هو “أحزاب الله”، وهي تسمية تنطوي على دلالة مزدوجة، الأولى هي أن التشدد والتزمت والتعصب للأفكار ورفض الآخر وتكفيره ليست حكراً على المنتمين إلى منظمات الاسلام السياسي، والثانية أن في الفكر القومي أو الفكر اليساري أو أي فكر آخر من المقومات ما يجعله قابلا للتحول إلى دين، بمجرد إضفاء طابع القداسة على النص أو على حامله أو على كليهما. ذلك أن من خصائص المقدس أنه لا يقبل النقاش ولا يقبل الاختلاف، وأن التعرض له مجلبة للعنف المادي كالقتل، أو المعنوي كالتكفير، وهو ما اقترفته كل الأصوليات في التاريخ، من محاكم التفتيش الكنسية إلى الحروب الدينية في أوروبا، ومن الفتنة الكبرى في التاريخ الاسلامي إلى الصراع السني الشيعي المعاصر وداعش وحزب الله والحشد الشعبي، ومن مجازر ستالين إلى المجازر الكيماوية في العراق وسوريا.
كل هذا العنف ناجم عن الاعتقاد بأن التعرض للقداسة أمر لا يحتمله من يؤمن بالمقدس، لا عقلاً ولا تخيلاً ولا في الواقع، وبأن الآخر المختلف لا يملك حق الاختلاف. هذا هو بالضبط تعريف الاستبداد( المستبد لغة هو الذي يقرر وحده ولا يستشير أحداً ولا يستمع إلى رأي سواه). لقد استخلصت من هذه الملاحظة فرضية أخرى بديلاً من الفرضيات السائدة عن المخاطر التي تهدد الأمة العربية. هل هي مخاطر “الغزو الخارجي” و”الحضارة المادية” و”المطامع الإيرانية” و”العنصرية الصهيونية” و”المكائد الاستعمارية” و”التوحش الرأسمالي”؟ قد تكون كلها مخاطر محتملة أو حقيقية، لكن لا الأمة مجتمعة ولا الأوطان منفردة تمكنت في السابق ، ولا هي قادرة اليوم، وأظن أنها لن تكون قادرة في المستقبل على مواجهة هذه المخاطر، لأن أوطاننا مهددة بمصائرها وبالوحدة الوطنية في كل منها، وموضوعة أمام خيار إلزامي، إما رفض الآخر المختلف، ونموذجه النظام السوري وشعاره، الأسد إلى الأبد، إما الحروب الأهلية. هذا ما حصل في لبنان والجزائر وليبيا واليمن وسوريا والعراق، إضافة إلى مصر، وتونس بنسبة أقل، اللتين وقفتا على حافة الحرب الأهلية. وأخطر أنواع الاستبداد، بحسب الكواكبي، هو الاستبداد الديني.
التنوع الديني والمذهبي في لبنان هو يميزه عن سائر البلدان العربية. ويعتقد الكثيرون أن الصراع فيه ناجم في جزء كبير منه عن هذا التنوع ولهذا تسود في اللغة السياسية مصطلحات قد لا تكون صالحة في بلدان أخرى، مثل الطائفية والصراع الطائفي والصراع المذهبي والطائفية السياسية والاقطاع السياسي.
إننا نميل إلى الاعتقاد أن النص الديني ليس هو المسؤول عن الحروب، لا في لبنان ولا في سواه، بل البشر الذين يستخدمون النص ويستظلون به ويتذرعون به ويقتطعون لأنفسهم منه بعضاً من قداسته. كما نميل إلى الاعتقاد بأنه لا العودة إلى النقاشات المستفيضة في الفقه والتفسير والتأويل والاجتهاد، ولا تكرارها ( ابن كثير، القرطبي، الطبري، السيوطي، الزمخشري، الرازي، تفسير الجلالين، وصولاً إلى تفسير الشيخ محمد جواد مغنية، على سبيل المثال)… ولا معاودة التعمق فيها وتحليلها على ضوء المناهج الحديثة ( محمد عابد الجابري، محمد أركون، الطيب تيزيني، حسين مروة، جورج طرابيشي…) ليست المدخل الصالح لتحليل دور الدين في الصراعات المندلعة. ولعلنا نستفيد من تجربة الدين المسيحي في هذا المجال.
بعد أن قادت الكنيسة، بالتعاون مع مملكة إسبانيا، حروبها ضد السلطنة العثمانية، ثم مع حركة الاصلاح الديني البروتستانتي في القرنين السابع عشر والثامن عشر، انكفأت بقوة الثورة الرأسمالية، بل أرغمها نابليون بونابارت على الانكفاء إلى داخل حدود الفاتيكان. الفارق كبير بين صورة البابا المحارب الذي دمرت حروبه أوروبا وشردت شعوبها، وصورة البابا الحالي، رأس الكنيسة الكاثوليكية، القائل بمصالحة الكاثوليكية مع الآخر المختلف، وخصوصاً مع البروتستانتية، التي كان لها، برأي البابا فرنسيس، فضل على الكنيسة، لأنها هي التي طالبت بإخراج الدين من بطن السياسة، والقائل بالمصالحة مع الأديان الأخرى ولا سيما الاسلام.
في الحقيقة، لم تنسحب الكنيسة من تفكير المسيحيين، حتى في فرنسا البلد الأكثر تشدداً أو تعسفاً بعلمانيته، إن صح القول. بل هي تخلت عن تدخلها في تنظيم شؤون العلاقات بين المواطن والدولة، وتفرغت لإدارة الشؤون الروحية لدى المؤمنين، كما أنها ألغت من قاموسها قضية التكفير وأذعنت للقانون الوضعي الذي يحمي حق الانسان الفرد في الحرية، حرية التفكير والتعبير والمعتقد، التي نصت عليها شرعة حقوق الانسان والاعلان العالمي لحقوق الانسان، والتي تضمنها الدستور الفرنسي الذي نص على حق الإيمان وحق الالحاد، والدستور التونسي الذي نص على حرية الضمير.
الكنيسة الاسلامية مطالبة بخطوة مماثلة. نضرب مثلا على ذلك موقف الأزهر من قضيتين حديثتين. الأولى وقوفه ضد تكفير داعش لأنه ضد مبدأ التكفير، وهذا من إنجازاته النظرية، لكنه لم يتأخر في اتخاذ قرار بتكفير النظام التونسي برمته، بحجة خروج التشريعات البرلمانية، بحسب تعبير الأزهر، على مبادئ الإسلام. لم يعد الموقف من قضية التكفير، في نظر الأزهر، قضية مبدئية، بل هو يستخدمها، حين يحتاج الأمر، سلاحاً ضد من يتعرض لسلطته الفقهية في التأويل والاجتهاد.
ونضرب مثلاً آخر موقف نظام الملالي من قضية ظهور المهدي. لا تتورع السلطة السياسية عن تكفير من يخالفونها الاعتقاد بأن المهدي المنتظر غاب وسيظهر لينشر العدل بين الناس. الباحث العراقي عبد الغني الملاح نشر كتاباً بعنوان، المتنبي يسترد أباه، وفرضيته في هذا الكتاب هو أن المتنبي هو إبن المهدي المنتظر، وهي فرضية تدحض كل هذه السردية الشيعية القديمة. كتاب آخرون يرون أن فكرة المهدي موجودة في كل الديانات، ومن بينها المسيحية التي تنعت المسيح بالمخلّص.
ما يبدو كأنه حروب بين المعتقدات، هو في الحقيقة حروب تخوضها سلطات سياسية أو دينية ضد من يخالفها الرأي. إذن هي حروب سياسية حتى لو لبست لبوس الدين أو استظلت به. إنها دفاع عن السلطة، السلطة السياسية أو الفكرية أو الاقتصادية. يقول الباحث خالد زيادة إن علماء الدين في دمشق حرّموا المطبعة، مع أن أول كتاب طبع عليها هو القرآن؛ علي عبد الرازق أخرج من الأزهر بطلب من الملك فؤاد، وعاد إلى الأزهر بعفو من الملك فاروق، والسبب هو أن هذا الشيخ الأزهري نشر كتاباً عن “الإسلام وأصول الحكم” يرى فيه أن الخلافة ليست أصلاً من أصول الإسلام؛ الشيخ محمد عبده دخل بقرار من الخديوي ليشرف على عملية التجديد الديني في الأزهر ثم أخرج من الأزهر بقرار من الخديوي ليموت غماً عن ستة وخمسين عاماً. وهو القائل:
ولكن ديناً كنت أرجو صلاحه أحاذر أن تقضي عليه العمائم
الشيخ محمد مهدي شمس الدين، رداً على المطالبين بأن الاسلام هو الحل، طالب بقيام دولة بلا دين( في ضرورات الأنظمة وخيارات الأمة: التطبيع. بيروت، مركز أفق للصحافة والعلاقات العامة، من دون تاريخ، ص98). وجاهر بموقفه المعارض لولاية الفقيه، وكتب في وصاياه محذراً الشيعة من تفضيل الانتماء الديني على الانتماء الوطني؛ السيد هاني فحص قرع المسيحيون أجراس كنائسهم لتكريمه بعد موته. المطران جورج خضر يروي عن رجل مسيحي من طرابلس أن ما افتقد إليه في الغربة هو صوت أذان الفجر.
سقت هذه الأمثلة عن العلاقة بالآخر، والخلاصة منها واحدة، هي تلك التي صاغها علي بن أبي طالب ببلاغة: القرآن لا ينطق بنفسه إنما يحتاج إلى رجال. الأمر لا يتعلق إذن بالنص بل بقراءة النص. وبلغة الألسنية يمكن القول إن النص ليس صاحب سلطة إلا بعد عملية ذهاب وإياب بينه وبين المتلقي، أي قارئ النص، الذي يحوله إلى سلاح في يده، أي إلى سلطة ، تصديقاً لقول المتنبي:
كلما أنبت الزمان قناة …………….. ركب المرء في القناة سنانا
لا حل لهذه المعضلة إلا بالقانون. من حق العاملين في حقل الدين، ولاسيما أصحاب السلطة منهم، أن يؤمنوا كما يشاؤون، لكن ليس من حقهم أن يفرضوا على الآخرين ما يؤمنون به، وليس من حقهم أن يمارسوا عليهم أية سلطة، لأن علاقة الانسان بربه ومعتقده علاقة فردية، وعلاقة المواطن بالدولة يحكمها القانون.
لم يكن الدين عائقا أمام التطور في التاريخ. العائق دائماً هم رجاله، وهي المؤسسات الدينية التي تزعم النطق باسم الدين وتسرق القداسة من الدين لتحيط نفسها به. هذه المؤسسات لا مصلحة لها ببناء الدولة. ولأن لها قوانينها فهي بمثابة دولة داخل الدولة وتتقاسم معها السلطة والسيادة لأن السيادة ليست سوى سيادة القانون. وبهذا المعنى، يمكن القول، مع بعض المبالغة، إن حزب الله يفضل التخلي عن السلاح على التخلي عن سلطة رجال الدين.
ملاحظة أخيرة. نميل إلى الاعتقاد بأن مناهج التحليل القديمة ليست صالحة لقراءة نقدية. حتى رجال الدين المتنورون الراغبون في تجاوز الماضي ومعالجة أزمات الأمة، الذين امتلكوا الجرأة في مواجهة الجمود العقائدي، وزودوا المكتبة باجتهادات مبتكرة ومعاكسة لمجرى التيار المهيمن في الفقه والدراسات الدينية والحوزوية، حتى هؤلاء لا يستطيعون استكمال مهمتهم النقدية بسبب وصول المنهج، هو الآخر، إلى حدوده التاريخية.
الحل بالدولة. لأن الدولة وحدها لا تتمتع بحصرية استخدام السلاح فحسب ، بل بحصرية القضاء وبحصرية القوانين . وحدة الدولة والوطن تعني وحدة القانون ومساواة المواطنين تحت سقف القانون.
هذه الدولة هي دولة القانون والمؤسسات والكفاءة وتكافؤ الفرص، هي دولة الحريات والديمقراطية وتداول السلطة. ينطبق هذا على لبنان وعلى إيران وعلى سائر البلدان التي دخلت إلى الحضارة الرأسمالية من أبواب شتى إلا من الباب السياسي.
*الكاتبة والاستاذة الجامعية اللبنانية هلا رشيد أمون تعدد، في كتابها الصادر حديثا في بيروت “العنف، المقدس ، السلطة” الخلفيات التاريخية والسياسية والاجتماعية والفكرية والدينية التي أدت إلى انفجار موجات العنف بالترتيب التالي : ظهور جماعة الخوارج بعد موقعة التحكيم بين علي ومعاوية،ولادة المدرسة السلفية على يد الشيخ السعودي محمد بن عبد الوهاب، سقوط الخلافة الاسلامية، قيام دولة إسرائيل، انقلاب جمال عبد الناصر، هزيمة حزيران، أزمة الهوية العربية، نشوء تنظيم الإخوان المسلمين، فشل العقائد والإيديولوجيات القومية والعلمانية، نجاح الثورة الإيرانية، الاجتياح السوفياتي لأفغانستان، الغزو الأميركي للعراق، اندلاع الثورات العربية
قدم النص كمساهمة في ورشة العمل المنعقدة في دولة الإمارات العربية المتحدة بتاريخ27 شباط 2018، وهو بعض من المقدمة التي أعدها لكتابي الذي سيصدر قريباً تحت عنوان ” أحزاب الله” وقد نشرت أجزاء واسعة منها في موقع الحوار المتدن.
مقالات ذات صلة
طوفان عيوب في حرب الإسناد
حزب الله كمقاومة وحزب الله كحركة تحرر وطني
هل الصمت الدولي مشروع ومبرر؟