الاستعمار والتحرر الوطني : بحث في المصطلح
“في الفترة بين عامي 1876و1915 كان ربع مساحة المعمورة قد وزع أو أعيد توزيعه كمستعمرات بين ست دول كبرى، وزادت بريطانيا مساحة مستعمراتها بنحو أربعة ملايين ميل مربع، وفرنسا بنحو ثلاثة ملايين ونصف المليون، واتسعت المستعمرات الألمانية بنحو مليون، والبلجيكية والإيطالية بما يقرب من مليون ميل مربع لكل منهما، وغنمت الولايات المتحدة من إسبانيا مئة ألف ميل مربع ، واقتطعت اليابان قدرا مماثلا من الصين وروسيا وكوريا، واتسعت مستعمرات البرتغال الأفريقية القديمة بنحو ثلاثماية ألف ميل مربع، أما إسبانيا التي كانت قد خسرت جانباً من أراضيها(لصالح الولايات المتحدة)، فقد تمكنت من الاستيلاء على مساحات من الأراضي الصخرية في مراكش والصحراء الغربية. ومن الصعب قياس التوسع الامبريالي الروسي لأن أغلبه تم على حساب الأراضي المجاورة، وكان استمراراً للتوسع الاقليمي الذي كان يمارسه القياصرة لعدة قرون؛ يضاف إلى ذلك، أن روسيا خسرت بعض الأراضي لصالح اليابان. ومن بين الامبراطوريات الاستعمارية الكبرى كانت هولندا هي الوحيدة التي أخفقت، أو رفضت ، اغتنام أراض جديدة، باستثناء نشر سيطرتها الفعلية على الجزر الإندونيسية التي كانت تمتلكها رسمياً” (إريك هوبزباوم، م.ن. المجلد الثالث، ص126-127)
تحكي مجلدات هوبزباوم الثلاثة، ورابعها عن عصر التطرفات، عن تاريخ الرأسمالية ونشوئها في أوروبا، الأول عن عصر الثورة(1789-1848)، الثاني عن عصر رأس المال(1848-1915)، الثالث عن عصر الإمبراطورية(1875-1915)، وهو العصر الذي تم فيه تقاسم المعمورة وتوزيعها على “ست دول كبرى”، على ما يقول النص المقتبس، أي عصر الاستعمار.
لم يعدّد الكاتب في النص الدول الست، لكنه ذكر أسماء عشر دول هي، بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، بلجيكا، البرتغال، هولندا، روسيا، اليابان، الولايات المتحدة، وهي الدول التي كانت سباقة إلى الانخراط، بوتائر متفاوتة، في الحضارة الرأسمالية. وإذا كان الكاتب قد حدد تاريخ النزوع الاستعماري لدى هذه الدول مع بدء عصر الامبراطوريات، أي بعد عصر الثورة وعصر رأس المال، فإن فرناند بروديل يحدده، في كتابه الضخم، المتوسط ومحيطه في عصر فيليب الثاني، بنهاية القرن الخامس عشر، بالتزامن مع سقوط غرناطة (1492) واكتشاف أميركا في العام ذاته، وبعد عقود أربعة على سقوط القسطنطينية(1452).
ما من تناقض بين المؤرخين الكبيرين، فقدر ركّز الأول اهتمامه على الثورة( الثورة الفرنسية) وما بعدها، والثاني على المراحل التحضيرية للثورة، أي على التحولات البطيئة التي مهدت لنشوء الحضارة الرأسمالية من قلب الحضارة السابقة، والتي لم تكن الثورة الفرنسية سوى لحظة تتويج سياسي لها، ومحطة انتقال نحو توسع الرأسمالية الأفقي، في المرحلة الأولى داخل أوروبا، وبعدها على صعيد الكرة الأرضية كلها. في الواقع كانت مرحلة التوسع قد بدأت مع رحلتي كريستوف كولومبوس وفاسكو دو غاما، الأول باتجاه القارة الأميركية والثاني باتجاه الهند عن طريق رأس الرجاء الصالح. وكان ذلك نقطة انطلاق لاكتشاف سلع وأسواق جديدة، كالبهار والتوابل في الهند الصينية، أو مصادر جديدة للسلع، كمناجم الذهب والفضة في أميركا، وإعلاناً عن ولادة النسخة التجارية من الرأسمالية، بقيادة كل من إسبانيا والبرتغال، لينتقل الدور القيادي في مرحلة لاحقة إلى كل من بريطانيا وفرنسا.
في البداية، كان النزوع إلى التوسع حاجة لنشوء الرأسمالية كحضارة جديدة، ثم صار ضرورة من ضرورات نموها وتطورها، إلى أن غدا السمة الأساسية التي تميزها عن الحضارات السابقة، وذلك لأنها نجحت في تخطي العوائق الطبيعية والحدود وقصرت المسافات باستخدامها أساليب ووسائل جديدة للاتصال والنقل، بدءاً بالباخرة وسكة الحديد و التلغراف وصولا إلى كل وسائل التواصل الرقمي ووسائل الاتصال الحديثة البرية والبحرية والجوية، التي بفضلها تحول العالم كله إلى قرية كونية.
تعاقب الحضارات يشبه سباق البدل. العدّاء البديل يواكب زميله الأصيل ويشاركه العدْوَ في خطواته الأخيرة قبل أن يستلم الراية منه، حتى لا يحدث انقطاع بين خطوات العدّاءَين، فتصير خطوات الثاني استكمالاً، بالتتابع، لخطوات الأول. غير أن تعاقب الحضارات لا يحصل بمثل هذه السلاسة وذاك التنسيق الدقيق، بل إن ولادة حضارة جديدة من القديمة تبدو عسيرة وتكلف البشر حروباً وصراعات دموية، ربما لأن الوتيرة في خطوات الأولى لا تناسب خطوات الثانية، أو بالتعبير الماركسي، لأن علاقات الانتاج في الأولى تصبح عائقاً أمام تطور القوى المنتجة، فيحصل الانتقال بالثورة أي بالانقلاب الجذري، لاستيلاد علاقات في الاقتصاد والثقافة والسياسة تناسب مستوى التطور في هذه الميادين.
نشب الصراع بين القديم الاقطاعي والجديد الرأسمالي، أول مرة، داخل أوروبا، قبل أن ينتقل إلى خارجها. هناك كانت تولد الرأسمالية من أرحام الاكتشافات العلمية والجغرافية والفلكية، ومن وسائل الانتاج المبتكرة. لم يبدأ بين مستعمر(بكسر الميم) ومستعمر(بفتح الميم)، بل بين نمطين من العلم، الوضعي والغيبي؛ وبين نمطين من التفكير ونمطين من العيش ونمطين من المُلْكية، بين الموسوعات ومختبر الحياة، بين كوبرنيكوس وغاليليه من جهة والعقل الكنسي من جهة أخرى، بين إقطاعي يملك الأرض وما عليها ومن عليها وبرجوازي يملك وسائل الانتاج. من الطبيعي أن يتخذ الصراع والتوسع شكل العدوان. الطرف المعتدي صاحب مشروع جديد يحمل في طياته انقلاباً جذرياً على كل منظومة القيم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية التي كانت سائدة في الحضارة الاقطاعية، وقد بدأ “عدوانه” ضد أوروبا لا ضد سواها، عندما حاولت فرنسا تصدير الثورة بالقوة، من خلال حملات نابليون العسكرية التي توقفت على أبواب موسكو، قبل أن تقرر أوروبا هزيمته ونفيه إلى جزيرة هيلانة، وقبل أن يتمدد العدوان إلى خارج القارة.
أفضت الحروب داخل القارة إلى نتائج حاسمة. بين 1794 و1815، تمكنت فرنسا من الحفاظ على الثورة، وتوسيع رقعة نفوذها، باحتلالها الأراضي المنخفضة وأقليم الراين وأجزاء من إسبانيا وسويسرا وسافوي، ثم كل إيطاليا. غير أن نابليون الذي كاد يحتل أوروبا، هزم مرتين، الأولى حين أرغم على سحب قواته من الشرق بعد صمود عكا وتدخل بريطانيا وقطعها خطوط الامداد عن جيشه، والثانية حين اجتمعت الدول الأوروبية على مواجهته وفرضت عليه الإقامة في المنفى على أرض الجزيرة البريطانية الواقعة في المحيط الأطلسي بين أفريقيا والبرازيل. أما النتيجة الأهم فهي أن بذور الثورة الرأسمالية التي زرعت داخل أوروبا الأنوار والموسوعات والمطبعة والمكوك، أي أوروبا قبل ترسيم الحدود بين كياناتها، لم تعد محصورة، على الصعيد السياسي، في فرنسا الثورة وشعاراتها الثلاثة، الحرية والإخاء والمساواة، بل بدت حروب نابليون بمثابة القمة من جبل جليد ثورة مزدوجة عمت كل أنحاء أوروبا، وجهها الأول التحرر من الهيمنة الفرنسية ومن أية هيمنة أوروبية أخرى على شعوب القارة، ووجهها الثاني الانتقال إلى الحضارة الرأسمالية.
أعيد رسم خارطة الكيانات القائمة، مع المحافظة على توازن القوى بين الدول الخمس الكبرى التي برزت خلال مرحلة الحروب، روسيا وبريطانيا وفرنسا والنمسا وبروسيا. حصل ذلك انطلاقاً من النموذج الحديث للدولة الذي جسدته دولة الثورة الفرنسية وقانون نابليونCode Napoleon، وهي الدولة القومية التي “تطورت على مدى عدة قرون، في منطقة متماسكة الأراضي، موصولة الأطراف، ذات حدود واضحة المعالم، تحكمها سلطة واحدة ذات سيادة، وفق نسق واحد في المجالات الإدارية والقانونية”(إريك هوبزباوم، م.س.ص183). في إطار إعادة رسم الخارطة، انتقلت السيطرة على النرويج من الدانمارك إلى السويد، وتوحدت هولندا وبلجيكا، بعد أن كانت خاضعة لمملكة النمسا، ودخلت تحت السيطرة الروسية فنلندا وجزء كبير من بولندا وعدد من المقاطعات الإيطالية، ونالت اليونان استقلالها بدعم روسي بريطاني وتحولت إلى مملكة يحكمها أحد الأمراء الألمان.( راجع هوبزباوم، عصر الثورة، الفصل الخامس، وعنوانه السلام. ص.203)
تمكّن نموذج الثورة الفرنسية من القضاء على الكثير من الكيانات التي كانت معروفة في ظل الحضارةالاقطاعية، واختفت الدول-المدن، وتقلص عدد الأقاليم التابعة للأمبراطورية الرومانية المقدسة، وباتت فرنسا تحكم القسم الأكبر من ألمانيا، إضافة إلى بلجيكا وهولندا ومعظم إيطاليا وإسبانيا، وجزءاً كبيراً من بولونيا، حيث كان يلغى الاقطاع وتطبق القوانين الفرنسية، وبدت الكيانات الأوروبية كلها غير محصنة ضد أفكار الثورة الفرنسية، التي نشرت أفكاراً جديدة حول الحرية والدولة والكنيسة والسلطة، أفكاراً ألغت الاعتقاد الشائع بين الناس في تلك المرحلة، الذي ينظر إلى الملوك على أنهم آلهة الأرض المطوّبون من الكنيسة.
“العدوان” الرأسمالي، بشعاراته الثلاثة، حرية إخاء مساواة، وبتطبيقاته السياسية النابليونية، يمم شطر القارة الأوربية وملحقاتها أو مستعمراتها في القارة الأميركية، واتخذ شكل الثورة على ما هو قائم، طلباً للحرية بالدرجة الأولى أو للعدالة أو لكليهما. لكن الثورة لم تكن واحدة في منطلقاتها ولا في أدواتها. فقد كان ” الهدف الأسمى لجميع الدول التي واجهت فرنسا هو الحؤول دون اندلاع ثورة ثانية على غرارها” (هوبزباوم، عصر الثورة، ص.220). اندلعت الموجة الأولى من الثورة في “إسبانيا (1820) ونابولي (1820)، واليونان (1821)… وفي أمريكا اللاتينية التي تحررت من السيطرة الاسبانية، وانفصلت البرازيل عن البرتغال في حدود العام 1822. أما الموجة الثانية فقد تركت آثارها على جميع أنحاء أوروبا وعلى قارة أميركا الشمالية، “فنالت بلجيكا استقلالها عن هولندا (1830)، وأثيرت قلاقل في عدة أجزاء من ألمانيا وإيطاليا، كما بدأت في إسبانيا والبرتغال فترة من الحرب الأهلية بين الليبراليين ورجال الكنسية، وانفجر بركان بريطانيا الداخلي في إيرلندا (1829). (م.ن.ص220-222)
الموجة الثالثة “بدت كأنها ربيع الشعوب في القارة الأوربية، فتحول السخط من حركة تململ إلى ثورة، والتقت حركات المعارضة في جبهة مشتركة ضد الملكية المطلقة والكنيسة والأرستقراطية” (م.ن. ص224-226)، وقد أخمدت جميع الثورات وحالات التمرد في ألمانيا وإيطاليا المدعومة من النمسا وبولندا، كما أجهضت حركة التمرد في روسيا، ونشبت حرب أهلية في سويسرا عام 1847.
موجة رابعة من الحروب الأوروبية وحركات التمرد نشبت في مرحلة تشكل الدول واستقلالها في أوروبا. قال هوبزباوم عن عقد الستينات من القرن التاسع عشر بأنه “العقد الدموي” وأعاد السبب إلى “التوسع الرأسمالي الذي ضاعف التوترات في عالم ما وراء البحار” (م.ن.ص149 من المجلد الثاني). لقد شهد القرن التاسع عشر إعادة رسم الخارطة الأوروبية وزوال دول وولادة أخرى.
فصل من مقدمة كتاب “أحزاب الله” الذي سيصدر قريباً. المقصود بأحزاب الله أحزاب الاستبداد
باستثناء بريطانيا الواقعة خارج اليابسة الأوروبية، كانت تتوزع الجغرافيا الأوروبية بين خمس أمبراطوريات أو ممالك، مملكة إسبانيا، مملكة فرنسا، مملكة هابسبيرغ، الأمبراطورية الروسية والسلطنة العثمانية. بعد الثورة الفرنسية وانتشار الرأسمالية، توحدت المدن-الدول الإيطالية التي كانت تتوزع السيطرة عليها الممالك الثلاث المحيطة بها، وقاد عملية التوحيد غاريبالدي على صعيد السلطة وكافور على الصعيد الشعبي. كما توحدت المقاطعات الجرمانية بقيادة بسمارك، واستقلت المجر عن مملكة هابسبورغ بمساعدة عسكرية روسية، وتشيكيا عن مملكة النمسا، كما استقلت اليونان وبلغاريا عن السلطنة العثمانية، وتحولت بعض المناطق من مقاطعات إلى دول، مثل رومانيا التي تشكلت من اثنتين من المقاطعات التي كانت تحت السيطرة التركية، أو بولندا التي كانت السيطرة عليها محل تنازع بين بروسيا وروسيا، أو سويسرا وبلجيكا اللتين تضم كل منهما أكثر من قومية.
يصف هوبزباوم الحالة في أوروبا خلال تلك الفترة قائلاً: ” برزت مملكة إيطالية موحدة بين عامي 1858 و1870، وألمانيا موحدة بين 1862و1871، ما أدى، بالتزامن، إلى انهيار أمبراطورية نابليون الثانية وكومونة باريس 1870-1871 واقتطاع النمسا من ألمانيا وإعادة هيكلتها بصورة موسعة. ومجمل القول إن “الدول” الأوروبية كلها، عدا بريطانيا، تغيرت تغيراً جوهريا، وتغيرت رقعتها وأراضيها أحيانا، بين عامي 1856 و1871، وأسست دولة جديدة اندرجت في عدادها بعد قليل وهي إيطاليا”( م.ن.ص148)
كل هذا وسواه حصل بعد الثورة الفرنسية، الثورة التي أعلنت قيام الرأسمالية كنظام سياسي. غير أن حروباً عديدة أخرى ومراحل دموية مرت بها شعوب أوروبا، قبل الثورة الفرنسية، وبالتحديد منذ بدأت الحضارة الرأسمالية تبزغ في نمط الانتاج كما في نمط التفكير، إذ إن تاريخ أوروبا كما أميركا كان تاريخ حروب طاحنة طيلة القرنين السادس عشر والسابع عشر، حروب بين جيلين حضاريين، الرأسمالية ضد الاقطاعية في اوروبا، والرأسمالية ضد ما قبل الاقطاعية في أميركا، حيث ارتكب ممثلو الحضارة الرأسمالية في أميركا الشمالية مجازر وعمليات إبادة بحق سكان البلاد الأصليين، أهل البداوة من الهنود الحمر. أما أوروبا، ولاسيما سويسرا وفرنسا وألمانيا والنمسا وبوهيميا وهولندا وإنكلترا وسكوتلندا وإيرلندا والدنمارك، فقد شهدت، على امتداد قرن ونصف القرن، حروباً عرفت بالحروب الدينية و منيت بمجازر من نوع آخر، كان من بين نماذجها دفن الناس أحياء في مرحلة محاكم التفتيش الاسبانية.
أكبر تلك الحروب “التحضيرية” هي حروب الأساطيل بين مملكة إسبانيا و السلطنة العثمانية، على حلبة البحر الأبيض المتوسط، خلال مرحلة طويلة من القرنين السادس عشر والسابع عشر. المملكة كانت تهاجم تحت راية حقبة حضارية جديدة بعد اكتشاف أميركا ورأس الرجاء الصالح. والسلطنة كانت هي الأخرى، تهاجم بقوة الحضارة القديمة، لتوسع حدودها وتحتل نصف مساحة أوروبا. غير أن رحى الحروب انحصرت في المياه، ووصلت إلى جزيرة جاوا في الشرق، فيما أذعنت مملكة النمسا التي تحكمها السلالة الملكية الاسبانية نفسها، سلالة هابسبورغ، وأوقفت الزحف العثماني على اليابسة، بعد أن وافقت على أن تدفع للسلطنة الأتاوة السنوية، أو ما يشبه الجزية، مقابل عدم توغل الجيش الانكشاري إلى ما بعد حدود النمسا – المجر.
حروب أوروبا مع السلطنة اتخذت، في البداية، من جانب السلطنة شكل الغزو التقليدي، للسيطرة وللحصول على الغنائم، فيما بدا، في ظاهره صراعاً تبشيرياً بين الاسلام القادم من الشرق بقيادة تركيا والمسيحية الغربية بقيادة إسبانيا والدولة البابوية. توسلت الأمبراطورية العثمانية حروب الغزو واعتمدت عليها كمصدر من مصادر الثروة، فيما كانت أوروبا تخوض حروبها داخل القارة باسم الدفاع عن الكنيسة في مواجهة حركة الاصلاح الديني أو في مواجهة الاجتياح الاسلامي، وحروبها خارج القارة، في الشرق كما وراء الأطلسي، دفاعاً عن النسخة الأولى من الرأسمالية، أي الرأسمالية التجارية، وأهمها المعارك على تجارة البهار( حرب البهار). تلك كانت الحروب التوسعية الأولى التي خاضتها الحضارة الجديدة.
في مرحلة لاحقة، لم يعد يكفي الرأسمالية البحث عن أسواق جديدة فحسب، بل صارت تحتاج أيضا إلى مصادر للمواد الأولية، ولذلك عمدت إلى احتلال أفريقيا بأكملها ومناطق وبلدان أخرى، وإقامة قواعد عسكرية ونقاط ارتكاز لحماية طرق المواصلات البحرية، على رأس الرجاء الصالح في جنوب أفريقيا، ثم في عدن على طرف الجزيرة العربية، وصولاً إلى الهند والصين. ثم شقت قناة السويس في القرن التاسع عشر وإزيل الفاصل البري بين البحرين الأبيض والأحمر،اختزالاً للمسافات بين أوروبا والشرق وتفادياً للالتفاف حول أفريقيا ورأس الرجاء الصالح.
خاضت الحضارة الجديدة إذن ثلاثة أنواع من الحروب، صراعات على السيطرة بين القوميات الأوروبية، أو تنافساً على الاستثمار الرأسمالي خارج القارة، أو استباق الثورات وحركات التمرد الداخلية بحرب خارج الحدود القومية. ولم توقف أوروبا الرأسمالية مسيرة هذا التاريخ الدموي إلا بعد حربين عالميتين مدمرتين ذهب ضحيتهما عشرات الملايين من الضحايا. ربما كانت النتائج الكارثية لتينك الحربين هي التي أقنعت الدول الرأسمالية المتحاربة بالتوقف عن توسل الحرب سبيلاً لحل قضايا الخلاف والتنافس فيما بينها. غير أن أهم ما في نتائجهما هو إعلان نهاية مرحلة الاستعمار المباشر في العالم، إذ شهدت السنوات والعقود القليلة اللاحقة حصول الكيانات السياسية القديمة كالهند والصين ومصر أو المستحدثة كباكستان وبنغلادش والمملكة العربية السعودية وسائر بلدان العالم العربي على استقلالها وإقامة دولة في كل منها. وقد حصل ذلك إما بنضال سلمي، نسبياً، كما مع غاندي الهند، أو مسلح كما مع الثورة الجزائرية، فيما تأجلت نهاية الحكم العنصري في جنوب إفريقيا عقوداً أخرى، ولم يبق من تركة الاستعمار القديم إلا الاحتلال الصهيوني لفلسطين والصراع على ملكية بعض الجزر، كالمالوين التي تتنازع السيطرة عليها بريطانيا والأرجنتين، أو سبتة وملليلة بين المغرب وإسبانيا.
لئن كانت الدول الرأسمالية قد اقتنعت بمخاطر الحروب، بل بعدم جدواها في حل المشكلات فيما بينها، فهي تمكنت من تجديد تفوقها على مناطق الحضارات السابقة، باستخدامها وسائل جديدة ومبتكرة للسيطرة على الطبيعة، واقتطاعها الحصة الأكبر من الأرباح في استثماراتها داخل المستعمرات. أما البلدان التي نالت استقلالها أو انتزعته فقد خضعت لقسمة عمل جديدة، أطلق عليها الماركسي سمير أمين مصطلح التطور اللامتكافئ بين المركز الرأسمالي والأطراف المتخلفة، واقتضت هذه القسمة وضع الأطراف على سكة التطور الرأسمالي، ولا سيما في مجالي التعليم والمواصلات، وذلك لتوفير أفضل شروط الحماية لمصالح المركز وأفضل الظروف المناسبة لاستثماراته التجارية والصناعية.
هذا العرض لحروب الرأسمالية ليس مدحاً ولا ذماً، بل هو لإثبات حقيقتين اثنتين. الأولى هي أن الرأسمالية لم تخض حروبها، في المرحلة الأولى، لا ضد الشرق ولا ضد الاسلام، بل ضد الحضارات السابقة عليها، أي أن النزاع لم ينشب بين شرق وغرب أو بين ديانة اسلامية وأخرى مسيحية، بل بين حضارة ناشئة وأخرى بلغت حدودها التاريخية، والدليل على ذلك هو أن حروبها الأولى التي استمرت أكثر من ثلاثة قرون اندلعت داخل القارة الأوروبية وانحصرت بين أبناء الديانة المسيحية ، وأن حربيها الأخيرتين العالميتين، اللتين انفجرتا على مساحة العالم، تتحمل أمبراطوريات القارة ودولها القومية وحدها المسؤولية عن تفجيرهما. ولهذا يصبح أكثر جدوى وأكثر عقلانية النظر إلى العنف المرافق لقيام الرأسمالية بوصفه ثمناً فرض على البشرية أن تدفعه البشرية لكي تنتقل من الحضارة السابقة على الرأسمالية إلى الحضارة الرأسمالية، والنظر إليه، بالتالي، لا بعين “التحرر الوطني” من الاستعمار، بل بعين التحرر من التخلف.
الاستعمار شكّل، كما الدولة، حاجة للرأسمالية في تطورها الأفقي، أي جزءاً من تكوينها البنيوي، مثلما شكلت نهاية الاستعمار المباشر عن طريق الاحتلال حاجة لها في تطورها العمودي. لكنها لم تدخل إلى هذا الخيار طوعاً بل أرغمت عليه غداة الحرب العالمية الثانية ووقوف الاتحاد السوفياتي إلى جانب البلدان المستعمرة في مواجهة النظام الرأسمالي العالمي، واحتدام الصراع بين الثنائية القطبية. غير أن هذا الصراع انتهى بانهيار الاتحاد السوفياتي ودخول الرأسمالية في نسختها الثالثة أي العولمة والاستعمار الاقتصادي، لا بالاحتلال المباشر بل بسيطرة الاقتصاد الأقوى على الاقتصاد الأضعف، أو المركز على الأطراف، بحسب تعبير سمير أمين، أو بسيطرة النمط الرأسمالي في بلدان الشمال والكولونيالي، بحسب تعبير مهدي عامل، في الجنوب وبلدان العالم الثالث النامية أو ما كان يصنف كمستعمرات سابقة.
أما الدولة فقد عملت الرأسمالية على بنائها على أسس الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان. بيد أن تلك الأسس لم تترسخ في العلاقات بين الدول الرأسمالية الكبرى أو داخل كل منها إلا بعد الحرب العالمية الثانية. وهي لم تكن تجد حرجاً في انتهاكها، حين يحتاج الأمر، وهذا ما حصل مراراً، ولاسيما في مرحلة العولمة، حين تخلت عن آليات عمل الدولة في إدارة الشأن العام ، وتخلت كذلك عن الأسس والمبادئ التي قامت عليها، مطلقة العنان للاقتصاد للحلول محل الدولة في إدارة شؤون الكرة الأرضية. غير أن ذلك كلّف البشرية ويكلّفها أثماناً وتضحيات أضخم من تلك التي دفعتها في المراحل الأولى من قيام الرأسمالية.
الاقتصاد أو البنية التحتية، بحسب المصطلحات الماركسية، هو العامل المحدد “في نهاية التحليل” في الحضارة الرأسمالية، في حين كانت الإيديولوجيات الدينية هي المهيمنة في حضارة العصور الاقطاعية. غير أن تجربة نشوء الرأسمالية أثبتت أن البنية السياسية لعبت دوراً مفصلياً في انتصار الحضارة الجديدة، وذلك بعد أن فتحت الثورة الفرنسية الباب أمام تغيير جذري في طبيعة السلطة وأنظمة الحكم، وأفسحت في المجال للطبقة البرجوازية الراعية لمصالح رأس المال في أن تتولى إدارة المجتمع. كما أثبت تطور الرأسمالية أن التنازع بين البنيتين السياسية والاقتصادية في الرأسمالية ونزوع الثانية إلى السيطرة جعلا هذه الحضارة تدخل في أزمات دورية، من بينها أزمة الثلاثينات من القرن العشرين، وتلك التي عصفت باقتصادات الدول الرأسمالية الكبرى في بدايات القرن الحادي والعشرين. وفي كل المرات كانت الرأسمالية قادرة على تجاوز أزماتها بتدخل مباشر من قبل الدولة للحد من جنوح الاقتصاد إلى الهيمنة وسعيه إلى التحكم بإدارة المجتمع بالآليات ذاتها التي يستخدمها الاقتصاد في إدارة الاستثمارات.
يمكن القول باختصار إن الموجة الاستعمارية الأولى بدأت عند بداية القرن السادس عشر، في أعقاب الاكتشافات الكبرى وكريستوف كولومبوس وفاسكو دو غاما، أي مع النسخة التجارية من الرأسمالية، فيما بدأت الموجة الثانية مع الرأسمالية الصناعية، أي في القرن التاسع عشر. وفي الحالتين بدا النزوع إلى التوسع حاجة للرأسمالية لتأمين الأسواق والمواد الأولية. كما يمكن القول إن النزوع إلى التوسع ميز الحضارة الرأسمالية عن سائر الحضارات، القديمة منها والأكثر قدماً في التاريخ، كالرومانية واليونانية والفارسية والعربية. ذلك أنها انفردت وحدها بالنزوع إلى الكونية وإلى السيطرة، ولم تنحصر محاولاتها للتوسع عند حدود اليابسة بل شملت الفضاء وأعماق المحيطات.
كيف تعاملت أحزاب العالم العربي مع ظاهرة الاستعمار ومع المصطلح ؟ نبدأ الإجابة بالبحث عن المعنى القاموسي للكلمة. فقد ورد في الآية رقم 61 من سورة هود في القرآن: ” هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا”. تفاوتت التفسيرات فأشارت بعض القواميس العربية إلى أن معناها “جعلكم تعمرونها”. وفسر لسان العرب “استعمر اللهُ عبادَه في الأرض” أي جعلهم ساكنيها.
ورد في المعاجم (معجم المعاني الجامع و المعجم الوسيط ولسان العرب) أن فعل استعمر مشتق من الثلاثي ع م ر، ومعنى استعمر الأرض عمرها وأمدها بما تحتاج من الأيدي العاملة لتصلح وتعمر، كأن نقول ، استعمر الصحراء. ومن اشتقاقاته استعمر يستعمر استعماراً فهو مستعمر(بكسر الميم) والمفعول مستعمر( بفتح الميم). ما يعني أن العبارة بمعناها الاصطلاحي الحديث لم ترد في القواميس القديمة. أما القواميس الحديثة فشحنت المصطلح بدلالة سياسية مباشرة.
أما في المعنى الاصطلاحي فقد وردت عبارة استعمرت دولة دولة أخرى، أي احتلتها وفرضت سيطرتها عليها، فيقال، دولة مستعمرة(بفتح الميم). والدولة الاستعمارية هي التي تحتل غيرها وتفرض سيادتها وسيطرتها عليها وتستغلها. وينهي القاموس بحثه بعبارة “تحررت معظم الدول من الاستعمار”.
في قاموس المعجم الوسيط في اللغة ورد أن الاستعمار هو “إقامة مستعمرة، ويشكل ذلك أحيانا تحويل جماعات من الأشخاص من البلد المستعمر إلى المستعمرة من أجل التحكم فيها وتسييرها. “وأنه من الثلاثي ع م ر “( مصدر اِسْتَعْمَرَ ). :- دَخَلَ الاِسْتِعْمارُ البُلْدانَ العَرَبِيَّةَ في أَواخِرِ القَرْنِ الماضِي :- : القُوَّةُ الأجْنَبِيَّةُ الْمُسْتَعْمِرَةُ لِبَلَدٍ مَّا، وَتَحْتَلُّهُ بِالسِّلاَحِ وَالقَهْرِ وَالقُوَّةِ ، وَتُخْضِعُهُ لِسُلْطانِها السِّياسِيِّ وَالاقْتِصادِيِّ . :- قاوَمَ الشَّعْبُ الاسْتِعْمارَ – اِنْتَهى عَهْدُ الاسْتِعْمارِ”.
تفيدنا هذه الاطلالة العابرة على حقل الدلالة اللغوي بأن مصطلح الاستعمار حديث العهد في اللغة السياسية، ولهذا لم يجد مؤلفو المعجم غضاضة في أن يحوّلوه من مرجع لغوي يبحث في معاني المفردات إلى كتاب في التاريخ السياسي، أو من مرجع للبحث في حقل الدلالة السياسية إلى مادة نضالية، تسويغاً لاستخدام المصطلح كسلاح إيديولوجي في يد الأحزاب والقوى السياسية. غير أن هذا الالتباس الدلالي طال معظم المصطلحات الحديثة، ولاسيما السياسية منها، التي رافقت نشوء الرأسمالية، كالوطن والأمة والعلمانية وسواها من المصطلحات، نتيجة هيمنة الفكر الديني والاصرار على التنقيب على جذور تلك المصطلحات في اللغة القرآنية، دون الأخذ بالاعتبار حقيقتين اثنتين، الأولى بلوغ تلك اللغة والحضارة التي احتضنتها حدودهما التاريخية مع عصر الترجمة الذهبي أيام هارون الرشيد وولديه الأمين والمأمون، والثانية هي أن هذه المصطلحات متحدرة من حضارة جديدة شكلت قطيعة مع سابقاتها على كل المستويات.
في اللغة الأجنبية لا مجال لأي التباس في المعنى. فالاستعمار، كحقيقة واقعة، “بدأ مع توسع وانتشار الشعوب والدول الأوروبية بدءاً من القرن السادس عشر”( معجم لاروس الفرنسي) مع الغزو البرتغالي لمناطق في أفريقيا والهند والبرازيل، والغزو الاسباني لأميركا الوسطى، والفرنسي والأنكليزي لأميركا الشمالية، الخ. (م.ن). وفعل استعمر يعني احتل واجتاح واستوطن وحوّل الأرض إلى مستوطنات (م.ن). والحقيقة أن الدافع إلى عملية التوسع لم يكن دافعاً جغرافياً ولا دافعاً دينياً، بل اقتصادي بالدرجة الأولى. ولئن كانت الدول والشعوب الأوروبية، بحسب تعبير القاموس الفرنسي “لاروس”، هي التي قامت بتلك العملية، إلا أن الدافع الاقتصادي يجعلنا نميل إلى القول إن آليات تطور الحضارة الرأسمالية هي بالذات التي دفعت تلك الدول والشعوب للبحث عن أسواق جديدة وعن مصادر للمواد الأولية، ما يعني، بتعبير آخر، أن علاقة الرأسمالية بالتوسع الاستعماري هي علاقة علة بمعلول، أو أن ولادتهما كانت متزامنة، وأن الاستعمار هو من الخصائص البنيوية لتطور الرأسمالية، وهو تجسد، في الطور الأول لنشوئها، بالاحتلال والسيطرة العسكرية المباشرة، وفي أطوارها اللاحقة، بأشكال مختلفة من السيطرة الاقتصادية والتدخلات السياسية والمخابراتية.
يمكن القول إن الرأسمالية والاستعمار ولدا خلال القرن الخامس عشر، مع رحلات الاستكشاف الأولى التي أوصلت البرتغاليين والاسبانيين إلى الهند شرقاً وإلى البرازيل وكل أميركا اللاتينية غرباً. قبل هذا التاريخ كانت تسود البشرية حضارة أخرى ذات قيم واحدة وهي كانت معممة، على الأقل في البلدان ذات التاريخ المكتوب، في قارتي آسيا وأوروبا، من الصين في أقصى الشرق حتى بريطانيا غرباً، مروراً ببلدان العالم العربي. وإذا كان الاقتصاد الحر، التجاري ثم الصناعي، هو الذي صنع القيم الرأسمالية، فإن الأرض( الزراعة) هي التي صنعت قيم الحضارة الاقطاعية. من هذه الزاوية لم يصنف الاحتلال التركي العثماني للعالم العربي بصفته استعماراً، مع أنه اتخذ شكل احتلال صريح نفذته قبائل من آسيا الوسطى في عملية غزو واسعة كانت محطتها الأولى احتلال القسطنطينية في منتصف القرن الخامس عشر، أي قبل عقود من الاحتلال الاسباني البرتغالي لأميركا اللاتينية، وذلك لأنه كان استمراراً لتقاليد الغزو القديمة التي كانت تمارسها القبائل، ولأنه شكل احتلالاً من داخل الحضارة ذاتها التي كانت سائدة في تلك الفترة من تاريخ البشرية، و لأنه لم يحمل قيماً جديدة بل كرس القديمة السائدة في المجتمعات الزراعية، في حين كتب الغزو الأوروبي”الرأسمالي” بداية تاريخ جديد للبشرية.
تبين خارطة الجغرافيا الاستعمارية لتلك الفترة أن بلدان أوروبا بدأت بالسعي إلى التوسع بدافع الاستكشاف والتجارة، ولهذا تركز الاحتلال على مناطق الشرق الأقصى والغرب الأقصى، الصين وأميركا، فيما استمرت المنطقة العربية خاضعة إما لاحتلال تركي مباشر في معظم الجزء الآسيوي، إما لوصاية من السلطنة العثمانية على شؤونها، ولا سيما بلدان المغرب العربي التي كانت تستنجد بها عندما تتعرض لخطر غزو أوروبي على سواحلها، إما لنوع من الاستقلال النسبي خلال حكم محمد علي باشا في مصر والحكم الوهابي السعودي في الحجاز. ذلك أن الرأسمالية لم يكن يهمها من تلك المنطقة، في ذلك الحين، إلا تأمين طرق المواصلات التجارية مع الشرق، ولهذا اكتفت طلائع الاستعمار البرتغالي باحتلال نقاط ارتكاز استراتيجية في الخليج ومسقط ومضيقي هرمز وباب المندب، واستكمله الانكليزي لاحقاً بشق قناة السويس التي تربط البحرين الأبيض المتوسط والأحمر، وتختصر الرحلة بين أوروبا والشرق من غير المرور عبر رأس الرجاء الصالح.
ويبين التاريخ الاستعماري أن أوروبا بدأت باحتلال الشرق الأقصى والقارة الأميركية عند نهاية القرن الخامس عشر، في العام 1492 مع اكتشاف أميركا على يد كريستوف كولومبوس، وفي العام 1497 مع رحلة فاسكو دو غاما إلى الشرق عبر رأس الرجاء الصالح، وفي الفترة ذاتها بدأت بريطانيا رحلتها الاستعمارية باحتلالها إحدى الجزر على الساحل الشرقي لكندا. كما أثبتت الوقائع التاريخية أن الحروب الاستعمارية الأولى اندلعت بسبب التنافس بين الرأسماليات التجارية الناشئة، فكانت إسبانيا والبرتغال وهولندا سباقة في احتلال مواقع لها ما وراء البحار خلال القرن السادس عشر، إلى أن تم إقصاؤها على يد الاستعمار الانكليزي والفرنسي خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، وتمكنت دول أميركا الجنوبية من نيل استقلالها عن إسبانيا والبرتغال في القرن التاسع عشر، بعد أن كانت “انكلترا الجديدة” قد استقلت بثورة متزامنة مع الثورة الفرنسية وتحولت إلى “الولايات المتحدة الأميركية”.
تبين وقائع التاريخ والجغرافيا، إذن، أن الصراع بين أوروبا الرأسمالية والسلطنة العثمانية احتدم ودارت معاركه الكبرى في مياه البحر الأبيض المتوسط وكان نصيب المنطقة العربية هامشياً، إذ تحملت موانئ المغرب العربي عبء بعض الحروب الطاحنة بين الأساطيل. وعند انتهاء كل معركة كانت تنسحب الأساطيل وتستتب أمور تلك البلدان بإشراف إدارات محلية تعكس التوازنات القبلية والنفوذ العثماني، وهي، كما كل إدارات تلك المرحلة من الحضارة الاقطاعية، إمارات يحكمها متنفذون محليون يوالون السلطنة ويطلبون دعمها في مواجهة الغزوات الأوروبية، ويشرعون لها الموانئ حين تندلع الحرب بين الأسطولين العثماني والإسباني. وقد استمرت الحال على هذا المنوال خلال القرن السادس عشر، وحتى هزيمة العثمانيين في معركة ليبانتا البحرية(راجع المتوسط والعالم المتوسطي في عهد فيليب الثاني ، فرنان بروديل ، دار الكتاب الجديد، ترجمة محمد علي مقلد)، وبات البحر المتوسط ممراً آمناً للتجارة مع الشرق قبل شق قناة السويس وبعده.
في القسم الشرقي من البحر المتوسط، استغلت دول أوروبا تمرد محمد علي باشا على السلطنة لتتدخل ضده وتعيد جيشه من حدود الأناضول، كما استغلت الصراع حول جبل لبنان لتتدخل بحجة حماية الأقليات الطائفية فيه. لكن التدخل في الحالتين لم يتخذ شكل احتلال واستعمار، بل على العكس من ذلك، ففي جبل لبنان بدا نشاط الإرساليات الغربية حافزاً على قيام نهضة ثقافية، أما مصر فقد أدخلها محمد علي باشا إلى رحاب الحضارة الرأسمالية من البابين الثقافي(البعثة العلمية إلى فرنسا بقيادة الشيخ الأزهري رفاعة رافع الطهطاوي) والاقتصادي(الاصلاح الزراعي وبناء المصانع) ، لكن شق قناة السويس أضاف إلى موقع مصر الجغرافي أهمية استراتيجية وشكل ذريعة لتسلل الاستعمار الانكليزي.
بالعودة إلى التواريخ الدقيقة، يمكن اعتبار العام 1492 هو ميلاد الرأسمالية والاستعمار. ففي هذا التاريخ افتتحت اسبانيا والبرتغال مرحلة الاحتلال المباشر لأميركا الجنوبية، وفي العام 1512 بدأ الاستعمار البرتغالي في الشرق. بعد ذلك تناوبت بلدان أوروبا الأخرى، فرنسا وبريطانيا وبلجيكا وهولندا على استعمار قارة أفريقيا وبلدان الشرق وصولاً إلى الصين. في القرن الثامن عشر قامت الثورتان الأميركية والفرنسية وتحررت القارة الأميركية من الاستعمار الانكليزي والاسباني والبرتغالي، واستمر الاستعمار في أفريقيا وفي المنطقة الواقعة شرق العالم العربي حتى القرن العشرين.
لم يطأ الاستعمار،إذن، أرض الجزء الآسيوي من العالم العربي إلا في أواخر القرن التاسع عشر وبداية العشرين، مكتفياً في البداية بنقاط ارتكاز بحرية على الطريق الموصلة إلى مستعمراته في الشرق، ثم بوجود عسكري مباشر عند نهاية القرن،كانت حصة بريطانيا من ذلك احتلال جزيرة برسم على مدخل البحر الأحمر عام 1799، عدن 1839، السودان 1898 الصومال 1884،العراق 1914، الكويت 1916؛ وحصة فرنسا فترة انتداب على لبنان وسوريا بين الحربين العالميتين. وظل الجزء الأكبر من منطقة الجزيرة العربية خارج الخارطة الاستعمارية وخارج النفوذ العثماني على حد سواء، باستثناء عقد من سني التعاون بين محمد علي باشا والسلطنة.
شهد الجزء الأفريقي من العالم العربي استعماراً صريحاً واضحاً في الجزائر التي احتلتها فرنسا عام 1830، واستمرت سيطرتها إلى ما بعد منتصف القرن العشرين(1962). كما احتلت تونس بعد خمسين عاماً(1881) ولم تخرج منها إلا في العام 1956؛ فيما اكتفت بفرض نظام الحماية على المغرب في بداية القرن العشرين. أما ليبيا، وكذلك الحبشة( أثيوبيا)، فكانت محط أطماع إيطاليا، والتوقيت بداية القرن العشرين. السودان خضع للنفوذ الانكليزي في العام 1898، والصومال في العام 1904. أما مصر فللاستعمار فيها قصة أخرى.
عام 1898 هو عام حملة نابليون بونابرت على مصر. خرج منها في 1801، ليترك فيها نسخة مصرية من “نابليون” جسّدها جندي في الجيش العثماني من أصول ألبانية هو محمد علي باشا، الذي حكم وسلالته مصر حتى عام 1952. كان أمراً لافتاً أن تقفز الأطماع الاستعمارية البريطانية فوق مصر ومنطقة الشرق الأوسط كله لتصوّب بعيداً على الشرق الأقصى والصين والهند الصينية، غير أنها، من ناحية أخرى، لم تكن مطمئنة لمطامع فرنسا، ولذلك ساهمت في إنهاء الحملة الفرنسية وإخراج جيش نابليون والحلول محله، وحين فشلت حملتها هي الأخرى اكتفت بالعمل على تحييد مصر وتأمين طريق المواصلات عبرها من الشرق وإليه. ومن المفيد ذكره هنا أن التجارة مع الشرق، قبل شق القناة، كانت تمر عبر البحر الأحمر ثم تنقل البضائع داخل البر المصري إلى موانئ المتوسط . وقد ازدادت مخاوفها من تعاظم الدور الفرنسي بعد شق قناة السويس، بعد أن منحت الشركة الفرنسية برئاسة دولسبس امتياز الحفر والتشغيل لمدة 99 عاماً، ولذلك تحيّنت الفرصة لتكون شريكاً في هذا المشروع، وتمكنت من تحقيق ذلك بشرائها حصة مصر من تشغيل القناة، مقابل تسديد الديون المترتبة على الحكومة المصرية، ثم باحتلال مصر في العام 1881، بعد ثورة قادها أحمد عرابي تحت شعار سيادة الدولة المصرية على أراضيها، وخصوصاً سيادتها على قناة السويس. بعد حوالي أربعين عاماً نالت مصر استقلالها في ظل حكم السلالة الخديوية ذاتها المتحدرة من محمد علي باشا. وفي العام 1952، انتهى حكم السلالة بانقلاب عسكري أبعد الملك فاروق إلى المنفى. وفي العام 1956 عدوان جديد على مصر الهدف المباشر منه هو تأمين الممر المائي الستراتيجي، قناة السويس، للتجارة مع الشرق.
علاقة الاستعمار بالمنطقة العربية تختلف عنها بسائر المناطق والبلدان المستعمرة في شرق آسيا وإفريقيا السوداء والقارة الأميركية. فهي دامت قروناً في تلك المناطق، من بداية القرن السادس عشر حتى منتصف التاسع عشر في أميركا، وحتى منتصف القرن العشرين في آسيا وإفريقيا، في حين ظل الجزء الآسيوي من العالم العربي في منأى عن الاستعمار المباشر، وكذلك معظم الجزء الإفريقي، باستثناء الجزائر ومصر وتونس، حتى بدايات القرن العشرين وانفجار الحرب العالمية الأولى، التي كان من نتائجها توزيع تركة الرجل المريض، وإخضاع الولايات العثمانية إلى نظام حماية أو نظام انتداب، بقرار دولي من عصبة الأمم.
هذا الاستثناء للمنطقة العربية يعود، كما ذكرنا أعلاه، إلى طبيعة الصراع الذي استمر محتدما مع السلطنة العثمانية طيلة قرن بكامله من الزمن، وتوقف جزئياً على البر عند حدود النمسا، التي وافقت على دفع أتاوة سنوية، مقابل الامتناع عن شن هجمات باتجاه فيينا، وفي البحر بعد معركة الأساطيل في ليبانتا على الساحل الغربي لليونان في العام 1571، التي انتهت بهزيمة الاسطول التركي، وبترسيم حدود افتراضية لتقاسم النفوذ، قضت بجعل البحر المتوسط منطقة آمنة نسبياً لطرق المواصلات، وباتفاقية غير معلنة بعدم الاعتداء لم يلتزم بها أي من الطرفين التزاماً كاملاً، إذ كان الاسطول التركي يعاود نشاطه الحربي في الإغارة مستفرداً بسواحل المدن- الدول الإيطالية، مثلما كان الاسطول الاسباني الأرمادا يشن غاراته على السواحل الشمالية لبلدان المغرب العربي كلما أرخت السلطنة قبضتها على البحر، ولاسيما حين تنشغل بحروبها لناحية الشرق مع الدولة الفارسية، أو لناحية الشمال مع روسيا القيصرية في منطقة القرم.
مع حلول القرن التاسع عشر انتقلت راية التوسع الرأسمالي- الاستعماري من الجزيرة الإيبيرية (إسبانيا والبرتغال) إلى فرنسا وبريطانيا، اللتين، بالرغم من أن النزوع الرأسمالي لا تحده حدود ولا تقف في وجهه عوائق، في البر والبحر ولاحقاً في الفضاء وأعماق المحيطات، وبالرغم من أن انتشار مستعمراتهما قد توزع من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، ركزت الأولى منهما في البداية على أفريقيا وسعت إلى تأمين ممرات مائية وبرية ونقاط ارتكاز لها على الشاطئ الجنوبي للمتوسط، فيما ركزت الثانية اهتمامها على الشرق، ولاسيما بعد الثورة الأميركية، مع ما يتطلبه ذلك من تأمين طرق المواصلات. وقد تزامنت هذه المطامع مع ارتخاء القبضة العثمانية على أراضي السلطنة، بعد صعود نجم محمد علي باشا في مصر ومحاولات قامت بها دولة المعنيين في جبل لبنان لبناء علاقات مباشرة مع الحضارة الجديدة في أوروبا (علاقات مع توسكانا والبندقية). في ظل هذه الظروف ولهذه الأهداف بالتحديد، تمكنت فرنسا من احتلال الجزائر وفرضت سيطرتها في وقت لاحق على تونس، كما تمكنت بريطانيا من تعزيز نفوذها داخل مصر.
“في الفترة بين عامي 1876و1915 كان ربع مساحة المعمورة قد وزع أو أعيد توزيعه كمستعمرات”. بالعودة إلى هذه العبارة التي افتتحنا بها أعلاه الكلام عن هذا المصطلح، يؤكد لنا هوبزباوم في مجلده الثالث أن عصر الأمبراطورية الممتد بين 1876 و1915 هو العصر الذهبي للاستعمار، أي أنه بلغ ذروته، أو حدوده التاريخية بالتعبير الماركسي، مع الحرب العالمية الأولى. من جهة أخرى، تؤكد لنا وقائع التاريخ الحديث، أن النظام الاستعماري برمته بدأ بالتفكك ثم بالانهيار مع الحرب العالمية الثانية. وإذا أخذنا بالاعتبار أن العالم العربي من المحيط إلى الخليج(باستثناء مصر وتونس والجزائر) كان لا يزال، حتى بداية الحرب العالمية الأولى، جزءاً من تركة الرجل المريض (الولايات التابعة للسلطنة العثمانية في بلاد الشام والعراق والجزيرة العربية وما تبقى خارج الاستثناء في إفريقيا الشمالية)، يكون من المنطقي الاستنتاج أن بلدان العالم العربي، (ما عدا الاستثناءات الثلاثة) لم تكن، حتى نهاية العصر الذهبي للاستعمار، في عداد قائمة الدول التابعة للتاج البريطاني ولا تلك التابعة لاحقاً للكومنولث، ولا جزءاً من قائمة المستعمرات الفرنسية، وإن صار بعضها محسوباً على مجموعة الدول الناطقة بالفرنسية.
يجمع المؤرخون على أن الاستعمار بدأ بتوزيع تركة الرجل المريض عند نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين، إلى أن جاءت الحرب العالمية الأولى فتوزعت الولايات والكيانات العربية بين الحلفاء ودول المحور، وراحت كل منها تؤيد وتناصر من يساعدها على إقامة دول مستقلة عن السلطنة العثمانية، فيما أيد البعض منها ألمانيا، حليفة السلطنة، إما انتصاراً لدولة الخلافة، إما أملاً في أن تساعد، في حال انتصارها، على منح الاستقلال للكيانات التي تمركزت فيها قوات الحلفاء.
في اعتقادنا أن هذا الاستعراض الواسع يفيد في فهم موقف “أحزاب الله” من المصطلح ومن الاستعمار، ولاسيما أن هذه الأحزاب تأسست في الفترة التي دخل فيها الاستعمار في أزمته وبدأ يشهد بداية نهايته. الأحزاب الشيوعية العربية تأسست في العشرينات من القرن العشرين، تنظيم الإخوان المسلمين في مصر عام 1928، السوري القومي الاجتماعي 1932، حزب البعث العربي الاشتراكي 1947، أما حزب الله اللبناني فقد تأسس عام 1982.
وضعت “أحزاب الله” الاستعمار في رأس لائحة الأعداء التي تضم الأمبريالية والقوى الرجعية باعتبارها من “عملاء” الاستعمار، ثم الصهيونية في مرحلة لاحقة بعد اغتصاب فلسطين، باعتبارها دولة عنصرية زرعها الاستعمار. ورفعت شعارات الحرية والاشتراكية والعدالة الاجتماعية ووحدة الأمة، العربية أو الإسلامية. واللافت أن الموقف العملي من الاستعمار لم يكن مطابقاً للموقف النظري والمبدئي. فقد كان حزب الإخوان في مصر على علاقة بالدول الغربية، ولاسيما بريطانيا وأميركا، طمعاً منه بنيل الدعم ضد الأنظمة القائمة، وطمعاً منها باستخدامه في مواجهة المد الشيوعي، كما أن الأحزاب القومية ركزت هجومها اللفظي على الاستعمار واقتصر عداؤها له على تحالف غير وطيد مع الاتحاد السوفياتي.
تصوّرت “أحزاب الله” أو صوّرت لشعوبها أن مصدر المخاطر التي تهددها هو، في نظر الأصوليات الاسلامية، “عدوان” غربي مسيحي على الشرق الاسلامي، أو عدوان استعماري في نظر الأحزاب القومية، أو امبريالي في نظر الأحزاب الماركسية واليسارية المرتبطة بجبهة البلدان الاشتراكية. ولهذا فإننا نميل إلى الظن بأن الأحزاب الأصولية استخدمت شعار محاربة الاستعمار لتستفيد من خطاب الثورة السوفياتية التي استقطبت مؤيديها حين طالبت بحق تقرير المصير للشعوب والدول ولتبعد الأنظار عن الخطر الحقيقي الذي كان يهدد بلدان العالم الثالث، خطر التخلف عن ركب الحضارة الرأسمالية. ولذلك يمكن القول إن شعار العداء للاستعمار جاء استجابة لمطلب سوفياتي أكثر منه لدوافع وطنية، لأن هذا الشعار طرح فيما الاستعمار القديم في طريقه إلى الزوال. وبالرغم من أن أشكال الاستثمار الرأسمالي والهيمنة على العالم قد تبدلت، إلا أن أحزاب الله أصرت على مواجهة “العدوان” الخارجي لتسوغ هيمنتها وطريقة إدارتها الاستبدادية لشؤون بلدانها، تحت شعار التحرر الوطني من الاستعمار.
وقد يتحول هذا الظن إلى يقين حين نستعرض ثلاثة نماذج من التحرر الوطني، الجزائر التي احتلتها فرنسا ما يقارب قرناً ونصف القرن، مصر التي خضعت للاحتلال الانكليزي أربعة عقود، لبنان سوريا والعراق، البلدان التي تحولت من ولايات تابعة للسلطنة العثمانية إلى بلدان مستقلة بعد خضوعها، خلال عقدين من الزمن، للانتداب الفرنسي الانكليزي، بمباركة من عصبة الأمم.
نالت الجزائر استقلالها، عام 1962، بعد نضال مسلح دفعت ثمنه غالياً فسمّيت ببلد المليون شهيد. ثم توالى على الحكم فيها قادة من جبهة التحرير الجزائرية، تعاقبوا على السلطة فيها، عن طريق الانقلابات العسكرية، وأنهوا ثلاثة عقود من الاستقلال بحرب أهلية تنافست فيها الأصولية الدينية والأصولية المتحدرة من حركة التحرر الوطني ضد الاستعمار على إلغاء الحياة الديمقراطية والمجاهرة باعتماد نظام استبدادي، حديث على الطريقة السوفياتية أو قديم على الطريقة السلفية.
عام 1922، بعد سنوات ثلاث لا تخلو من العنف، وافقت المملكة المتحدة على إعلان استقلال مصر وإنهاء نظام الحماية وقيام نظام دستوري، واستمرت السلالة الخديوية المتحدرة من محمد علي باشا في حكم مصر وتحويله إلى نظام ملكي، إلى أن ألغى مصطفى أتاتورك الخلافة، فقام من يطالب بتنصيب الملك فؤاد خليفة. غير أن معركة التنصيب الفاشلة لم تنته من دون ضحايا، إذ تمّ عزل علي عبد الرازق من الأزهر بعد صدور كتابه عن الإسلام ونظام الحكم، ومنع من الصدور كتاب طه حسين عن الشعر الجاهلي، وتأسس بعد سنوات قليلة حزب الإخوان المسلمين بقيادة حسن البنّا، ليبدأ الإسلام السياسي مشواره المسالم في البداية والدموي في وقت لاحق. بعد موت الملك فؤاد اعتلى ابنه فاروق العرش عام 1936، إلى أن خلعه انقلاب عسكري قام به فريق من ضباط الجيش بقيادة جمال عبد الناصر في العام 1952.
في الحقيقة، يمكن القول إن مصر بدأت الدخول في الحضارة الرأسمالية منذ الأيام الأولى لحكم محمد علي باشا، لكنها دخلت من البابين الاقتصادي والثقافي وبقي الباب السياسي شبه موصد، إلا من بعض مظاهر من التمثيل السياسي هي أقرب إلى نظام الشورى منها إلى الديمقراطية، ثم إدخلت تحسينات عليه في عهد الخديوي اسماعيل، وأيام الاستعمار البريطاني، وصولاً إلى إعلان الدستور عام 1923، واستمرت هذه التقاليد الديمقراطية، على علاتها، حتى ثورة تموز يوليو، التي استبدلت التعددية بنظام الحزب الواحد مع مندرجاته كلها، ولاسيما الدور المتزايد للجيش في الحياة السياسية والانضمام إلى حركة التحرر الوطني العربية في مواجهة الاستعمار، تحت شعارات الوحدة والحرية والاشتراكية.
تجربة لبنان وسوريا والعراق كانت حديثة العهد بالمقارنة مع تجربة مصر. فقد خضعت هذه المنطقة ببلدانها الثلاثة لنظام الانتداب من غير المرور، كما شرحنا ذلك أعلاه، في المرحلة الاستعمارية، وكانت هذه الفترة القصيرة، التي لم تدم أكثر من ثلاثة عقود، فترة تمرين على دخول هذه البلدان في عصر الحداثة، ولاسيما في مجال بناء الدولة، انتهت بإعلان استقلالها التام كدول ذات سيادة تمثلت في الجامعة العربية وفي منظمة الأمم المتحدة. بعد سنوات على الاستقلال بدأت الانقلابات العسكرية، عام 1949 في سوريا وعام 1958 في العراق، التي ألغت التعددية والحد الأدنى من الحياة الديمقراطية واختارت الانخراط في حركة التحرر الوطني من الاستعمار، من غير أن تجد استعماراً تحاربه، بقيادة حزب البعث العربي الاشتراكي في كل من سوريا والعراق، تحت شعارات الوحدة والحرية والاشتراكية، فيما نجا لبنان من انقلاب عسكري فاشل خطط له الحزب السوري القومي الاجتماعي عام 1961.
غير أن الحربين العالميتين الأولى والثانية لم تمرّا من غير نتائج مأساوية على المنطقة العربية، إذ تمكنت الصهيونية العالمية، بالتعاون مع الانتداب الإنكليزي، من إقامة دولة لليهود على جزء من أرض فلسطين على حساب الشعب الفلسطيني الذي تشرد قسم كبير من سكانه في البلدان المحيطة بفلسطين وفي أربع أرجاء الأرض. أما الأكثر مأساوية فهو أن القوى والدول والأحزاب المنضوية في حركة التحرر الوطني العربية تذرعت بالقضية الفلسطينية وبعجز الأنظمة العربية الناشئة عن مواجهة المشروع الصهيوني، فعملت على ترسيخ سياسة الاستبداد ضد شعوبها، وعلى تحويل بلدانها إلى جمهوريات وراثية ليكتمل عقد أنظمة السلالات من المحيط إلى الخليج، ما جعل الشعوب تعلن ثورة الربيع العربي، وتنتفض، عند بداية القرن الحادي والعشرين، في عدد من الدول ضد حكامها، رافعة شعارات التحرر من الاستبداد بدل شعار التحرر من الاستعمار.
العامل الخارجي هو المسؤول دائما، في نظر أنظمة الاستبداد وأحزابه، عن تخلف الأمة العربية، ولهذا شكل المشروع الصهيوني في فلسطين فرصة لا تعوض للتصويب عليه، بصفته عدواً خارجياً، وعلى من قدم له الدعم، فكان الاستعمار مادة دسمة استخدمتها الأنظمة والأحزاب لتحميله مسؤولية ضياع فلسطين وتسليمها للصهيونية تحت رعاية الانتداب الانكليزي، ولتحميل اتفاقية سايكس بيكو مسؤولية إقامة كيانات “مصطنعة”. مع أن تلك الكيانات كانت قبل الانتداب مجموعة من الولايات التابعة للسلطنة العثمانية، فقد كان من الطبيعي أن ترسم الحضارة الرأسمالية خرائط المنطقة بالطريقة ذاتها التي رسمت فيها خرائط بلدان أوروبا(راجع ما ورد أعلاه عن هذا الموضوع). وربما يكون كارثياً أن تكون أحزاب الاستبداد رفضت سايكس بيكو وتقسيم المنطقة ونادت بوحدة الأمة أو بوحدة بلاد الشام لم تستطع أن تحافظ على وحدة الأقطار التي سيطرت عليها. ربما لأنها سيطرت عليها بقوة الأحكام العرفية والسجون والمشانق، أي بالاستبداد.
هل يمكن القول بعد هذا العرض لتاريخ المصطلح أن “أحزاب الله”، التي رفعت شعار التحرر من الاستعمار لم تجهز نفسها لمقاتلة “العدو خارجي”، وأنها، بدل أن تقاتل الاستعمار المزعوم، تفرغت لتنظيم الحروب الأهلية داخل كل بلد من بلدان الأمة، وللحؤول دون دخول بلدانها في رحاب الحضارة الرأسمالية من بابها السياسي، أي من باب الدولة الحديثة، دولة القانون والمؤسسات والكفاءة وتكافؤ الفرص؟ ويكتسب هذا التساؤل مشروعيته حين نأخذ بالاعتبار أن تلك الأحزاب، في المشرق العربي، وضعت نفسها في مواجهة مع استعمار غير موجود، فدخلت في معركة افتراضية، أما المعركة الحقيقية مع الصهيونية فقد احتلت رقماً ثانوياً في قائمة الأولويات بعد معارك الاحتفاظ بالسلطة لفترات قياسية. أما الحزب الشيوعي في الجزائر فقد كانت أولويته مرضاة رفاقه الفرنسيين، وفي المقابل استفاقت الأصولية الدينية بعد ثلاثة عقود على تحرير الجزائر لتنافس على السلطة بعيداً عن أعين الاستعمار، وفي مصر لم تنقطع العلاقات الودية بين الأصولية الاسلامية والقوى الاستعمارية، فيما حلّ الحزب الشيوعي المصري نفسه تطبيقاً لنظريات سوفياتية عن الثورة والعداء للاستعمار.
مقالات ذات صلة
نعم انتصرنا
هل يكتب التاريخ الحديث بمصطلحات طائفية؟
جامعة الأمة العربية ومحكمة العدل الشعبية