منذ قرنين من الزمن أطلق شكيب إرسلان سؤاله الشهير: لماذا تقدم الغرب وتخلف المسلمون؟ ولم يأته الجواب إلا من تونس بوعزيزي ومن ميدان التحرير في مصر : الشعب يريد تغيير النظام. قبلهما ظلت الأجوبة في منأى عن بنية النظام ، بل هي حامت حوله. محمد علي باشا دخل من باب الاقتصاد وظل هو الباشا ، وعبد الناصر دخل إلى السياسة من بابها الخلفي ، فحافظ على النظام واكتفى بتغيير السلطة. ذلك أن باب الدخول إلى الحضارة الحديثة ، بل إلى التاريخ هو باب الثورة السياسية، لا أية ثورة أخرى ثقافية على طريقة ماوتسي تونغ أو اقتصادية على طريقة لينين. إنها طريقة الثورة الفرنسية بالذات التي ألغت نظام الوراثة وسنت القانون الوضعي الذي أسس للفصل بين السلطات ولتداول السلطة.
قبل الثورة الفرنسية كانت البلدان المنخفضة وإسبانيا وبريطانيا سباقة في ثوراتها الاقتصادية لكن المجد لم يكتب لغير الثورة الفرنسية لأنها هي التي حققت في السياسية ما يحمي تطورا هائلا في الثقافة والاقتصاد كان قد بدأ قبل قرون ، حين استلمت أوروبا راية الحضارة من العرب ، في ما يشبه سباق البدل بين الحضارات ، بعد أن كان العرب قد استلموها قبل ذلك من الفرس والبيزنطيين واليونانيين .
حضارة العرب كانت تطويرا للحضارة أو الحضارات التي سبقتها مباشرة ، وكان أهم ما تميزت به أنها جعلت الحاكم حاكما باسم الله أو ممثلا لله على الأرض ، بعد أن كان الحاكم في الحضارات التي سبقتها ، كما في الفرعونية الأولى مثلا ، هو الله أو ما يشبهه أو يوازيه . أوروبا أحدثت نقلة جديدة حين جعلت الحاكم ممثلا للشعب ، واستحضرت الديمقراطية بعد أن رفعتها من مساواة بين علية القوم ( اليونان القديمة) إلى مساواة بين جميع المواطنين.
باسم هذه الحضارة انطلقت أوروبا إلى العالم ، وكانت المنطقة العربية أول من نعم بهذا الاحتكاك حين قدم نابليون إلى مصر. غير أنها أتت مع التباساتها الناجمة من كونها ذات وجهين، وجه الحضارة ووجه الاستعمار، ولم نكن وحدنا من أوقعه الالتباس في الحيرة ، غير أننا كنا الأكثر حزما فرفضنا العرض من اللحظة الأولى ، بينما قبله آخرون ، مكرهين ، كما في الصين، أو طوعا كما في اليابان .
إنها الحضارة الرأسمالية التي قدمت نفسها على أنها حضارة العلم والصناعة والديمقراطية ، وتوالى الرفض العربي لها من أول الأصوليات الدينية إلى آخر الأصوليات العلمانية ، ورحنا نطلق عليها كل الأسماء إلا إسمها الحقيقي : حضارة غربية ، حضارة مادية ، حضارة مسيحية ، الخ…وجعلناها عدوا وصوبنا عليها ورميناها بتهمة الاعتداء على الأصالة والتاريخ ، وقاومناها بكل ما أوتينا من تعصب أعمى للجهل والأمية وكل اعراض التخلف ، وحاولنا أن نرد عليها بالانغلاق على النفس ، بل إننا ابتكرنا في مواجهتها كل ما تفتق عنه العقل من صنوف الاستبداد ، قديمه وحديثه ، من أقبية التعذيب والسحل والقتل والنفي والسجن والمخابرات وأجهزة الأمن ، الخ، الخ…وظل الثابت في كل هذه الصنوف هو التوريث السياسي . من هنا كان الجواب المصري التونسي الذي يتردد صداه في كل أرجاء الأمة : الشعب يريد تغيير النظام.
من تجربة محمد علي باشا التي لم تكتمل ، إلى تجربة الحركة القومية العربية التي انهارت في مواجهة تحديات العصر ، حاولنا أن نجيب على ذاك السؤال التاريخي . أتى الجواب الأول من الأصوليات الإسلامية قبيل وصول نابليون وبعده ، ومن السلطنة العثمانية التي اعتمدت سياسة الممانعة ، حيث لم يكن التخلف العربي العثماني الإسلامي ، في نظر أصحاب الجواب، سوى نتيجة جهل المسلمين بأصول دينهم ، ما يعني أن الحل هو في العودة إلى الأصول. لكن الحل تجاهل كل أسس التقدم الغربي الرأسمالي المتكاملة ، في الفكر كما في السياسة كما في الاقتصاد. السنوسية كانت أكثر التجارب الأصولية اكتمالا ،فاقتصرت على تغييرات طفيفة في إدارة النظام الاقتصادي السياسي الثقافي القائم، ولم تطمح إلى إحداث نقلة نوعية في أسس هذا النظام ، ولا سيما في أساسه السياسي ، تماما مثلما حصل بعد قرنين في التجربة الاشتراكية التي ركزت اهتمامها على توزيع الثروة لا على إنتاجها.
لم تر الأصوليات القومية في الرأسمالية إلا وجهها البشع ،الاستعمار ، فحاربتها مثلما حاربتها الأصوليات الماركسية لاحقا وحاولت أن تلغيها من التاريخ وتصنع ، على أنقاضها ، تاريخا جديدا يبدأ بالاشتراكية. على أن هذا الرفض الأصولي القاطع ،الديني والقومي والماركسي، لم يجمع على شيء إجماعه على رفض الوجه الإيجابي في الحضارة الرأسمالية ، أي على رفض الديمقراطية.
ربما يكون ذلك في أساس هذه الظاهرة الفريدة في عالم القرنين العشرين والحادي والعشرين: استمرار أنظمة الحكم الوراثي ، في العالم العربي وحده دون سواه من دول العالم ، في كل السلطات المتعاقبة بعد مرحلة الخلفاء الراشدين ، في دولة الخلافة أو في الدويلات المتفرعة عنها أو في أنظمة الأحزاب والجماعات والقبائل المعارضة حتى لو لم تكن حاكمة. ولم تأت الانقلابات العسكرية في دول الاستقلال إلا لتكرس الموقف ذاته المعادي للديمقراطية وتداول السلطة في العالم العربي ، ولتشوه معنى الثورة .
قرنان من الزمن إذن ، أي قرنان من معاندة التاريخ ، بل قرنان من خروج العرب من التاريخ ، إلى أن أتت باكورة أحداث كبيرة في تونس ومصر لتعلن نهاية عصر الانقلابات العسكرية والبيان رقم واحد ، ولتعيد الاعتبار لفكرة الثورة بما هي تغيير جذري في بنية المجتمع والدولة ، ولا سيما في بنية النظام السياسي ، تغيير يفسح في المجال أمام الانتقال إلى مرحلة الديمقراطية وحكم الشعب، أي إلى بناء دولة القانون والمؤسسات والكفاءة وتكافؤ الفرص والعدالة والحرية والفصل بين السلطات، الخ…
جربت المنطقة العربية كل الأجوبة : الإسلام هو الحل ، فكان تطبيقه في الجزائر حربا أهلية وفي السودان تقسيم البلاد وفي إيران وأفغانستان كل صنوف إلغاء الرأي الآخر؛ الوحدة القومية هي الحل ، فكانت تجربة الوحدة الطوعية بين مصر وسوريا ، وتجربة الإلحاق القسري للبنان بسوريا أو للكويت بالعراق ، مليئة بالمآسي ، ؛ الاشتراكية هي الحل وقد انهارت التجربة في البلد الأم لتنهار بعده كل التجارب التي استلهمتها. والمشترك الأساسي في كل تلك الحلول هو مجافاة الديمقراطية ووضع بلدان العالم العربي أمام خيارين ، الاستبداد أو الحروب الأهلية أو التقسيم. من العراق شرقا حتى الجزائر، ومن لبنان شمالا حتى اليمن : المصائر ذاتها : إما تأبيد أنظمة الحكم ، حكم الطوائف والقبائل والتوريث وإما الحروب الأهلية ، إلى أن جاءنا الجواب الشافي من مصر وتونس : الحل في الديمقراطية .
لم تصنع الثورة الفرنسية سلاما أهليا ، بل وضعت أسسه . غير أن الحضارة الرأسمالية احتاجت إلى حربين عالميتين على الأقل لتقتنع بأن الديمقراطية ليست فحسب صناديق اقتراع ، بل هي قبل ذلك تكافؤ فرص في تحصيل الثروة وفي تحصيل المعرفة ، وهي عدالة لا تقوم إلا على الفصل بين السلطات وعلى تداول السلطة ، الخ. كل ما نطمح إليه ألا يحتاج العالم العربي إلى ردح طويل من الزمن ولا إلى مآسي حروب أهلية ليقتنع بأن باب الدخول في التاريخ الحديث هو قيام الدولة الديمقراطية.
مقالات ذات صلة
“الشيعية السياسية” لمحمد علي مقلد، بين البحث والانطباع
النخب اللبنانية بعد سوريا
الاستبداد القومي