23 نوفمبر، 2024

أيها المتضامنون: هذه الثورة قامت ضدكم

   ما يجري في تونس ومصر كان ينبغي ، حسب منطق التاريخ الحديث ، أن يحصل قبل ذلك ، في مرحلة الاستقلالات أو قبل ذلك ( مع مجيئ نابليون إلى مصرمثلا). فما طرحه التاريخ على الأمة العربية وعلى سواها من دول العالم هو أن الحضارة الرأسمالية الزاحفة للتمدد على كل الكرة الأرضية ، وبعد ذلك نحو أعماق البحار وإلى أعالي السماوات ، هذه الحضارة  عرضت علينا ، نحن العرب كما على سوانا ، الدخول إلى رحابها  ، بالقوة والاحتلال المباشر كما في الهند أو في الصين ، أو بالسلم والحذو حذوها كما في اليابان.

العالم العربي اختار أن يرد سلبا على هذا العرض ، رافضا الدخول في التاريخ الحديث ، وكانت له مبرراته وذرائعه ، وعلى رأسها الاستعمار والصهيونية ، الذريعتان اللتان باسمهما مارس الحكام العرب كل صنوف القهر والاستبداد في حق شعوبهم . ثم جاء ما يتناغم مع الذرائع حين قامت الثورة البلشفية الاشتراكية التي دعت إلى محاربة الرأسمالية وإلى بناء النظام الاشتراكي على أنقاضها ، ثم حين قامت الخمينية لتعلن الحرب على الشيطان الأكبر.

ما يجري اليوم في مصر وتونس ، وما سيحصل في سواهما بقوة التاريخ ، هو نقد ذاتي قاس لمرحلة عدت ناصعة في تاريخنا ، لكنه ليس نقدا انقلابيا على طريقة أصحاب القبعات العسكرية ولا على طريقة العمائم ، إنه نقد يحفظ  لعبد الناصر مجد نهوض عربي عارم ، ولليسار مجد تضحيات من أجل القيم الكبرى ، وللحركة القومية العربية بناصرييها وبعثييها وشيوعييها وإسلامييها مجد مواجهات كبرى مع ” الاستعمار والصهيونية والرجعية” .

النقد التونسي المصري لا ينقلب على هذه الأمجاد ، بل على الاستبداد الذي مورس بحق الشعوب العربية باسم هذه الأمجاد. ذلك أن باب الدخول في الحضارة الحديثة ، إن جاز اختصاره في كلمة، هو نهاية عصر التوريث السياسي ، نهاية عصر الممالك والأمبراطوريات والسلاطين ، وبداية عصر الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان ، ومن المؤسف أن تكون مرحلة الأمجاد الناصرية القومية اليسارية قد تأسست على حكم التوريث والقضاء على بذور الديمقراطية الفتية في حينها.

العالم العربي ظل وحده على الكرة الأرضية محكوما بالوراثة . حتى في الأنظمة التي كانت تعتمد الانتخابات كان يتم اختيار الحاكم فيها بالوراثة أو بالتمديد أو بالتجديد ، أو بانقلاب الشقيق على الشقيق والضابط على الضابط والمعمم على المعمم ، أسماء مختلفة لمسمى واحد هو التمسك بسلطة “إلى الأبد “، سلطة كتبت أبديتها بأحرف من نار وحبرها من دماء الشعوب وعرقها. انظروا إلى الأمة من المحيط إلى الخليج ، فيها أكبر المعمرين من الحكام ، فيها عميد الحكام في العالم ، وحكامها يخيرون شعوبهم بين اثنين : إما حكمهم الأبدي إما الحروب الأهلية.

ذريعتنا ، نحن شعوب الطوق ، إسرائيل . لنقل جدلا ، نعم . إسرائيل التي تتجسد فيها كل قبائح التاريخ السياسي ، العنصرية والتوسعية والعدوانية والشوفينية والإجرام ، الخ . لكن ما علاقة إسرائيل بإمعان حاكم السودان في تفتيت بلده أو في إمعان الصومال في التقهقر نحو القرون الوسطى ، أو في اليمن حيث الرغبة جامحة في التمسك بالبداوة والقبيلة والعشيرة على حساب القانون، أو في الجزائر والصومال والسودان والعراق حيث الحروب الأهلية هي الخيارات الوحيدة المتاحة أمام الشعوب ، إذا لم يبق الحاكم حاكما . حتى الحرب الأهلية في لبنان هي بنت هذا العقل ذاته ، عقل الاستبداد الأبدي الذي يمارسه علينا سياسيون خارجون على كل قانون، عقل الاستبداد العربي الذي لم يرضه أن تقوم ديمقراطية في هذا الشرق وتهدد عروشهم الموروثة.

في مصر ، كما في تونس ، لم ترتفع راية من تلك التي كانت ترتفع في المظاهرات اليسارية أو القومية أومظاهرات الإسلام السياسي ، لا الاشتراكية هي الحل ولا الإسلام هو الحل ولم نسمع تنديدا بأحد أو بدولة خارجية . مسألة واحدة جمعت الثوار : الحرية ودولة القانون والمؤسسات.

في مصر ، كما في تونس ، لم نلحظ تنافسا على مسرح الأحداث ، بل قيادة مستترة تشبه تلك التي وجهت الثورة الفرنسية ، قيادة قد تكون مغمورة وقد تكون مخضرمة وقد تكون متعددة المنابت، لكنها طالعة بالتأكيد من شعور عارم بالوحدة الوطنية ، أي بالانتماء إلى وطن هو تونس ، وهو مصر ، وفي غمرة هذا الانتماء تذوب الفوارق والاختلافات كلها من أجل هم واحد أوحد : دولة عصرية تعلن نهاية عصر التوريث السياسي.

في مصر ، كما في تونس ، تجمع وعي سياسي جديد ، بالفيسبوك والنضال الإلكتروني وليس بمكبرات الصوت والسبابات والخطابات الحماسية والشحن العاطفي الشوفيني ضد عدو خارجي . بل إن الثورتين عزمتا ، لأول مرة في تاريخ الأمة العربية ، أن تصوبا على عدو ، بل على خصم داخلي ، ولأول مرة في تاريخنا  تعلن جماهير بمئات الآلاف سأمها من الخطاب الأجوف الذي يقوم عصبه على نظرية المؤامرة ، وإصرارها على أن الأزمات ذات أسباب داخلية بالدرجة الأولى وأن حلولها ينبغي أن تبدأ من الداخل.

إنها إذن ثورة من أجل الديمقراطية ، غابت عنها الشعارات الكبرى المتعلقة بالقضية الفلسطينية والصراع مع الاستعمار والإمبريالية . إنها ثورة بسيطة تختصر مطالبها بتأسيس دولة عصرية تقوم على تداول السلطة : دولة القانون والمؤسسات والعدالة والكفاءة وتكافؤ الفرص ، الخ.

الذين يتضامنون مع الثورتين التونسية والمصرية، خارج تونس ومصر، يسقطون عليهما مفاهيم وأهدافا من خارج سياقهما ، وأحيانا يقيسونهما بعكس ما يريده أهل الثورتين، وقد ظهر ذلك التضامن خجولا أحيانا وسافرا أحيانا ، لكنه تضامن لم يعبأ به اهل الثورتين ، بل لعل من غير المبالغة القول إن بعض هذا التضامن كان مسيئا للثورة وعده الثوار مساسا بالسيادة الوطنية وتدخلا في الشؤون الداخلية ( التضامن الإيراني  والتصريحات الأميركية وبعض التضامن اللبناني مثلا).

هي ثورة جديدة حقا ، بل هي الثورة الوحيدة الحديثة التي قامت في كل أنحاء الأمة العربية .كل ما عداها وما سبقها من “ثورات” لم يكن سوى انقلابات عسكرية أو عمائمية كما حصل في إيران الخيمينية ، ذلك لأن الثورة تعني أول ما تعني ، ليس فقط تغيير الطقم الحاكم ، بل تغييرا في النظام الاقتصادي الاجتماعي ، ومن باب أولى تغييرا في بنية النظام السياسي، وقد تكون هذه الانقلابات قد قامت بتغييرات كثيرة لكنها جددت أنظمة الاستبداد وضرب الديمقراطية .

 إنها ثورة جديدة حقا لأنها تفتح الآفاق واسعة أمام انتقال بلدان الأمة كلها من أنظمة الوراثة إلى أنظمة ديمقراطية . ذلك يعني أن هذا المجد لا يستحقه إلا الديمقراطيون ، أفرادا وأحزابا وأنظمة . أما الأحزاب الشمولية المعادية للديمقراطية ، وأنظمة الحزب الواحد ، وأنظمة قمع الحريات فلا يحق لها حتى التضامن مع الثورتين ، لأنهما ثورتان ضد الاستبداد ، ضد كل أنواع الاستبداد السياسي والديني والعسكري الخارجي والداخلي ، أي ضد من يتضامن معها من هؤلاء المستبدين.

وحده جيل الشباب هو صاحب الثورة ، ولن يسمح بأن ينضم إليه إلا من عمل على تنظيف سجله الاستبدادي بالنقد الذاتي الشجاع للمرحلة القومية الشوفينية البعثية والناصرية والشيوعية والإسلاموية.