24 أبريل، 2024

فنية الشعر العامي الشعبي في لبنان

1995 مساهمة في مؤتمر الشعر العامي اللبناني

ما أتلوه عليكم ليس بحثاً، إنه وجهة نظر فحسب منحازة إلى الشعر راغبة في استعادة مجده

“فنية الشعر الشعبي ” عنوان ينطوي على رغبة في رد تهمة عن الشعر الشعبي تقلل من فنيته. فهل ينتمي هذا الشعر إلى قائمة الفنون وإلى عائلة الشعر؟ لسنا نحنا الباحثين الأقدر على تصنيفه. أولى منا بهذه المهمة هي الذاكرة الشعبية والذوق العام.

الاحتفال الذي لا شعر فيه يخلو من الرونق والخطبة التي لا تستنصر بالشعر تبقى جافة. الشعر تاريخنا ، ونحن الذين نزور التاريخ بأيدينا. الشعر مجدنا ونحن الذين نحطم هذا المجد، باسم القيم المستحدثة والعلم والتكنولوجيا، وكأن هذه نقيض الشعر. حتى بتنا ننعت المواقف غير الواقعية بالشاعرية، وغدا الشعر مذمة ونقيصة في مخيلة من يشتغلون بالأرقام والخطوط الهندسية والكمبيوتر، وفي ذهن من يعملون في حقل السياسة أيضاً، لأن السياسة بدورها تنظيم حسابات وإن حسابات مصالح.

الحقيقة أن هذه المحسوبة نقائص للشعر، حين تتآلف وتتسامى وتتجاوز الحدود المعروفة للعقل، تصبح كأنها الشعر. مكوك الفضاء والكمبيوتر والعقل الإلكتروني وآخر فنون العمارة، كل ذلك هو الشعر ينظمه العلماء بغير اللغة. جنة الأنبياء هي الشعر النبوي الإلهي، لا تجذيفاً بل تمجيد لهذا الخيال الخلاق.

الشعر هو كشف الغيب واختراق المجهول والتحليق فوق الواقع. هو البحث الدائم عن الحقيقة، وما يعيبه أن يكون بالحدس، إذا كان الحدس هو العقل أو العلم الكامن فينا، نحسه ولا نعرفه. هو لحظة يحتك فيها إحساسنا الداخلي بحقيقة ما ونعجز عن إثباتها بالعلم والعقل. هو إذن هذه اللحظة السابقة على العلم التي لها فضل الريادة  والاكتشاف بالحس السليم ورهافة المشاعر.

لا بدعة إذن إن قلنا عن أي اكتشاف عظيم أنه شعر. فالعالم المكتشف يلاقي الشاعر في نقطة التألق ذاتها وإن سلك في سبيلها طريقاً أخرى غير الحدس أو حدساً آخر غير حدس الشاعر.

الشعر إن لم يكن ذكرى وعاطفة     أو حكمة فهو تقطيع وأوزان

لا نوافق أحمد شوقي على هذا التعريف، فهو قليل بحق الشعر، وإن وافقناه على أن الشعر ليس فحسب تقطيعاً وأوزاناً. أجمل تعريف قيل في الشعر بعدما اختلف النقاد حول المبنى والمعنى، الشكل والمضمون، اللغة والمحتوى، قدمه لنا الجرجاني بقوله، “الشعر هو صورة المعنى أو هو معنى المعنى”. والشاعر، على ما يقول شوقي بزيع، “يومئ للمعنى ولا يقربه، والذي يكتبه يحجبه”.

صورة المعنى لا تقول المعنى، إذن، بل تقول سواه، أو هي إن قالته أحالته إلى سواه؛ الزجل، بهذا المعنى، أكثر وفاءً للسر الكامن في حرفة الشعر. فقد حافظ على عناصره الجمالية الفنية القادمة إليه من تراث طويل وتقاليد عريقة تمتد وراءه مئات السنين، وها نحن نراه يتناسل اليوم عبر أجيال جديدة من الشعر الشعبي، إن أمعنّا النظر فيها نتبين ملامح الآباء والأجداد.

نقول ذلك وفي ذهننا صورة عن شعر الفصحى غير مشجعة. فهذا الشعر كان عاقاً بحق أصوله، حين أصيب من داخله بفقدان المناعة ضد التطور المباغت، أو بالأحرى الانقلاب، انقلاب الأحفاد على الأجداد والتنكر لكل الروابط الرحمية التي تجمع هؤلاء بأولئك.

في الزجل خيط من الانسجام في تاريخه، من المواويل والموشحات إلى الشعر العامي، وهذا ما لم نرصده في شعر الفصحى، حيث أدى الانقطاع المفتعل إلى موت الشعر ما خلا عدداً من الشعراء الأصيلين الذين تمردوا على هذا الانقطاع وتواصلوا مع تراثهم وتناسلوا منه تناسلاً طبيعياً.

الشعر صورة المعنى، وهي في علم البلاغة تشبيه واستعارة ومجاز وكناية، وهي في علم البديع إيقاع يستدرج الثروة اللغوية وأصوات الحروف واللعب بالكلام  لعب المحترف، ولسنا نجد اليوم في أحدث أنواع الشعر صوراً أخرى تقول المعنى، بل للدقة، بتنا نرى صوراً تقول اللامعنى فتبتعد بالمعنى الشعري المجازي عن المعنى الاصطلاحي ابتعاداً يفقد الطرفين أي رابط منطقي أو حدسي.

الزجل، من هذه الزاوية، أكثر فنية من شعر الفصحى الحديث أو من معظمه، لكونه قادراً على الاستفادة من الثروة الفنية التي تختزنها تقاليدنا الفنية ولغتنا، وربما يعود السبب في ذلك أيضاَ، بحسب رشيد نخلة، إلى “أن الأدب العربي إنما يترجم خواطره ترجمة، أي على عكس الشاعر العامي الذي يلقي فكرته إلى لسانه من دون حاجة إلى الترجمة، إذ إنه يفكر باللغة التي يكتب بها، أما الأديب العربي فهو يفكر بالعامية ويكتب بالفصحى”

فضلاً عن ذلك، استفاد الزجل من نزعة التحرر ومن قيود الوزن والقافية، ودفع بهذه العملية إلى آخر مداها، مجيزاً لنفسه ما يجوز لشعر الفصحى حتى غدا أمام إمكانات لغوية مضاعفة وطاقات موسيقية وإيقاعية لا تحد. لكنه حافظ على الخيط الجامع بين ابتكاراته المستحدثة والذاكرة الشعبية التي تختزن القيم الفنية والمعايير الجمالية.

على صعيد الصورة، من الطبيعي أن يتعامل الشعار مع التشبيه والاستعارة والكناية والمجاز، وهي الصور الوحيدة المرصودة في البلاغة قديمها وحديثها، أن يتعامل معها كمخلوقات حية خاضعة للتطور. التطور معناه أن تساير الصورة تطور العقل وقدرته على التخيل، أي أن تجاري تطور الوعي البشري للواقع بما هو واقع مركّب ومعقّد، فترتقي من مستوى البديهيات التي لا تقدم جديداً إلى مستوى أعلى يومئ للمعنى ولا يعقّده. هذا ما فعله، على سبيل المثل، شاعر الفصحى محمد الماغوط، حين اكتفى من أنواع الصور بأقلها تعقيداً، أي التشبيه، ومضى في ابتكاراته، من داخل هذا النوع البسيط من التصوير، ليخط منحى تجديدياً مميزا في تجربة الحداثة.

مثل هذا التجربة في الزجل متوفرة بكثرة في أعمال  الزجالين اللبنانيين. يقول خليل روكز:

لكن شرع أكفرْ وإندمْ يا صبي                  هيدا جرم مشهود ما بدو شهود

أتقل من تياب الخطية عالنبي                    ومن رهجة الجوهر على عين الحسود

المقارنة سهلة مع تشبيهات الماغوط:

“- الاستغاثات مصطفة في حنجرتي كالمجاذيف

  – الأرصفة التي أعبرها تلفظ خطواتي كالدواء المر

 – إليك هذه الأضافر المدخرة في نهاية الأصابع كأموال اليتامى

 – منذ كانت رائحة الخبز شهية كالورد

كرائحة الأوطان على ثياب المسافرين

وأنا أهرع كالعاشق في موعده الأول لانتظارها

لانتظار الثورة التي يبست قدماي بانتظارها

من أجلها أحصي أسناني كالصيرفي

أداعبها كالعازف قبل فتح الستار”

 يقول أسعد السبعلي:

يا دير يا مهجور شو عندك خبار               الأجيال عشبابيبك السمرا غبار

وزعلول الدامور:

حبة الماس بعلبة ما رح بتفيد                    جايبلك حبة قلبي هدية للعيد

وعبد الجليل وهبي:

يا مفارق الحي مالو منحني عودك

من كتر نوحك خنق صوت الوتر عودك

يا ريت يسمح زماني وبالدوا عودك

يا ما بكيت ولنوحك ما كنت بالي

حتى غرمك شغل قلبي وشغل بالي

ويا ريت تعلم قبل ما تشوفني بالي

إني حبيبك متل قشرك على عودك

وقول زين شعيب:

عملت هبوب الريح حصان

ويقول الرحابنة:

عالبوابة في عبدين             الليل وعنتر بن شداد

ويقول جورج خليل:

كيف بيقدر هالزنار            يطول بالو عاخصرك

ويقول موسى زغيب:

حتى تغطي الذهب مش رح بجبلك جوخ          رح قص شقفة سهر من شرشف ولوعي

أو :

كترة ما فيك تغنيت                      زهر إسمك علساني

أوردت هذه الأمثلة التي يزخر بها الزجل اللبناني لأقول إن الشعر الشعبي استفاد من الثروة الغنية المتوافرة في تراثنا من أدوات التصوير الفني وعكف على تطويرها من دون أن يقع في ما وقع فيه شعر الفصحى من قفزة مفاجئة قطعت حبل الصرة الفني مع التقاليد واستعابت القربى من التراث.

أما على صعيد الإيقاع فقد جال الزجل وصال وابتكر ونوّع وجدّد. من يقرأ مقدمة أمين نخلة لديوان رشيد نخلة يجد بين يديه عدداً هائلاً من الابتكارات. فقد زيد على أنواع المعنى كل ما أمكن أن تستوعبه فكرة الموشحات: المعنى العادي وفيه المطلع والردة والشرحة والخرجة والمعنى”المخرّج”والردف المطوّل والمذيّل المقلوب؛ ومن الزجل البدالي وفي الردف والمقصّد ومنه الموشح والقصيد المستقل والقصيد التابع؛ وتحت الزجل ستة فنون: المهمل والمنقّط والمرصود والمجزّم والألفيات والقرادي وهي بدورها، القلاّب وكرج الحجل مشي الست والمطبق والشلوقي والكناري والمسجع ودق المطرقة والمربع والمجوز والشوفاني والشوفاني القديم ونقلة العروس والمربوط والرباعي والثماني والستعشري، ومن الزجل الحدا والرويد  طويله وقصيه، والحوربة أو الهوبرة، ومنه الزغاليط والندب على أنواعه، ومنه العتابا والميجانا وأبو الزلف والشروقي والموال البغدادي، والباب مفتوح على ابتكار أنواع جديدة وعلى استخدام إيقاعات جديدة ليس آخرها الشعر الحر.

في الإيقاع، كما في الصورة، استخرج الزجل من ثروة اللغة إمكانات كبيرة وتيسر له، أكثر من شعر الفصحى، أن يلعب بالكلام ويتفنن باللغة بسبب مرونته البالغة في استخدام اللهجات المحلية وإبدال الحروف وقلبها وتسكينها والقدرة على استنباط الجناس وتكرار الإيقاع والإيقاع المقلوب وأمثلة ذلك كثيرة أهمها المخمس مردود للرحابنة:

               باب البوابة بابين          قفولة ومفاتيح جداد

عالبوابة في عبدين         الليل وعنتر بن شداد

صحرا وقافلتين ودار      العاشق غط العاشق طار

نغمة ونار وعوادين        عوادين ونغمة ونار

               ونارين ونغمة وعواد

وللشحرور:

                 لما النهر زرعتو دياب      شعرو شاب وخاف الدهر

خاف الدهر وشعرو شاب  لما دياب زرعت النهر

بلوح ومسمارين وباب   سبع الغاب حبستو شهر

حبستو شهر لسبع الغاب  بمسمار وبابين ولوح

            وباب ولوحين ومسمار

الأمثلة على استنباط هذه الأدوات الإيقاعية لا حصر لها. والفضل للزجل على الفصيح، في هذا المجال، لأن الشعر يكتسب قيمته عبر الإلقاء من موقع ارتباطه وثيقاً بالغناء. حتى الفصيح منه نشأ في ظل هذه الشروط فكان يقال فلان ينشد الشعر.

يقول المتنبي:

أجزني إذا أنشدت شعراً فإنما               بشعري أتاك المادحون مرددا

ودع كل صوت غير صوتي فإنني         أنا الطائر المحكي والآخر الصدى

وما الدهر إلا من رواة قصائدي            إذا قلت شعراً أصبح الشعر منشدا

 ولا يزال الزجل حريصاً على ربط الشعر بالإنشاد والغناء والإلقاء، باحثاً عن منبر وجمهور، بينما ابتعد معظم الفصيح عن المنبر بحجة أن الحديث منه كتب ليقرأ لا ليتلى وراح يبحث عن مطبعة ودور نشر، لكن  لا قراء ولا من يطربون.

الزجل أخيراً  حوصر بظروف صعبة بسبب تحويل واقع الفصحى والعامية إلى موضوع صراع سياسي، وحشر الشعر الشعبي افتئاتاً وافتعالاً في خانة العداء للغة القومية والوحدة العربية. سامحهم الله، ما كانوا ارتكبوا هذه الخطيئة لو سمعوا رشيد نخلة يقول:”قوميات الشعوب لا تستبقى إلا باستبقاء تقاليدها”. وأظنهم لن يرتكبوها مرة أخرى بعد أن أثبت الشعراء في الفصيح والزجل أنهم المدافعون الحقيقيون عن وحدة بلدهم ضد الطائفية وشرورها وضد الانقسامات المذهبية، وأنهم على اختلاف مشاربهم لا يزالون يشكلون، في ما يكتبون، لحظة فرحنا وأملنا بمستقبل مشرق وفي وطن حر سيد مستقل.