16 سبتمبر، 2024

قاسم قصير والعنف الديني


محمد علي مقلد
(Mokaled Mohamad Ali)

  
الحوار المتمدن-العدد: 8085 – 2024 / 8 / 30 – 11:26
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني

https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=840658

قاسم قصير والعنف الديني
أطروحة لنيل شهادة دكتوراه

ليس سهلاً أن تكتب نقداً في أطروحة عن العنف الديني إذا كان كاتب الأطروحة هو الصديق قاسم قصير. بتعبير آخر، ليس سهلاً أن تضع تقويماً لأطروحة أكاديمية كتبها الصديق قاسم قصير خصوصاً إذا كان موضوعها “العنف الديني بين النصوص المؤسسة والمتغيرات السياسية والاجتماعية من الخوارج إلى تنظيم داعش”.
في حالة كهذه لا تعرف من أي وجه تأتي الصعوبة وعلى أي وجه يمكن تدبر الأمر. استعنت بالصدق لأقول كلاماً يخلو من المجاملات ولا يخدش الصداقة، واستعنت بمنهج صارم في قراءة الرسائل الجامعية. ربما كنت وحيداً بين زملائي في كلية الآداب في الجامعة اللبنانية في رفضي أطروحات ورسائل، طالباً من أصحابها العودة إلى نقطة الصفر وصياغتها من جديد.
لم تنقطع صداقتنا، هو من موقع التزامه الديني وأنا من موقعي اليساري، منذ كنا زميلين في إطار الهيئة الإدارية للمجلس الثقافي للبنان الجنوبي في منتصف التسعينات. تزامن تعارفنا مع صدور عدد من مجلة الطريق كان لي فيه بحث طويل عن الأصوليات الإسلامية، حمل نسخة منه وقدمها إلى السيد محمد حسين فضل الله، ضممته لاحقاً إلى أبحاث أخرى عن الأصوليات اليسارية ونشرتها في كتاب يحمل عنوان “الأصوليات- بحوث في معوقات النهوض العربي”.
في ذروة تطرف الأصوليات ووحشية داعش، نشرتُ في جريدة المدن مقالة عنوانها “تعليق الدين”، بادر الصديق قاسم إلى تنظيم نقاش حولها في لقاءين، أحدهما في مقر السيد علي فضل الله. مهّد للنقاش بالقول، العنوان مثير وصادم لكن المقالة لا تقصد تعليق الدين بل تعليق العمل بالآيات التي تدعو إلى القتل وسميت بآيات السيف. أحد رجال الدين المشاركين في اللقاء رأى أن تعليق العمل بها لا يكفي، وأن مجازر داعش توجب حذفها من القرآن. إلى هذا الحد وصلت ردة فعل بعض الفقهاء على جرائم التطرف الديني.
لم تتراجع وتيرة نشاطه منذ تعارفنا، فهو حاضر في كل اللقاءات والمؤتمرات التي يتم فيها تلاقح الأفكار وتبادل الآراء. إن أنس لا أنسى يوم دعاني إلى حضور لقاء تحدث فيه السيد محمد حسن الأمين عن العلمنة والدولة المدنية، كيف انبرى فتى متعصب بين الحاضرين، ولم يتورع عن اتهام المحاضر ذي القامة العلمية المرموقة بالخروج على مبادئ الإسلام. إلى هذا الحد وصل التطرف والتعصب ليرمى الرأي المختلف، حتى لو كان من الفقهاء، بتهم أدناها الردة والكفر.
الدكتور قاسم قصير خاض غمار موضوع شائك لم تجد أسئلته المعقدة في بلادنا أجوبة حتى الآن، بدءاً من أسئلة التشخيص. هل هي أزمة الدين أم تسييس الدين؟ هي أزمة النص أم أزمة قرّائه؟ أزمة المعاني أم أزمة تأويلها؟ أزمة التاريخ أم الخروج من التاريخ؟
الأطروحة من مقدمة وخمسة فصول. أوجزت المقدمة ما عرضته الفصول بتفصيل. فهي “محاولة للبحث عن الأسباب الحقيقية والعميقة للعنف الديني وعن جذوره”. وهي محاولة للإجابة على أسئلة طرحها انتشار ظاهرة العنف، وعن علاقة النصوص الدينية المقدسة بنشوئها، وعما إذا كان الحوار الإسلامي المسيحي قد نجح في مواجهتها أم أنه كان مجرد “وسيلة لحماية الشباب من الانجرار وراء العنف والتطرف”؟
الأسئلة التي تكونت منها الإشكالية في الأطروحة هي: ما طبيعة علاقة الأديان بالعنف؟ هل الأديان هي المسؤولة عن العنف؟ أي دور للنصوص الدينية بظاهرة العنف؟ ما هو دور الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية في نشوء هذه الظاهرة وتطورها ؟
الإجابات المحتملة صاغها على شكل “فرضيات”،(هو يقصد احتمالات أو افتراضات): الأولى، للعنف جذور داخل النصوص الدينية، الثانية، للعنف جذور خارج النصوص، الثالثة خليط بين الفرضيتين، الرابعة، جذورها الأساسية تكمن في غياب دولة المواطنة، معتمداً في بحثه على ثلاثة مناهج، الوصفي والتاريخي والتحليلي- التفسيري- التأويلي.
إضافة إلى كل ذلك، وكما في كل بحث أكاديمي، عرض للصعوبات والمعوقات، ومنها “الالتزام الديني لدى الباحث”، ما قد يتعارض مع الموضوعية المطلوبة في أي بحث علمي عن الحقيقة؛ واستعراض للمراجع والمصادر، ما يتعلق منها بالكتب الدينية والنصوص المتعلقة بالعنف، ومنها ما يتعلق بكتب عن العنف والإرهاب، وقسم ثالث يتعلق بالإصدارات الخاصة بتنظيمي القاعدة وداعش، وقسم رابع يتعلق بما نشر عن هذين التنظيمين من كتابات، وقسم خامس عن الأبحاث والدراسات الصادرة عن الحوار الإسلامي المسيحي، وسادس عن كتب ودراسات تحلل ظاهرة العنف والعنف الديني وتفسرها.
تناولت الدراسة في فصلها الأول المصطلحات المتعلقة بظاهرة العنف وأشكال التعبير عنها، الجسدية والنفسية، “وصولاً إلى الإرهاب السياسي والديني” المنتشر منذ أوائل القرن العشرين حتى أيامنا، ولاسيما المستند إلى مسوغات دينية والمرتبط بالمقدسات الدينية. في الفصل الثاني عرض للظروف والأسس الفكرية التي أنجبت التيارات التكفيرية ولاسيما منها الخوارج وإبن تيمية والوهابية. في الثالث استعراض لتطور هذه الحركات من القاعدة حتى داعش. في الرابع استعراض لعلاقة الأديان بالعنف عبر التاريخ، وفي الخامس بحث في كيفية مواجهة التطرف ولاسيما من خلال الحوار الديني الديني.

مساع صادقة وأرض قاحلة

قاسم قصير ملتزم دينياً منذ نعومة أظافره، أي أنه، بالتعبير اليساري،”مناضل” فكرياً فحسب، مؤمن لم يدفعه إيمانه إلى الانخراط في “الجهاد” العسكري مع التنظيمات الإسلامية المتطرفة. نشأ على قيم دينية ترى في الإيمان دعوة إلى المحبة والتسامح وفعل الخير، وهذه الدعوة ليست حكراً على الدين الإسلامي وحده بل هي موجودة في المسيحية أيضاً. لذلك وجد نفسه عضواً ناشطاً وفاعلاً في كل هيئات الحوار الإسلامي المسيحي وفي كل اللقاءات والندوات والمحاضرات والمؤتمرات المنعقدة تحت عنوان الحوار بين الأديان والتي تسنى له المشاركة فيها.
في مدرسة الإيمان هذه تعلم الاعتراف بالآخر واحترام الرأي الآخر والحق في الاختلاف. “ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة”(هود 118)، “وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ”(يونس 99)، ” وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً”،(النحل 93، إلى آيات كثيرة تقول بحرية الاعتقاد “لكم دينكم ولي دين”(الكافرون،6)، “فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ”(الكهف،29)، إلى أقوال أخرى منسوبة للصحابة أو الفقهاء كقول الخليفة عمر عن الحرية “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ؟”، أو قول الإمام الشافعي عن الرأي الآخر، “رأيي صَوابٌ يَحتَمِلُ الخَطأ، ورأيُ غَيري خَطأ يَحتَمِلُ الصَّوابَ”.
هذه النشأة هي التي حكمت، على ما أظن، طريقة صياغته الإشكالية، فاكتفى، عند النظر إلى ظاهرة العنف الديني، بالاستغراب، وبتفسيرها من زاويتين أوقعته كل منهما بخطأ منهجي، الأولى حجبت الآيات التي تدعو إلى القتل وتنسخ آيات أخرى عن الحرية والاعتراف بالآخر؛ والثانية حصرت المسؤولية عن العنف وعن التيارات التكفيرية، مصدراً وممارسة، في تنظيمات منشقة عن الشيعية الإثني عشرية أو في أخرى غير شيعية، من الخوارج قديماً حتى القاعدة وداعش حديثاً، مروراً بإبن تيمية وإبن القيم الجوزية وأحمد بن حنبل وأبي الأعلى المودودي وسيد قطب، والوهابية في السعودية وبوكو حرام في نيجيريا وطالبان في أفغانستان والشباب في الصومال.
الخطأ المنهجي الأول، في الزاوية الأولى، إغفاله مسؤولية النص، مع أنه أشار في عبارة يتيمة وردت في الأطروحة إلى تحميل” النصوص الدينية المقدسة المسؤولية الأساسية”، لكنها عبارة مقطوعة عن سياق يوزع فيه المسؤولية عن العنف الديني على عوامل وأطراف شتى من بينها الاختلاف على المفهوم والمصطلح(إرهاب، عنف، تطرف، تعصب) والظروف الدولية، وبالتحديد الغرب الذي “اخترع المقولة ليبرر احتكار العنف من قبل الدولة”، و”إرهاب الأنظمة الاستعمارية وغياب دولة المواطنة والعدالة في بلداننا”.
كان بإمكان الباحث قصير أن يعود إلى “معجم ألفاظ القرآن الكريم” كأحد مصادر دراسته ليجد فيه بسهولة كل الآيات المعروفة بآيات السيف التي وردت فيها عبارات القتل والتي اعتمدتها داعش وأخواتها ذريعة لممارسة وحشيتها واستعراض جرائمها على وسائل الإعلام، وهي آيات تدعو إلى قتل “المشركين والذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر”. وكان بإمكانه أن يعود إلى وقائع اللقاءين اللذين دعا إليهما لنقاش الموضوع، ليقيم حواراً بين مختلف وجهات النظر حول المسألة.
الخطأ المنهجي الثاني حصره المسؤولية عن العنف الديني بمذاهب دينية دون أخرى، مع أنه أشار، إلى عبارة أطلقها أدونيس، مفادها أن العنف ظاهرة مشتركة في الأديان التوحيدية، فاستفاض في الحديث عن العنف في المسيحية، من صكوك الغفران والمجازر ضد اللوثرية والكالفينية. ربما كان عليه، على سبيل الأمانة العلمية، لكي يؤكد فرضية أدونيس أو ينفيها، أن يبحث أيضاً في تاريخ الأديان غير التوحيدية.
يقول الدكتور قاسم قصير في إحدى خلاصات رسالته الجامعية، “إن ظاهرة العنف تاريخية وقديمة وليست مرتبطة بدين معين أو مجتمع أو مجموعة سياسية أو فكرية، بل ارتبطت بالصراعات الإيديولوجية والسياسية”. كأن هذه العبارة وضعت لتفسير عنوان الأطروحة “”العنف الديني بين النصوص المؤسسة والمتغيرات السياسية والاجتماعية من الخوارج إلى تنظيم داعش”.
إذا اعتمدنا قول الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار، أن التعميم عدو العلم، نستنتج أن ما ورد في أطروحة قصير عن قدم ظاهرة العنف وعن أوجه الشبه بين التنظيمات التي مارست التطرف من الخوارج حتى داعش هو مصادرة على المطلوب ويشكل عائقاً معرفياً، لأن مسوغات العنف الديني ليست “هي ذاتها في كل العصور”، ولأن عنف الخوارج ليس هو ذاته عنف داعش، إلا إذا كان وجه الشبه بين تنظيمات العنف المتعاقبة في التاريخ الإسلامي هو أنها غير شيعية وأنها كانت تستهدف الشيعة، وهذا ليس سوى مصادرة على المطلوب وكلام يغلب فيه السياسي على المعرفي.
العنف الذي أفرزته الحضارة الرأسمالية ليس هو ذاته العنف الذي ساد قبلها، وليس هو ذاته الذي ظهر على منعطف التحول من حضارة الخراج، بحسب تعبير سمير أمين، إلى حضارة ما بعد الثورة الفرنسية. إبن تيمية أيام الحروب الصليبية ليس كمحمد بن عبد الوهاب في مواجهة المشروع الرأسمالي الوافد على العالمين العربي والإسلامي من جهة الغرب، وليس كسيد قطب بعد نشوب الخلاف بين الديني والقومي.
ربما كان من المجدي لتوفير مزيد من عوامل الموضوعية في الدراسة العودة إلى مراجع أخرى حديثة في الدراسات الدينية من بينها النتاج الوفير الذي تركه باحثون من أمثال المغربي محمد عابد الجابري والجزائري محمد أركون والمصري نصر حامد أبو زيد والسوري محمد شحرور، ومن بينها كتاب من تأليف اللبناني الشيخ عباس الحايك عنوانه “سموم النص”، وكتابات الشيخ علي حب الله ولا سيما المقدمة التي وضعها لهذا الكتاب والأخرى التي وضعها لكتاب “أحزاب الله” لمؤلفه محمد علي مقلد. نقول ذلك انسجاماً مع إحدى الخلاصات الرائعة التي توصل إليها قاسم قصير في قوله، “إننا نحتاج دوماً إلى قراءات جديدة تأخذ بالحسبان تطورات الزمان والمكان وتطور العقل البشري، ولا بد من اعتماد النسبية في فهم النص الديني”.
لو قرأت رسالته قبل نقاشها في الجامعة اليسوعية لنبهته إلى هفوات منهجية كثيرة أوقعته فيها حماسته ضد العنف الداعشي. لو أقام مقارنة بين وحشية معاصرة وأخرى قديمة، فبماذا سيفسر دفن المعارضين أحياء على يد الحجاج بن يوسف ودفن الكفار أحياء أيام صكوك الغفران؟
هي وحشية لا علاقة لها “بالإيديولوجيا التي تشكلت في أفغانستان بعد الغزو السوفياتي” أو “بعد الغزو العراقي للكويت أو الغزو الأميركي للكويت”. ربما كان تفسير محمد الماغوط أكثر تعبيراً عن حقيقة هذه الوحشية، حتى لو كان جواباً شاعرياً، إذ يقول، “أنا قطعاً لم أكن موصولاً إلى رحمي بحبل صرة بل بحبل مشنقة”. الحرية هي الجانب المفقود، “المسكوت عنه”، في أطروحة قاسم قصير، بحسب المصطلحات النقدية الحديثة.
جانب آخر “مسكوت عنه” في الأطروحة هو علاقة الوحشيات، قديمها وحديثها، بالصراع على السلطة. خلال قرنين من مرحلة الصليبيين توالى على حكم بلاد الشام عدد من الولاة، معظمهم مات قتلاً أو تعرض لمحاولة قتل، بمن فيهم صلاح الدين الأيوبي. ثلاثة من الخلفاء الراشدين ماتوا قتلاً. محمد عابد الجابري كتب عن “المثقفون في الحضارة العربية” من الذين تعرضوا لأشكال عديدة من العنف، من بينهم إبن رشد وإبن حنبل. في العصر الحديث محاولة قتل نجيب محفوظ وقتل فرج فودة وقتل مهدي عامل والحكم بطلاق نصر حامد أبو زيد من زوجته، وأحالة الفيلسوف صادق جلال العظم والفنان مرسيل خليفة على المحاكمة، أليست هذه وسواها من أشكال العنف الديني؟
جانب ثالث مسكوت عنه هو علاقة العنف الديني بالسلطة. ربما كان غياب هذه المسألة عن بحث قاسم قصير الأكاديمي هو الذي جعله يتغاضى عن العنف الذي مارسته السلطات، دينية أو علمانية، ضد خصومها، ولا سيما في بلدان الانقلابات التي قادها ضباط متدينون أو علمانيون في العالمين العربي والإسلامي.
العلاقة بين السلطتين الدينية والسياسية تحتاج إلى أكثر من إشارة عابرة، لأنها، على ما أظن، بيت القصيد في موضوع البحث عن العنف الديني، والدليل أن العنف الديني توقف في بلدان طبقت الفصل بين السلطتين بعد الثورة الفرنسية، بعد أن ارتفع منسوب الحريات العامة وتضاءل دور المؤسسة الدينية في الحياة السياسية.
صحيح أن “العنف متجذر في النفس البشرية منذ قابيل وهابيل” ، وصحيح أيضاً أن “ظاهرة العنف تايخية وقديمة وغير مرتبطة بدين معين أو مجتمع أم مجموعة سياسية أو فكرية بل بالصراعات الإيديولوجية والسياسية” على ما يقول قصير في رسالته الأكاديمية، لكن هذا التعميم لا يلغي الفروقات بين أشكال العنف ولا بين الجهاد والنضال ولا بين حق الشعوب في تقرير مصيرها وحق الدولة وحدها في ممارسة العنف.
الصحيح الصحيح هو ما نص عليه بيان الأزهر الشهير وأورده قصير في أطروحته والقائل “إن كل الفرق والجماعات المسلحة والميليشيات الطائفية التي استعملت العنف والإرهاب في وجه أبناء الأمة هي جماعات آثمة فكراً وعاصية سلوكاً وليست من الإسلام الصحيح في شيء”
هذه المصطلحات مستحدثة في مرحلة جديدة من تاريخ البشرية، من أهم مميزاتها قيام كيانات وأنظمة سياسية جديدة لم تكن معروفة في الحضارات السابقة على الثورة الفرنسية. مصطلح الدولة قديم لكن مصطلح الوطن حديث العهد، لم يكن معروفاً لا أيام الخوارج ولا في مرحلة إبن تيمية أو أبي الأعلى المودودي. أول تنظيم ديني نشأ مع نشوء الأوطان هو الوهابية بالتزامن مع حركات “الإصلاح الديني” الأخرى في العالم العربي، السنوسية في ليبيا، المهدية في السودان، الكاشانية في اليمن، وغيرها.
على منعطف التحول من الحضارات الدينية، السماوية وغير السماوية، إلى الحضارة الرأسمالية، رفعت تنظيمات الإسلام السياسي شعار عودة الخلافة الإسلامية، واستهدف العنف، أول ما استهدف، الوافد الجديد، الوطن والدولة، وخاصمته باعتباره جاهلية جديدة، أو بمثابة عدوان على التراث والتقاليد والتعاليم الدينية.
داعش والقاعدة من سلالة دينية واحدة مع الخوارج، لكنهما ليستا من سلالة سياسية واحدة. الصراعات بين أطراف السلالة الأولى نشأت بسبب خلاف على التأويل والتفسير، أما الثانية فمارست العنف والإرهاب ضد خصومها واستخدمت الدين مطية لمواجهة العلمانية ومجابهة دولة القانون والمؤسسات.
أفرد الدكتور قاسم في متن أطروحته وفي ملحقاتها حيزاً كبيراً للحوار الديني ولتقريب وجهات النظر بين التيارات المختلفة داخل الإسلام الفقهي وداخل الإسلام السياسي، فعدّد “المؤتمرات والندوات والبيانات والنداءات واللقاءات الدينية والفكرية” والمواقف الصادرة عنها. من بينها مؤتمرات عقدت في مكة وبيروت والمغرب وتركيا وأربيل، ومواقف صدرت عن “تجمع العلماء المسلمين” والأزهر الشريف في مصر، وعن مرجعيات دينية متعددة. لكن المسكوت عنه في هذا المجال غياب أي نشاط من المرجعيتين الشيعيتين في النجف وقم، وتغييب وثيقة الفاتيكان الصادرة بعنوان “الإرشاد الرسولي”.
في رسالة الدكتور قصير الأكاديمية رسالة في الإصلاح الديني وردت في الخلاصة التالية:” في آخر الكلام، لا يمكن أن نتوقع نهاية للعنف الديني التكفيري في عالم اليوم، حيث يسود الظلم والطغيان والفساد والاستغلال. لكن مسؤوليتنا العمل للتخفيف من هذا العنف، عبر تأمين أفضل الظروف لقيام العدل وحماية حقوق الإنسان وكرامته والتأكيد على حرية العقيدة والإيمان أو ما سمي في بعض الوثائق “حرية الضمير”. وهذا يتطلب الوصول إلى أفضل العلاقة الحقيقية مع الله عز وجل ومعرفته حق المعرفة، بعيداً عن المفاهيم الخاطئة والتفسيرات الجزئية للنصوص الدينية والفهم الحقيقي لروح الأديان وأهدافها”.
في هذه الخلاصة وصفة طبية لعلاج مرض التطرف. نواقصها من نواقص التشخيص الذي حدد أسباب انتشار التطرف بعوامل شتى، تبدأ بالتنشئة الاجتماعية وتنتهي بالاحتلال الإسرائيلي، مروراً “بالظروف الاقتصادية والمواد التعليمية والتفسيرات الدينية الخاطئة والأزمات النفسية ودور مواقع التواصل وضعف الدولة والفجوة بين الشرق والغرب في تفسير التطرف وصراع الهويات بعد تعثر الربيع العربي واستغلال الدين في الصراعات السياسية والاستعمار وانتهاك حقوق الإنسان”
أثبتت تجارب الإصلاح الديني، من الوهابية حتى أحزاب الإسلام السياسي المعاصرة، مروراً بشخصيات مرموقة من أمثال جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده، أن الوصفات الدينية لم تنجح لحل أزمة الانتقال إلى الحداثة. لا شك في أن الحوار بين المختلفين هو شرط ضروري للحل لكنه شرط غير كاف. ربما يصير مجدياً حين ينعقد تحت شعار “حرية الضمير”، وهذه أعلى درجات الاعتراف بحق الاختلاف، ويكون بإشراف الدولة، دولة القانون والمؤسسات، كطرف محايد، لا بإشراف المؤسسات الدينية.