13 أكتوبر، 2024

صراع الغرب مع الشرق والمسيحي مع المسلم

29 كانون الثاني 2022

https://www.nidaalwatan.com/article/66939

يتعدد تفسير الصراعات في المنطقة بتعدد المصطلحات. فهي تارة صراع بين شرق وغرب، أو بين مسلمين ومسيحيين، أو هي تنافس أوروبي على وراثة تركة الرجل المريض، أو هي معارك خاضتها الشعوب ضد الاستعمار. في كل تفسير منها إشارة إلى جانب من الحقيقة. لكنها قصرت عن وضع تشخيص دقيق لمشكلات المشرق المزمنة.

هل حقاً هو صراع بين شرق وغرب؟ اليابان شرق وإيران الشاه شرق والمملكة العربية السعودية شرق؟ وماذا عن موقع مصر والشمال الأفريقي، وماذا عن كل أفريقيا وعن أميركا اللاتينية، وهي كلها دخلت في صراع مع «الغرب»؟ وماذا عن حرب الثلاثين عاماً وحروب نابليون، وهي محصورة بين أهل الغرب؟ وماذا عن كشمير وانشقاق باكستان عن الهند وبنغلادش عن باكستان، وماذا عن حروب الأفغانيين داخل أراضيهم وهي كلها بين أهل الشرق؟

الصراعات الدينية قد تكون صحيحة في مراحل التبشير، لكن الحملات الصليبية تعرضت للمسيحيين كما للمسلمين. وكيف نفسر حروب محمد علي باشا ضد الحركة الوهابية وهي حروب بين مسلمين، وكيف نفسر الحروب الدامية بين التيارات الإسلامية، ولا سيما بعد ظهور داعش، أو حرب عبد الناصر في اليمن، أو حرب العراق وإيران أو الصراع بين فتح وحماس؟

توزيع تركة الرجل المريض حقيقة واقعة. غير أنه لم يكن صراعاً على التركة، بل صراعاً قديماً مع صاحب التركة كان قد بدأ قبل قرون ودارت رحى معاركه إما داخل أوروبا أو بين الأساطيل في البحر الأبيض المتوسط؛ السلطنة كانت تتوسل الحروب للغزو وللحصول على الغنائم وفرض الأتاوات، والدول الأوروبية سعياً للحصول على المواد الخام لصناعاتها وعلى أسواق لتسويق منتجاتها. السلطنة كانت تمثل الحضارة الاقطاعية وأوروبا كانت تمثل الحضارة الرأسمالية.

تمكّن نموذج الثورة الفرنسية، بحسب هوبزباوم، «من القضاء على الكثير من الكيانات التي كانت معروفة في ظل الحضارة الإقطاعية، واختفت الدول- المدن، وباتت فرنسا تحكم القسم الأكبر من ألمانيا، إضافة إلى بلجيكا وهولندا ومعظم إيطاليا وإسبانيا، وجزءاً كبيراً من بولونيا، وشهد القرن التاسع عشر إعادة رسم الخارطة الأوروبية وزوال دول وولادة أخرى». الثورة الفرنسية عممت تجربتها داخل أوروبا عن طريق القوة، في البداية، أي باجتياح نابليون كل القارة، قبل أن يتراجع عن أبواب موسكو. ثم هزمته دول أوروبا وتبنت مشروعه، ثم عممته خارج القارة كمشروع حضاري جديد وأزاحت من وقف في طريقها مستخدمة كل وسائل العنف. مشروعها هذا لم يكن شيئاً غير الرأسمالية التي أطاحت بنمط الإنتاج الإقطاعي أو الخراجي بحسب تعبير سمير أمين، وبأنماط الإنتاج الأخرى في المجتمعات البدائية، ولا سيما تلك التي لم يكن لها تاريخ مكتوب، أي في أفريقيا وأميركا اللاتينية.

توسلت الرأسمالية العنف في مرحلة توسعها الأفقي، بالاحتلال المباشر. وقد بلغ العنف ذروته في حروب الإبادة واستئصال السكان الأصليين في أميركا، أو في استعباد البشر والمتاجرة بهم في أفريقيا. يخبرنا الآن بيرفيت في كتابه المعجزة في الاقتصاد أن اليابان تكاد أن تكون البلد الوحيد الذي وافق طوعاً على الدخول في الحضارة الجديدة فنجا من الاحتلال ومن عنف الحضارة الرأسمالية.

أما العالم العربي فقد شهدت علاقته بالحضارة الجديدة ثلاث حالات. خضعت للسيطرة الاستعمارية المباشرة كل من مصر وتونس والجزائر، فيما اكتفت بلدان أوروبا الرأسمالية بنقاط ارتكاز لها على طول الساحل من قناة السويس حتى الخليج العربي لتأمين الطرق البحرية لقوافلها التجارية والعسكرية نحو الشرق، ولم تحسب في عداد البلدان التي خضعت للاحتلال لا بلدان المشرق العربي ولا ليبيا والسودان والمغرب لأن تاريخ الوجود الاستعماري فيها لا يعود إلى أبعد من العقد الأول من القرن العشرين، أي قبيل الحرب العالمية الأولى بقليل.

حتى هذا التاريخ، لم يكن العالم العربي كله، بما في ذلك البلدان الثلاثة المستعمرة، في مواجهة مع الاستعمار بل مع التخلف. لم يكن سؤال التحرر من الاستعمار مطروحاً على جدول عمله في تلك الفترة، بل كان عليه أن يجيب على التساؤل النهضوي لماذا تقدم الغرب وتخلف المسلمون؟

السلطنة العثمانية تولت مهمة المواجهة مع الغرب الاستعماري ومنعت عن بلدان المشرق العربي الاحتلال الرأسمالي، لكنها منعت عنها أيضاً التفاعل مع حضارة جديدة دخلت بالتسلل عبر بوابتي لبنان الصغير ومصر محمد علي باشا.

الحركة القومية العربية فسرت الأحداث خارج سياقها ولم نميز بين العروبة كمشاعر تستحضر العصر الذهبي الأموي والعباسي، وبين مصالح الشعوب في بناء الأوطان، كما لم تميز بين الأمة بمعناها اللغوي القرآني والأمة بمعناها السياسي الحديث المرتبط بقيام الدولة الحديثة، الدولة- الأمة. بناء على هذا التفسير المغلوط وجدت أن الفرصة سانحة لبعث الأمجاد العربية القديمة، فاعترضت على استحداث الكيانات والأوطان ورأت فيها خطة لتجزئة الأمة والقضاء على وحدتها التاريخية، مستندة في ذلك إلى أن الأولية، في نظرها، هي للسلطة والأمة على الدولة. لذلك كانت أعمار الدولة الحديثة قصيرة، وشهدت نهاياتها مع الانقلابات في كل من سوريا والعراق ثم في مصر والسودان وليبيا واليمن، وليس من قبيل الصدف أن تكون عاصفة الربيع العربي قد هبت على هذه البلدان قبل سواها.

الربيع العربي، والثورة اللبنانية في صميمه، ليس سوى ثورة من أجل الديمقراطية ضد تخلف الأنظمة واستبدادها. كل تفسير آخر هو من باب الأخطاء الشائعة.